الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بغداد ... متى يتحرك في أركانها الفرح من جديد ؟

حامد حمودي عباس

2010 / 2 / 23
المجتمع المدني


في يوم من أيام بغداد ، وقبل ان تسحق السياسة روحها المرحه ، كنت قد اصطحبت زوجتي وابنتي الصغرى ، والتي لا زالت طفلة لا تقوى على السير بثبات ، في سفرة صيفية الى العاصمة ، تاركين بقية افراد الاسرة في البيت ، طمعا في قضاء وقت ممتع لا يكلفني ما يزيد عن امكانيتي في تغطية هكذا سفرة قد لا تحدث الا بالكاد لضعف الحال . . بغداد كانت في تلك الايام ، تموج بالحركة العفوية للناس ، وكأنهم يسيرون دون مقاصد بعينها .. فالشوارع عندما يحل المساء ، تبدو وكأنها تضم بين جنباتها كرنفال غير مخطط له مسبقا .. حيث تختلط اصوات جميع المغنين العرب وغير العرب ، من خلال مكبرات الصوت على بوابات محلات بيع العصائر ، تتخللها صيحات الباعة المتجولين ، وضربات قطع الدومينو على طاولات المقاهي الشعبيه .. بشر يزحف وبكل الاتجاهات ، بعضهم يجري خلف باص يوشك ان يتحرك من مكانه ، وآخرون يتسابقون كأمواج غير منتظمة المسار على الارصفة ، وغيرهم تراهم ينطون في عرض الشارع محاولين تجاوز السيارات المنطلقة بلا توقف ... صفارات شرطة المرور يمكن سماعها بين الحين والاخر ، مطعمة بصفير سيارات النجدة او الاسعاف هنا وهناك ، دون الاحساس بوجود خطر ما ، وغالبا ما كان الناس يتندرون على سيارات الاسعاف تلك ، بانها تحدث ضجة كاذبة في المكان ، لتستطيع المرور رغم كونها خالية من مريض او مصاب .

شارع السعدون .. كان وجهتي الاولى لكونه اكثر الشوارع احتفالا بمقدم الزائرين للمدينة .. انه يعج بكل شيء ، دور السينما ومحلات ، بيع العطور والخمور ، ومقاهي الدرجة الاولى ، تزاحمها عربات بيع الشاي للمارة حيث يقفون مصطفين دون تكلف ، يلهيهم حديث متشعب رغم كونهم لم يكونوا على معرفة سابقه .. وتعترضك في مسارك فرش رصفت عليها شتى انواع المبيعات البسيطه ، وقد تكون البعض منها لا تحتوي الا على غليون ونظارة شمسيه وقراضة اضافر وعدد من الامشاط المصنوعة من النايلون .. لا يرعبك مرور شخص يترنح مما تناوله في جلسة خاصة مع رفاق العمر ، قد يمر بجانبك وهو يغني ويهتز طربا مع لحنه المختار .. كما لا يثير حفيظتك مرور آخر ملتحي ويحمل صفة الرهبنة الدينيه .. فالكل شركاء بامتلاك الرصيف ، وما عليه من توابع عامة أو خاصه

كان صوت ام كلثوم يتهادى من اجهزة التسجيل ، ليضيف الى ليل بغداد الصيفي الجميل روعة لا توصف ، تختلط به الحان كثيرة لا يمكن فرزها لعدم تجانسها وفهم كلماتها عندما تختلط في فضاء واحد .. ابنتي كانت لا تتوقف عن الرقص عند بلوغ المكان الذي تشعر فيه بان لحنا ما يستهويها لفعل ذلك .. فتحرك اقدامها الصغيرة وتهتز كلعبة فقدت مفاصل اطرافها ، لتاتي رقصاتها على شكل قفزات خفيفة في ذات المكان ، فيداعبها المارة بحنان ، في حين كانت امها تحس بحرج حيال ذلك ، فاحاول ان أمنعها من التدخل في تغيير عالم له طقوسه البريئة ، فتتراجع عن ايقاف الطفلة عن احساسها بالمرح .

