الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرحوم عبد الوهاب المسيري و عمى الألوان

سهيل أحمد بهجت
باحث مختص بتاريخ الأديان و خصوصا المسيحية الأولى و الإسلام إلى جانب اختصاصات أخر

(Sohel Bahjat)

2010 / 3 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




إن الدين كونه ذو أبعاد مختلفة عن أبعاد الجسماني لهذا العالم و كونه لا يقتصر على دين واحد ـ بعكس الرؤية التي يريد المسيري و أضرابه تمريرها علينا ـ فالدين نفسه ذو تجليات متعددة بتعدد الإنسان و تاريخه و ظروفه مما يظهر بشكل جلي تفاوت التجارب الدينية نفسها، العلمانية بهذا المنطق هو نوع من الفلسفة الحيادية التي تريد نزع صفة العنصرية و الكراهية عن الأديان و المذاهب، و المسيري كمثال يحدثنا طويلا عما يسميه "الصهيونية" كنظرية متطرفة لليهودية و لكنه يتغافل و يتجاهل العنصرية الإسلامية التي تريد اليوم إدخال العالم في نوع من الصراع الذي لا نهاية له، و ابن تيمية ـ الذي يمثل المتطرفين من السنة ـ كمثال، يؤمن بأن طاعة "الحاكم الظالم" واجبة و أن "الجهاد ـ الحرب المقدسة" واجبة تحت رايته إلى قيام الساعة "نهاية العالم"، بالتالي فإن هذا النقد الأعور للعلمانية يشكو من العمى من عدة جوانب، فهو يتجاهل نقد الذات "المسلمة + العربية و غير العربية" و يتجاهل نقد سلبيات العلمانية البديلة "الوهمية" التي ينظر لها المسيري ثم يبدو بوضوح ـ كما سنرى ـ أنها ليست سوى حكما "دينيا" حظي ببعض الماكياج الفاشل، من هنا نجد أن العلمانية ـ على علاّتها و عيوبها ـ ذات جمال خلاب لا يقارن بقبح هذه "العلمانية الممسوخة" التي يدعو إليها بعض الباحثين و الكـُتـّاب المشرقيين ـ العراقيين و المصريين على الأخص ـ لأنها نظرية تتيح تقسيم المواطنين تقسيما طائفيا و دينيا و حتى عنصريا.
و بعد أن يورد المسيري رأيا مقتبسا عن نفس المعجم للكاتب G. M Yinger الذي يرى أن العلمانية ليست نظرية شاملة كاملة لتفسير العالم و الإيمان بالمطلق و بالتالي لا علاقة لها بمعاداة الدين و كونها حيادية بهذا الشأن، يقول المسيري:
و لكن المعجم بعد ذلك يتحول عن هذا التعريف، إذ يُعرف العلماني بأنه "العقلاني أو النفعي بشكل خالص أو أساسي"، و رغم أن مصطلحي "عقلاني" و "نفعي" مصطلحات مبهمة (هل العقل قادر على تحديد ماذا ينفع الناس؟)، إلا أن الاستخدام الشائع لهما يؤكد الجانب المادّي عادة على حساب ما هو مفارق و متجاوز لعالم الحواس". المصدر السابق ص 61
و الحقيقة أن السؤال الذي طرحه المسيري عن مربع الإنسان + الدين + العقل + المنفعة، يشكل حلقة تناقضات لا بد و أن تناقش و إن كان النقاش فيها قد يؤدي إلى التطويل و لكن هذا الأمر ضروري، فطوال التاريخ الإسلامي كان هناك مفهومان فكريّان يتصارعان على الساحة في العالم الإسلامي، فقد كانت السلطة و وعاظ و فقهاء السّنّة يعتبرون أن الحسن و القبح هما أمران "شرعيان" و أن العقل لا يملك أي خيار ليقرر أن الأمر و القضية الفلانية هي قبيحة أو حسنة، و ربما أمكن للعقل أن يتحرك فقط حينما تصمت الشريعة و النّص المقدس عن الإجابة، لكن في المقابل كان الشيعة و المعتزلة يرون أسبقية العقل على الشريعة "النص" إذ لا معنى للشريعة و الدين نفسه إذا كان العقل معطلا، بالتالي يعرف العقل أن القتل و الاعتداء و السرقة هي أمور قبيحة "عقلا" و الشريعة هي جاءت لترسخ و تؤكد على الحسن بالحسن و القبح بالقبح، و من هنا نجد في الفقه الشيعي و المعتزلي اهتماما كبيرا بدور الزمان و المكان في التحليل و التحريم، فربما يصير الحلال حراما و الحرام حلالا لطاريء أو ظرف معين و هو ما يؤكد أن للعقل دورا في تشخيص "المصلحة"، بالتالي فإن توازن الدين مع العقل و الحرية ـ و هو أمر تكفله العلمانية ـ يمنع طغيان أي منها على الآخر، فالناس قد يعيشون بلا دين و لكنهم لن يعيشوا قطعا بلا عقل، فمهمة العقل الأساسية هو البحث عن "المصلحة" و "المنفعة" و بدون العقل يكون فساد الدين ـ الذي هو شأن إنساني عند الممارسة ـ و الدنيا معا.
