الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارل ماركس: الأيديولوجية الألمانية (3)

أنور نجم الدين

2010 / 2 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


4)

لو لم يصل العالم المتمدن إلى درجة معينة من التطور الصناعي (المانيفاكتورة، المنتجات الصناعية، العلوم، السوق العالمية) لما كان من الممكن اجتياز النقد الألماني للتاريخ، فبفضل شروط تاريخية جديدة، بفضل تقدم الزراعة، والتجارة، والصناعة، اجتاز البشر النقد الألماني الذي كان يهبط من السماء إلى الأرض. ولكن على النقيض من النقد الفلسفي الألماني، فالنقد التاريخي - الاقتصادي للإنجليز والفرنسيين، كان ينطلق من الوقائع التاريخية.

تتألف العناصر الأساسية للأيديولوجية الفلسفية الألمانية في الوعي الذاتي الهيغلي، والحسية الفيورباخية، فالصراعات الفلسفية لدى الألمان كانت تتلخص في صراع أزلية المادة وأزلية الروح، فالفلسفتين الروحانية والطبيعانية الألمانية، كانتا تعيدان كل شيء إلى فكرة الأزليتين، "إن الحسية -شهوة العين وشهوة الجسد والغطرسة- أمر بغيض في نظر الرب، بينما الروح يعني الحياة والسلام، ص 97"، هذه هي أطروحات الهيغليين الشباب. أما "الهرطوقي فيورباخ (يتوعد) القديس برونو، ويمسك في يده المادة، الجوهر، ويرفض أن يسلمها مخافة أن ينعكس فيها الوعيي الذاتي اللامتناهي، ص 90".

وهكذا، فالفلسفة الألمانية كانت تبحث الأشياء خارج التاريخ، فكلا الطبيعانيين والروحانيين، كانوا ينازعون حول أفكار وتصورات حسية مجردة عن العالم (أنظر ص 99)، أما المسألة في الواقع مسألة تاريخية وليست تصورات ومفاهيم مجردة عن المادة، أو صراع النفس والجسد.

إن أطروحة أخرى من أطروحات الألمان، هي أن النقد هو الذي يصنع التاريخ، أو أن التاريخ يخضع لإرادة الفلاسفة، فأوهام الألمان، يعني في نفس الوقت، إيمانهم الراسخ "بأن تعديلاً في الوعي وتوجهًا في تعليل العلاقات القائمة يستطيعان أن يؤديا إلى انقلاب ثوري للعالم كما هو موجود في الوقت الحاضر، انظر ص 95، 104، 105".

وهكذا، فبينما كان البرجوازيون الفرنسيون والإنجليز يخافون من الإفلاسات في الأوراق المالية، ويبحثون الأسواق الجديدة كوسيلة للقضاء على أزماتهم الاقتصادية، كان البرجوازي الصغير الألماني (الصغير بالمقارنة مع البرجوازية الإنجليزية والفرنسية)، لم يسهم في الحركة البرجوازية إلا على صعيد الأفكار المجردة (انظر ص 114)، فالألمان كانوا ينظرون إلى التاريخ لا كما جرى فعليًّا، بل كما تصوره الفلاسفة، وعلى الأخص هيغل وفيورباخ (انظر ص 126)، فهم لا ينظرون إلى التاريخ إلا بوصفه تأملاً مجردًا، وهم يقبضون على الأشياء في ذيلها الفلسفي، ويقفون الحقائق على رؤوسها، ويجعلون من التاريخ نتاجًا لتاريخ الأفكار، فبدلًا من التاريخ لدينا تاريخ الفلسفة لدى الألمان.

وهكذا فالتخلص من التاريخ التجريبي، هو الفكرة الألمانية عن التاريخ، "والأكثر من ذلك إنها مجرد فكرة التي يصنعها عنه القديس ماكس وفقًا لهيغل وفيورباخ، انظر ص 134، 135"، أي وفقًا للجدل الهيغلي، والطبيعانية الفيورباخية. ولكن على عكس هيغل وفيورباخ، فمصدر المعرفة لدى ماركس، ليس المنطق الجدلي الهيغلي، أو الطبيعانية الفيورباخية، بل التاريخ، فالتاريخ هو الذي يعطينا أداة فهم العالم، أما التاريخ ليس سوى سلسلة من التطور الصناعي، فكل عصر له خصائصه التاريخية الخاصة به، فأفكار الأقدمين مثلاً تمثل مرحلة من التقدم المادي للتاريخ، أما انتقاد الأقدمين في العصور اللاحقة من التاريخ، لا يعني سوى تقدم جديد للصناعة. فكل نقد جديد للعالم، نقد تاريخي، يعكس حالة من التقدم البشري، من تقدم الأدوات الإنتاجية، وثم الأدوات العملية في فحص الأشياء المادية في العالم.