لا اعرف لماذا كان العراقيون حينذاك يستهويهم في تجوالهم ونزهاتهم الحرة في بغداد ، ان يمضغوا العلكة ، اضافة الى قضم بذور الرقي والذي كان يدعى لديهم بالحب بفتح الحاء ، ولذا فان ان اصوات باعة العلكة والحب ، حاضرة في كل مكان .. ولا يغيب عن مزاحمة الباعة الاخرين ، اصوات اولئك المتخصصين ببيع الصحف والمجلات ، فتجدهم يسيرون وايديهم مرفوعة تعترض سبيل الماره ، وكأنهم يعرضون بضاعتهم بالعافيه على الناس ..

اكملت مسيرتي الليلية تلك ، وقد ملأ السرور قلبي ليمنحني احاسيس اختلطت فيها مشاعر الراحة والاطمئنان ، لم اكن اقلق من شيء ما .. فانا وسط محيط انساني لا تتواجد فيه دواعي الخوف ، وليس هناك من ارتباط بالزمن ، حيث ان زمن بغداد يبدو مفتوحا متواصلا ليله بنهاره .. ثمة مخبول مر بالقرب مني وهو يهتف باشياء غير مفهومه ، وقد ضايق بمروره رجل كان يحمل بيده ورقة لا اعرف مضمونها ، وهو يستجدي المال من الماره .. وهناك غير بعيد شاب يطوي حزمة من الفساتين النسائية على كتفيه ، ويصيح معلنا عن بضاعته بكلمات لم استطع فهم حروفها رغم محاولتي ذلك .. انه هرج لذيذ .. يحمل النفوس الى واحات من السعادة الغامرة .

شارع ابو نؤاس ، يحتضن ضفة نهر دجله ، ويتهادى مع مسار شارع السعدون ، من خلال ملازمة توحي وكأن رفقة بعيدة الجذور بينهما لم تنقطع .. كم هي رائعة تلك العلاقة الحميمية بين الشارعين ، حيث اصرارهما على عدم الافتراق ، الا في نهايات تجعل من يبلغهما يحس بالاسف على افتراقهما القسري .. وحينما يقرر المرء الانتقال من احد الشارعين الى الاخر عبر ازقة فرعية هي صلة الوصل بينهما ، يشعر وكأن تلك الازقه تحمل جينات مختلفة لكائنين مختلفين ، غير ان ما يجمعهما هو تلك المسحة من الانفتاح على النفس ، وما يعم من أجواء تختلط فيها الروائح المنبعثة من الاطعمة الجاهزه ، وقناني البيره مختلفة المنشأ ، يزاحمها البخار المنطلق من مشاوي السمك المسقوف ، تجاوره تلك النسمات اللذيذة والآتية من بارات تنتشر بكثافة هناك ، تمتليء بسمار الليل .. كل ذلك تراه وانت تتنقل بين السعدون وابي نؤاس دون ان يثير وجودك واسرتك أي متطفل أو معتدي ، حتى الحكومه لا تجدها امامك الا بالكاد .. فالناس تتحرك كما تشاء ، ولا يحدث ما ينفرها عن القيام بالتنزه والتمتع بطعم ليل بغداد الزاهي .

كنت متشوقا للدخول الى احدى دور السينما ، لا لمشاهدة فلم بعينه ، وانما لاستعادة ذكريات الصبى ، حينما كنت وعدد من رفاق العمر ، نتخذ لنا مستقرا في مكان ما وسط صفوف المتفرجين .. والذ ما كنت احس به هو حينما يكون انتضار تشغيل الفلم لا زال قائما ، حيث الاضواء تشيع في المكان ، واصوات باعة قناني الببسي والكوكا كولا تنثر الفرح على الجميع ، من خلال صيحات حامليها في صناديق خاصه وهم يهتفون ( بارد .. بارد ) .. بينما يسحبك كمال الطويل او محمد عبد الوهاب الى الحان شجية تشنف الآذان من خلف الشاشة البيضاء استعدادا لبدء العرض .. لم يكن بوسعي ان ألبي رغبتي لضيق الوقت ، وحاجة من معي للتمتع بما يشتهون وليس ما أشتهي أنا فحسب .. فدخلت احدى المقاهي المفتوحه والقريبه من ضفة دجلة الخالد ، المكان عبارة عن ساحة خضراء ، برع صاحبها في توزيع انواع الزهور على جنباتها ، مع رصف الكراسي المصنوعة من اعواد سعف النخيل وبطريقة بديعه ، حاول من خلال توزيعها ضمان راحة وعزلة العوائل الوافده الى المقهى .. طفلتي كانت لا تريد لنا ان نهدأ ، فكنا نلاحقها بين الحين والاخر لصدها عن الوصول الى ما لا نرغب .. في حين راح بقية من معها من الاطفال ، يتمتعون بوقتهم وعلى طريقتهم الخاصه .