و حينما نرى علي بن أبي طالب يحتج بأن القرآن هو كتاب "ينطق به الرجال" فإنه كان بذلك ينبهنا إلى أن القرآن و كل نصّ ديني آخر هو عرضة للإنتقائية و لأن يتحول إلى نوع من التبرير و بالتالي يتسلع الدين و يصبح شيئا من الأشياء التي "يستغلها" الإنسان لأهدافه الخاصة و لمصلحة فئة أو فرد، من هنا فإن الإنسان هو ليس ذلك المخلوق الذي يعكس الطبيعة كما هي و يتطبع بما يملى عليه كما يصور لنا المسيري، فالعكس هو الصحيح، فطوال التاريخ و إلى الآن و إلى نهاية العالم سيبقى الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخلق المفاهيم و إذا كان البعض يعتقد أن مسألة "خلق القرآن" التي جرت في عهد المأمون حين طالبه المعتزلة بامتحان علماء السنة بالسؤال "هل كلام الله أزلي قديم أم مخلوق"؟ أنه كان جدالا عقيما حول مسألة لاهوتية غيبية، فهم مخطئون، فالمسألة ارتبطت بواقع دور الإنسان في هذا العالم و إن بدت ظاهريا كخلاف "لاهوتي" بحت، فكون اللغة مسألة مرتبطة بالله أم بالإنسان كصناعة و تكوين شكلت عمدة القفزة العقلية التي كان من المنتظر حصولها لو تحولت حرية الإنسان إلى مبدأ سائد، فاللغة هي صناعة إنسانية و الإله يتعامل مع الإنسان من خلال اللغة التي صنعها الإنسان، و لكن الأسلوب الخاطيء الذي استعمله المعتزلة ـ و الذي كان رد فعل لأساليب السنة في إضطهاد الآخرين ـ أدى إلى أن يتخلى العامة، و هم في الغالب جهلاء، عن هذه الفكرة الفلسفية النيرة و التي كان من الممكن أن تؤدي إلى أنسنة ـ نسبة للإنسان ـ الفكر الإسلامي، لكن الجهالة و التخلف أسرع هيمنة في ظل تلك الظروف الصعبة و لأن الحكام لم يروا مصلحة في هيمنة فكرة "حرية الإنسان" و مسؤوليته عن قراراته، و عن هذه النقطة يقول الدكتور محمد أركون:
لقد وصل الأمر بهؤلاء المفكرين ـ أي المعتزلة ـ إلى حد طرح مشكلة ما دعوه "خلق القرآن". إن مجرد اعترافهم بأن القرآن مخلوق يمثل موقفا فريدا تجاه ظاهرة الوحي، إنه يمثل موقف حداثة في عز القرن الثاني الهجري/ أو الثامن الميلادي. و كان هذا الموقف التيولوجي المبتكر الذي اتخذه المعتزلة يفتح حقلا معرفيا جديدا قادرا على توليد عقلانية نقدية مشابهة لتلك العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءا من القرن الثالث عشر، لو لا معارضة الأرثوذكسية الظافرة في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، و خصوصا على يد الخليفة القادر. فالقول بأن القرآن مخلوق ليس مجرد كلام و إنما هو يعني إدخال بعد الثقافة و اللغة في طرح المشكلة. و هما من صنع البشر لا من صنع الله. إنه يعني إدخالهما أو أخذهما بعين الاعتبار فيما يتعلق بالجهد المبذول لاستملاك الرسالة الموحى بها. و ذلك يعني أيضا الاعتراف بمسؤولية العقل و مساهمته في جهد الاستملاك هذا." العلمنة و الدين ـ الإسلام المسيحية الغرب ـ دار الساقي 1996 ترجمة هاشم صـالح ص 60 ـ 61

Email: [email protected]

Web: http://www.sohel-writer.i8.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الي سهيل
محمد البدري ( 2010 / 3 / 17 - 08:12 )
تحيه للكاتب وشكرا لتنويره وصفاء فكره.

اخر الافلام

.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي


.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا




.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني


.. مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح




.. يهود أمريكا: نحن مرعوبون من إدارة بايدن في دعم إسرائيل