الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لكي تكون قمّة الوُجود العربيّ

محمد الحمّار

2010 / 3 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مرّت أكثر من ستّين سنة على اغتصاب أرض فلسطين وقتل الآلاف من أصحابها وتشريد الكثير من أهاليها؛ ومضى ما يناهز الأربعين عاما على احتلال الجولان في سوريا؛ وها أنّ عدّادَ النكسات العربية يسجّل اليوم مرور سبعة سنوات بتمامها وكمالها على احتلال العراق من طرف القوى الظلامية المعاصرة. وبالرغم من الوزن الثقيل والأثر الساحق، بكلّ المقاييس، لهاته الضربات وغيرها التي سقطت على العربيّ في العديد من ساحات الوغاء مثل بيروت وغزة والقدس وبغداد والبصرة وكركوك، إلاّ أنّ لا العقل العربي – وهو المعني بها دون غيره - يُقدّرها حقّ تقديرها، و لا الضمير والوعي العربيين يكيلانها حقّ مكيالها.

ولكي يكون الكفاح السياسي الرسمي، والمتمثل في إقامة القمّة العربية بمدينة سرت الليبية، متفقا في أهدافه مع الكفاح الفكري والفلسفي، سيما أنّ القمّة تتزامن تقريبا مع الإعلان عن نتائج الانتخابات في العراق، يجدر بالإنسان العربيّ أن يعرف لماذا يتصرّف على هذه الشاكلة، وهل يكفيه أن يناضل من أجل إرساء الحكم الديمقراطي في بلاده لكي ينهض بنفسه فيكون قادرا على إنتاج الشعور والسلوك والرأي المُلائم لحقيقة أوضاعه، وما هي المنهجية التي من شأنها أن تساعده على إنجاز مثل هذه المهمّة العويصة التي لا تقبل بالسهولة والتساهل.

لماذا نحن قوم إمّا نغضب إلى أقصى ما يكون الغضب فنلوّح بالحرب والانتقام ولكننا إمّا نخسر في النهاية، وإمّا نلوذ بالرّكون إلى سُبات عميق كأنّ شيئا ممّا يمس حُرُماتنا لم يقع؟ أليس الأحرى أن نثبت في وضعية وسطا (أمنيتي أن يكون هذا استقراء جانبي لمعنى من معاني لـ"أمة وسطا" في القرآن الكريم)، لا هي مبعثٌ على الغضب المفرط و الحقد والسخط وإشعال نار الفتنة بين الإخوة، ولا هي وكرٌ لإنتاج الطلامس وتكرير التفكير السحري وإعادة إنتاج عقلية التفسير التآمري للتاريخ و للأحداث وللواقع؟

إنّ كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ هاذين الموقفَين المتناقضَين ينمّان عن عقلية التطرّف المُنتِجة للتعصّب بشتّى أنواعه، الوجداني والديني والسياسي على وجه الخصوص. والتطرّف داءٌ قد أثبتت الأحداث أنّه لا يُعالََجُ بالانصياع له. كما أنّ التطرّفُ لا يضمحلّ بمجرّد التلويح بشعارات ولو كانت هذه اسمُها "الديمقراطية" و"التعددية" وما لفّ لفّهما. والنضال من أجل الحريات والديمقراطية لا يُثمر من دون أن تكون للإنسان العربيّ تُربة تسمح لنموّ براعمَ من التفكير التعددي ومن السلوك المسئول المقدِّر للحرية حق تقديرها.

لذا فإنّ فقدان العربيّ لهذه التّربة هو الذي ما انفكّ يحرمه من المسك بناصية وجوده الذاتي وبالتالي يُقصيه عن الوجود بالأساس. وليس الحلّ فقط في المُطالبة بانتقال أنظمة الحكم العربية إلى أنظمة ديمقراطية؛ وقد أثبت تاريخ الثلاثين سنة المنقضية صحّة هذا الكلام. لكنّ الحلّ في تهيئة التّربة الوجودية القابلة بـزراعة قيم مثل حقوق الإنسان والحريات العامة والحقوق المدنية والتعددية والديمقراطية.

والأسلوب الزراعي من النوع الوجودي لا يقبل بالكتُب موردًا أساسيا للمعلومة (هذا لماذا أمة اقرأ" لا تقرأ؛ وسوف نبيّن ذلك في دراسة على حِدة). بل الشعور الصادق والإحساس المرهف بوجود الجسم العربيّ في مُجمل مَفاصله وفي أدقّ جزئياته هو مصدر الرأي المستنير المُنتج للفكر الحرّ و التعددي والديمقراطي. وهذا يتطلّب قلبًا لكثيرٍ من المفاهيم الموروثة خطأً، وزحزحةً رصينةً للمُحافظة المعرفية والتربوية؛ وهذا هو التنوير.

التنوير إذن، في ضوء ما تقدّم بإزاء وجه مركزيّ من الأوجه العديدة لمشكلة الإنسان العربي، هو ثقافة الوجودية. وهي منهجية ٌ أكثر منها مسلّماتٌ تُتلى أو فكرٌ تحفظُه الذاكرة عن ظهر قَلب. لكن هذه المنهجية، مثل أخرى، ما تزال للأسف الشديد ترزح تحت نير الفهم التقليدي والاتّباعي والمُحافظة، المعرفية عموما والدينية خصوصا. لذا يتوجّب إنارة بعضنا البعض حَول ماهيتها وحقيقتها.