لم يكن بوسعي ، وأنا ارقب حركة من معي في المقهى من العوائل ، إلا التطفل بنظراتي واحاسيسي ، لمعرفة مقدار السعادة التي يشعر بها افرادها ، وهم يتصرفون كما يحلو لهم دون ذلك الاحساس الثقيل بالخوف او ترقب حدوث أمر غير اعتيادي .. ومع كوني اعلم حق العلم ، بان كل فرد من اولئك المتواجدين معي ، يحمل في طيات نفسه ما لا يمكن الافصاح به حينذاك ، إلا انني كنت متأكد جدا ، بان الجميع كانوا سعداء بما فيه الكفايه ..

ترى .. بحكم أية شريعة سرقت ليالي بغداد الجميلة تلك ؟ .. ومن أباح للعابثين أن يبعثروا فرح الناس وبهذه الطريقة البشعه ؟ .. لماذا أصيبت عاصمة بلادي الحبيبة بهذا الخدر المميت ، حتى باتت لا تقوى على الكلام إثر جراح لا تريد ان تنقطع عن النزف المريع ؟؟ .. متى ينتهي جشع المفسدين من مدعي الوطنية المزوره ، لكي تسترجع بغداد عافيتها ، ويعود الناس لممارسة حرياتهم في شوارعها ومقاهيها وباراتها كيفما يحبون ؟ .. لمصلحة من.. تموت المسرات وتقلص الاعياد ، ويجري إفساد الاذواق ، وتغلق أبواب الفرح البريء في بغداد ، حتى باتت مظلمة لا حراك فيها ولا يشوب اجوائها إلا رائحة الموت واصوات الرصاص ؟ .

لا ادري .. سوى أنني عاجز عن ألشعور بالأمل القريب ، في ان يعود الزمن الجميل ، الى ربوع لم تكن تعرف غير أطياف المودة المتبادله .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرسم جنب الصورة
هادي العمري ( 2010 / 2 / 23 - 18:45 )

ربما ان تعليقي لا يمس المقالة ولكني لحظت الصورة الموضوعة جنب اسم الكاتب في صفحة الحوار المتمدن الرئيسية وهذه الصورة مأخوذة من صورة لمصور سوري ونراها في هذا الرابط
http://www.shababsyria.org/vb/showthread.php?s=a7fd361f11774c68a24bd58cea8733c3&t=28595
ولكن الغريب ان الرسامة كتبت اسمها على الصورة رغم انها لمصور آخر


2 - وطن وذكرى وحسرة
الحكيم البابلي ( 2010 / 2 / 23 - 23:54 )
عزيزي السيد حامد حمودي
في أحيان كثيرة يصيدني من حولي وأنا متلبس ب (صفنة) عميقة لا أخرج من دوامتها إلا على أصوات أسئلتهم : وين شارد ؟
الواقع إنني أحاول دائماً طرد همومي ، فالحياة قصيرة ولا تستدعي كل هذه الجدية ، على الأقل أحاول أن أقنع نفسي بهذه الفلسفة ، وغالباً ما أقتنع بها ، لكن صفناتي تحوم دائماً حول الموضوع الوحيد الذي لم أستطع كبح جماحه في نفسي وفكري ، وهو موضوع المدينة التي أحببتها وقدستها وعشقتها وبكيت لها كما فعلت مع أمي ..... بغداد
ولست مبالغاً لو قلت بأني أذكر أمي الراحلة مرة في اليوم ، لكنني أذكر بغداد كل ساعة من ساعات النهار ، وفي الليل عندما أضع رأسي على الوسادة لا بد أن تكون بغداد من ضمن ما أحلم به من روائع
أجتر صورها وذكرياتها كل يوم ، وأمشي في شوارعها وأزور مدارسها وأشرب من ماء دجلتها أم الخير ، وأدق أبواب بيوت أصدقائي الطيبين ، وأنام فوق سطح بيتنا وأحسب النجوم حتى أغفو ، وأتفقد بنات الطرف الحلوات أكثر من البقلاوة ، وأقبلهن بشوق وحسرة ولوعة
وكلما أيقضني من حلمي اللذيذ صوتٌ يسألني : وين شارد ؟ .. أُتمتم لنفسي : الله يجازي اللي كان السبب في دمارك يا بغداد