5)

بينما النظرة النقدية الإنجليزية والفرنسية، تعكس التطور العمومي للعالم، كالمزاحمة العالمية، وتقسيم العمل العالمي، والتجارة الأممية، فكانت النظرة النقدية للفلسفة الألمانية، تتميز بطابع قومي محض، بل ومن طبيعة برلينية محضة (انظر ص 188)، فبعد أن حولت الصناعة التاريخ إلى تاريخ عالمي، فبقوا الألمان خارج هذا التاريخ إلى أواسط القرن التاسع عشر، وحين كانت الأوراق المالية تحكم عقول الأجيال في لندن، وباريس، ونيويورك، كان الألمان لا يزالون يحلمون بوحدة الاضداد الهيغلي، وأزلية المادة الفيورباخية، لذلك بينما كان يتضح شيئًا فشيئًا لدى الإنجليز أن الحق نتاج دنيوي لعلاقات دنيوية، فكان نقد الحق لدى الألمان مرتبطا بالفلسفة الهيغلية، ومقدم على أنه عاقبة نقد الدين، وبينما كان الإنجليز يتقدم أكثر فأكثر نحو العمل التجريبي، وينتقد جذريًّا عمل الاغريق، كان النقد الألماني، يعود من جديد إلى المنطق الجدلي الإغريقي.

"وهكذا فان كل النتيجة العظيمة لهذا اللغو المعقد تساوي حيلة هيغل المألوفة بتفاضل الإنسان الذاتي في الفكر، وهو تفاضل ذاتي ينادي به برونو التاعس الحظ بكل عناد على أنه الفعالية الوحيدة (للشخصية بحد ذاتها). ولقد اتضح للقديس برونو قبل زمن طويل جدًّا بأنه لا سبيل إلى تحصيل أي شيء من هذه (الشخصية) التي قصرت فعاليتها على هذه الوثبات المنطقية التي باتت مبتذلة في الوقت الحاضر، ص 94".

وهكذا، إن مفاهيم الناس وأفكارهم المنفصلة عن الأشياء الفعلية، لا حاجة بها إلى الأفراد الفعليين كأساس لها، بل إلى فرد التصور الفلسفي الفرد المنفصل عن واقعيته، والمتصور في الفكر المنطقي وحده (ص 308)، فالألمان ينتقدون العالم من خلال الحيل والمعادلات المنطقية (انظر ص 285)، ويحاولون تحويل كل شيء دنيوي إلى (المقدس) (انظر ص 287)، حين يحاولون تحويل العلاقات التجريبية إلى علاقات تأملية (انظر ص 289)، وستبقى العلاقة المحضة للفرد بالعالم، علاقة مجردة من جميع العلاقات الفعلية المتعلقة بها (انظر ص 291)، وإن القضية الكبرى التي تشكل أساس كل هذه المعادلات المنطقية هي: أنا لست الأنا. وأن غير الأنا هذه تعطي أسماء متنوعة يمكن أن تكون منطقية خالصة (انظر ص 294). إن هذه الحيل المنطقية قد تتحقق من جراء التأمل الأيديولوجي عن الواقع المنفصل عن أساسه التجريبي على أنه الواقع بالذات (انظر ص 296). وهكذا، ففي المنطق، يتميز كل فرد كليًّا من أي فرد آخر، شيء ما أوحد، وكل فرد متنوع في ذاته، والأكثر من ذلك أن أناه ليست أنا فعلية، بل أنا المعدلات المنطقية فحسب، بل الأنا التي تمثل في المنطق الصوري، في نظرية الأحكام، تحت اسم كايوس (انظر ص 301)، والغرض من كل هذه الحيل، هو فصل أفكار الأفراد عن شروطهم الحياتية (انظر ص 303).