لو يذهب أحدُنا إلى طبيب أمراض الحساسية ويسأله سؤالا تقليديا: "هل عندي حساسية يا دكتور؟" فسوف يردّ عليه ضاحكا أو مبتسما: " ليس هذا بسؤال يا فلان. فكلّ البشر لهم حساسية، بل قُل لا يُعتبر الواحد منّا مصابا بالحساسية إلاّ إذا كان فاقدا لها. ولكن غاية ما في الأمر أنّ الناس يخلطون بين"الحساسية "- وهي التي جاءت في صيغة سؤالك- وبين "مرض الحساسية"- وهو الذي أنت تقصده."

كذلك الشأن بخصوص مسألة "الوجودية" . فلو تحدّث طالبٌ قد استهوته فكرة الوجودية، التي لا بدّ أنه درسها في مادة الفلسفة، إلى شخص من العامة التي لا ترى صلاحا لهاته الأمة إلاّ بعودة الدين، طارحا لهُ فكرة الوجودية، فسوف لن يتردّد هذا الأخير لحظة ليدعُو له بالهداية أو ليُسدي له النصيحة أو ليلُومه على "ترك الدين" و على "اتباع السبل" التي "لا تُغني من جوع".

كَم كان بودّي لو كان ذلك المسلم الصامتُ و النّاصحُ داريا بالوجودية دراية الطبيب بالحساسية. وبالتالي كَم كان بودّي لو قال للشّاب الشّغوف:" ليس هذا بسؤال يا بُنيّ. فكل ّ البشر لهم وجود. وبالتالي يتحتّم أن تكون لكلّ أمّة منهم وُجوديّتها أي طريقتها في إثبات و جودها. ولن يُسمَّى الواحد منّا مُصابا أو مريضا إلاّ في صورة مغالاته بالوجودية أي باتخاذه لها كمذهب و عقيدة قد تلوّث تُربته الثقافية أو قد تعوّض له دينه و عقيدته الدّينية."

للأسف، كثيرٌ هم المفكّرون العرب و المسلمون المعاصرون (بما أنّ "الوجودية" فكرة القرن العشرين) الذين غضّوا الطرف عن الوجودية كآلية من آليات التعامل مع الوجود الإنساني. لكنهم خيّروا التموقع بعيدا عنها متوخيّن أساليب مختلفة من أهمّها نذكر:

- فيهم من توخّى التفسير ونجح في إبراز الوَجه الرديء للعُملة فحسب: أنّ الغرب بدأ يتقهقر لمّا لجأ إلى الوجودية كمذهب لكي يُعوّض له مبرّرات وجوده التي افتقدها (مالك بن نبي). وهذا كلام صحيح إلاّ أنّه لا يمنح الفرصة لإدراج الوجودية على الأقلّ كأداة من أدوات النهوض الفكري والحضاري للعرب والمسلمين.

- وفيهم من انكبّ على دحضها بدعوى أنّها ليست من الإسلام في شيء (الأصوليون). وهذا موقف دوغمائي لا يُثبتُ أنّ الوجودية لا تصلح بالمسلمين.

- وغيرهُم كثيرون ممّن رفضوها،على غرار رفضهم علم داروين وسيكمند فرويد وعدّةٍ من علوم أخرى. وهذه ذروة التفكير الآحادي الناجم عن الخلط بين العلم والعقيدة، بين الوسيلة والغاية، بين الكلّي والفرعي.

أمام قلّة الإجماع على صلاحية الوجودية للمسلم المعاصر، هل نحن ماضين في ذلك الخلط بين المنهجية، وهي ضرورية للمتعلم :نحن و من أراد أن يتعلّم معنا، والمذهب الآحاديّ الجانب الذي نشأ في الغرب و الذي قد يختاره الحائر أو المُجرّب ثم يلجَأُ إليه حتّى لتعويض الرّب؟

في الحقيقة هنالك بعض بشائر الخير في هذا الخصوص، إذ يبدو أنّ الوجودية قد بدأت تتسلل إلى الثقافة الإسلامية بعدُ، وقد يكون ذلك بفضل الشاعر و المفكر الكبير محمّد إقبال ( ذكره الفيلسوف عبد الكريم سروش). ثم إنّ هنالك من المفكرين الشبّان (العربي الفرنسي عبد النّور بيدار) من يُعلِنُ صراحة إنه يهدف إلى إرساء نوع من الوجودية للمسلمين.

فهل يأتي اليوم الذي يصبح فيه كل مسلم طبيب نفسه، أخصّائيا في أمراضٍ وجوديةٍ، أم سيبقى ضحية أمراض الوجودية؟ وهل يتمكّن القادة العرب الملتقون بسرت من إيصال الصّوت العربي المنادي مِن كل مكان يوجدُ فيه عربيّ واحد: أنا عربيّ إذن أنا موجود، في فلسطين وفي العراق و وراء الحدود؟

محمد الحمّار
*** "الاجتهاد الثالث"، تونس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran


.. 72-Ali-Imran




.. 73-Ali-Imran