3 - القلم الجميل
فارس اردوان ميشو ( 2010 / 2 / 24 - 00:08 )
سيد الكلمة الجميلة حامد حمودي
عجيب قلمك تصور الناس والشوارع والاحاسيس بشكل جميل ورائع جعلتني اعود الى بغداد الجميلة قبل ان يلوثها القتلة والسراق والدجالين وتجار الدين وكل (سرسري ) وتافه
اخي العزيز اعتقد انك تكتب بقلبك وليس بقلمك
شكراً وتحياتي


4 - أنت جميل يا ابن عباس
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 2 / 24 - 03:25 )
أستاذ حامد : لا يمكن للساني المربوط إلا أن ينفك عندما ألتقي بك , وصف دقيق , شامل النظرة بأسلوب رشيق , فلا بد من التحية ولو كره الكارهون


5 - بغداد ليست وحدها
عبد القادر أنيس ( 2010 / 2 / 24 - 10:47 )
أنا أعيش قي بلدي، وفي مدينتي منذ أكثر من نصف قرن، فيها ترعرعت ودرست وكبرت وفيها أسرتي وفيها أصدقائي ومع ذلك فأنا أكاد أشعر بالغربة فيها، روحيا وفكريا وجسديا.
المدينة تضخمت عشر مرات، أساء إليها من تولوا مقاليد الأمور بعد الاستقلال فتركوها تغرق في البداوة، وتركوها تغرق في نمو عمراني وديمغرافي مجنون ثم جاءت الأسلمة فقضت على ما بقي فيها من معالم حضارية: تقلصت دُور السينما وتوقف المسرح عن النشاط وانتشرت في شوارعها مظاهر الاسلمة البغيضة: شباب باللباس الأفغاتي ولحى متدلية وعيون مكحلة، وشباب مظاهر غربية من تسريحة الشعر إلى الحذاء ونساء طغى عليهن الحجاب والجلباب، وشابات يحاولن التمرد على الأسلمة فيغطين رؤوسهن ويلبسن سراويل الجين لإظهار مفاتن أنوثتهن.
هي غربة في كلتا الحالتين يا أخي حامد.
تحياتي


6 - ردود
حامد حمودي عباس ( 2010 / 2 / 24 - 14:09 )
الاستاذ هادي العامري : كان من الاولى أن يقتصر اعتراضك على طريقة نشر الصورة موجه الى موقع الحوار المتمدن مباشرة ، بدل ان تجعل من ملاحظتك بهذا الخصوص تعليقاعلى مقال لم تقرأه اساسا .. تقبل تحياتي

الصديق الحكيم البابلي : سنبقى جميعا مشدودين للارتباط ببارقة أمل ، قد نعود من خلالها الى مدننا ومساقط رؤوسنا وأطلال شهدت بواكير طفولتنا الاولى ، اتمنى لك الخير.. واسعد الاوقات

الاصدقاء فارس اردوان ميشو والقارئة المثابرة : عاجز عن تقديم جزيل شكري وامتناني لكما واتمنى ان يدوم هذا التواصل النافع بيننا .. دمتم احبة اعزاء

صديقي واستاذي عبد القادر أنيس : الاحساس بالغربة في الوطن .. هي ابشع ما يمكن ان يحس به المرء ، وتأكد بان هذة السمة السيئه ، هي الاساس في هجرة الواعين بالامور من اوطانهم ، وهي السبب في عزوفهم عن العودة اليها رغم حنينهم وشوقهم لها بعد طول ابتعاد .. اتمنى لك ان تحضى بشيء من الانسجام مع واقع اتفهمه لكوني من ضحاياه .. دمت اخا وصديقا مع تحياتي

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | تعرّض مروحية رئيسي لهبوط صعب في أذربيجان الشرقي


.. إحباط محاولة انقلاب في الكونغو.. مقتل واعتقال عدد من المدبري




.. شاهد: -نعيش في ذل وتعب-.. معاناة دائمة للفلسطينيين النازحين


.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل




.. وزير الخارجية الأردني: نطالب بتحقيق دولي في جرائم الحرب في غ