وهكذا، فالتاريخ لدى الألمان، يصبح نتاج الصيغ والمعادلات المنطقية، بدل الدراسات الواقعية. وأن الطريقة التي يستخدمها الفلاسفة بأعظم النجاح لتستقيم في المناداة بأن كل ما هو موضوع إحدى صفاته الخاصة هو موضوعه الخاص، أي ملكيته، فالملكية تنتسب إليه بفعل إحدى صفاته الخاصة، دونما أي اعتبار لطبيعة العلاقات الاجتماعية (انظر ص 309)، فكما أن المعطيات التاريخية في هذا العهد الجديد مجرد تدوين لبضع مقولات بسيطة جدًّا، كذلك ليست جميع العلاقات الدنيوية في العهد الجديد أيضًا سوى تسميات مجازية للمضمون الهزيل الذي سلطنا الضوء عليه في (علم الظواهر) و(المنطق) الهيغلي (انظر ص 316).

وهكذا، فعلى العكس من الإنجليز والفرنسيين يبحث الألمان في معارفهم المنطقية، الفرد المجرد لا البشر كما هو موجود في واقع الأمر، وكمنتجات تاريخيهم المادي، وهذا هو سبب امتناع فلاسفة الألمان عن الإقدام على دراسة الواقع المادي، أي الإنتاج المادي، والعلاقات المادية، وتقسيم العمل الاجتماعي، التي تجعل من الأفراد التاريخيين خاضعين لشروط اجتماعية معينة واشكال معينة للنشاط البشري (انظر ص 427)، النشاط الذي ليس له معنى في ظل الصناعة الرأسمالية، إلا من حيث هو وجود تاريخي عالمي (انظر ص 45)، وبفضل هذه الصناعة، يتحول التاريخ أكثر فأكثر إلى تاريخ عالمي؛ بحيث إنه إذا اخترع في إنجلترا آلة تنتزع في الهند والصين من آلاف الشغيلة خبزهم، وتقلب كل شكل هاتين الامبراطوريتين، فان هذا الاختراع يصبح حقيقة من حقائق التاريخ العالمي (انظر ص 46).

يتضح مما قلنا أعلاه، أن القوة التي يعبر عنها الألمان في المادة والروح، ليست سوى السوق العالمية، أو امتداد نشاط البشر إلى صعيد التاريخ العالمي. وأن هذه القوة الغريبة التي تثير حيرة المنظرين الألمان، والتي تتطور على النقيض من أهدافها الخاصة، هي القوى المنتجة، فالقوى التاريخية هذه، أصبحت أساسًا ماديًّا لتبعية الأمم لبعضها البعض، وشكل أممي لتعاون الأفراد على صعيد التاريخ العالمي، الأمر الذي يعطينا في الختام، النتائج التالية:

في سياق التطور الطبيعي للقوى المنتجة، تأتي مرحلة لا يمكن أن تكون إلا تطورًا ضارًا وهدامًا في إطار العلاقات الاجتماعية القائمة (انظر ص 47، 48)، لأن تطور هذه القوى يجري بصورة طبيعية، يعني أنه لا يخضع لخطة عامة للأفراد المتضامنين بصورة حرة (انظر ص 79)، وبالأحرى لا يمكن للفرد أن يملك وسائل تنمية مواهبه، وحريته الشخصية، إلا في حال إخضاع هذه القوى للارادة الجماعية للمجتمع، فلا وجود للحرية الشخصية في المجتمع المعاصر، إلا بالنسبة إلى الأفراد الذين تطوروا ضمن علاقات الطبقة السائدة (انظر ص 75).

وهكذا، قد وضع التاريخ البشر العموميين تجريبيًّا، الذين يحيون التاريخ العالمي، مكان الأفراد الذين يحيون على صعيد محلي، وبدون ذلك لا يمكن لأي أسلوب إنتاج جديد -الأسلوب الكوموني- أن يظهر إلا بوصفه ظاهرة أممية، فلا تكون الكومونة ممكنًا تجريبيًّا إلا على اعتبارها فعلاً أمميًّا (انظر ص 44)، كما وإنها غير ممكنة الظهور، دون السيطرة على الطابع الطبيعي لتطور القوى الإنتاجية، أي إخضاع هذا التطور للسيطرة الواعية والمشتركة لكافة أفراد المجتمع، وفي مجتمع كهذا، أو في الجماعة الحقيقية، في الكومونة، يمكن للأفراد، أن ينالوا حريتهم بصورة متوافقة مع ترابطهم، بفضل هذا الترابط وفيه (كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام