الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلم وشروط النهضة

فتحى سيد فرج

2010 / 3 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ليس هناك من شك في أن النهضة الحديثة في أوروبا إنما قامت بشكل أساسي على العلم الحديث، فرغم أن التحولات الفكرية التي جرت بدءا من عصر الإصلاح الديني والحركة الإنسانية والكشوف الجغرافية، إلا أن ظهور العلم الحديث كان هو العنصر الحاسم نحو تحقيق النهضة، فقد أدت الاكتشافات العلمية والتكنولوجية المتتالية إلى تحولات جذرية في قدرات المجتمعت الأوروبية أبتداء من القرن الثامن عشر الميلادي .
كذلك لا يمكن تحقيق النهضة في بلدان العالم العربي بالفكر السياسي وحده، وإنما وبشكل جوهري من خلال الفكر العلمي الصحيح المعتمد على التصورات العلمية الحديثة، وبتحقيق الارتباط بين هذه التصورات والمجتمع ككل .
ومن الملاحظ أن عديد من بلدان العالم الثالث قد أخذت طريق العلم وأصبحت دولا منتجة للتكنولوجيا ومشاركة العالم في التقدم والنهضة، وظلت بلدان العالم العربي ترزح في التخلف ولم تشارك في ركب العلم والتقدم وتحقيق النهضة، لذلك وجب التساؤل عن أسباب استمرار هذا التخلف .
الإجابة السائدة في الفكر العربي عن السبب في عدم اكتمال النهضة العربية هو وجود الأنظمة السياسية الحاكمة التي جمدت الحريات وطردت العقول العلمية، وتدني مستوى الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والسكن والمواصلات، ونقص التمويل اللازم للبحث العلمي، وإنخفاض معدلات التنمية البشرية .. ألخ .
ليس هناك شك في أن هذه العوامل وغيرها صحيحة ومؤثرة سلبا بشكل كبير، ولكن هناك عوامل أكثر عمقا وتمثل سببا جوهريا، وهذه العوامل ترتبط بطبيعة العلاقة بين الفكر المستقر في أعماق الفرد والمجتمع في البلدان العربية وبين تصورات العلم الحديث، وهذه الطبيعة حزء منها مرتبط بالتصورات المستقرة في الأذهان عن موقف الدين من العلم من ناحية، وموقف العلم من الدين من ناحية أخري، وجزء منها مرتبط برسوخ بعض التصورات والتقاليد المعادية من حيث المبدأ للتفكير العلمي الصحيح .
فسوء أداء الأنظمة العربية ليس كافيا لمنع ظهور التوجهات العلمية والابتكارات التكنولوجية وحب العلم للعلم باعتباره قيمة في ذاته، أو لمنع انتشاره في تصرفات الناس بشكل طبيعي .. ألخ، وضعف النظام المجتمعي وكبت الحرية يضعف الأداء في كافة نواحى الحياة ولكنه لا ينهيه تماما كما هو الحال مع العلم . فعلى سبيل المثال رغم ما مر به المجتمع المصري فقد ظهر الفن المصري متميزا، وكذلك النشاط الرياضي، ووجود حركة في منظمات المجتمع المدني والنشاط السياسي، ولكن سقط الاهتمام بالعلم ولم تتحقق النهضة .

1 - الأسباب الحقيقية لهذا الفشل
لتحديد الأسباب الحقيقية لعدم تغلغل العلم في المجتمعات العربية من الضروري إدراك أن العلم ليس مجرد تصورات عن الأسلوب التجريبي للتعامل مع الطبيعة والمجتمع، وإنما هو مفهوم مرتبط بفكر الحداثة ومفاهيمها الأساسية بمعنى العقلانية والموضوعية والسببية وقدرة الإنسان على التوصل لقوانين الكون، وحينما حاول الفكر العربي معالجة قضية العلاقة بين العلم والمجتمع تمت المعالجة عل مستوى السطح فقط، أي على مستوى نقل المعارف والنظم، ولم تجر أية محاولات جادة لإنشاء العلاقة بين الأسس الفكرية للعلم الحديث وبين الأسس الفكرية للثقافة العربية، فظهرت الأنظمة المزدوجة، وانفصلت الشخصية العربية بين مقتضيات العلم الحديث في الدراسة والتعليم، وظلت التصورات التقليدية الكامنة في اللاوعي مسيطرة على التوجهات والسلوكيات الفردية والمجتمعية .
نتيجة عدم بذل أي مجهود فكري ظل العلم مفهوما سطحيا بالنسبة للمجتمعات العربية، العلم انحصر كوظيفة لبعض الأفراد ولم يتغلغل في الأنشطة الحياتية للمجتمع، وظلت المكونات الثقافية التقليدية الكامنة متعارضة مع منطلقات العلم الحديث، كما ظهر التناقض واضحا في تصرفات الممارسين للعلم ما بين تطبيقاتهم للمفاهيم العلمية في المعامل والبحوث وبين أسلوب حياتهم وممارساتهم لأنشطتطهم الحياتية .
الموقف السائد في الفكر العربي هو موقف توفيقي بين التصورات الحديثة للعلم وبين النظم المجتمعية، ويرتبط تصورنا لهذه المشكلة من تصورت الثقافة الإسلامية عن العالم ككل وعن العلم كجزء منها، وهذا التصور يرتكز على مفهوم أساسي مستقر في الأدبيات العلمية والفلسفية هو مفهوم "صورة العالم" أو " النظرة إلى العالم "Worldview .

2 - مفهوم النظرة إلى العالم
كل إنسان وكل مجتمع يمتلك نظرة إلى العالم بشكل غير واعي تحدد تصرفاته وسلوكه تجاه ما يتعرض له من قضايا ومواقف في كل نواحي الحياة، ومفهوم "النظرة إلى العالم" موجود في الفكر الغربي وهو يعود أساسا للفكر الألماني . ويمكن تلخيص موقف مارتن هيدجر لهذا المفهوم على أنه : ليس مجرد تصور عن نسيج الأشياء الطبيعية، ولكنه في الوقت نفسه تفسير للمعني والغرض للوجود الإنساني وللتاريخ . ويتسع ليشمل تفسير وتبريرا كليا للعالم، ليس من خلال المعرفة النظرية فقط، وإنما من قضية اعتقادات متسقة تحدد الأحوال الحالية للحياة بصورة صريحة ومباشرة، يمكن أن تتحدد بواسطة خرافات وتحيزات أو معرف وخبرة علمية كاملة، أو من خليط بين الخرافة والمعرفة والتحيز والمنطق الجامد .
فمفهوم "النظرة للعالم" هو مفهوم إنساني شامل بأقصى درجات الشمولية، وهو مفهوم بنيوي يتكون من بنية مفهومية جزئية، ومفهوم مركزي يقوم على الاعتقاد . والبنية المفاهيمية تتركب بشكل أساس من الكيفية التي ندرك بها العالم، سواء كانت دينية أو فلسفية أو علمية، ومن العناصر الأساسية في هذه البنية المفاهيمية مفهوما المعنى والغرض للعالم والوجود الإنساني .
والبنية المبدئية لمفهوم النظرة للعالم تتكون من ثلاثة موضوعات أساسية هي : تصوراتنا للموجودات في العالم، وتصوراتنا لأسلوب المعرفة، وتصوراتنا للقيم المجتمعية التي تحدد كيفية تصرفاتنا في المجتمع، وكل هذه التصورات هي اعتقادات، لأنها غير مشروطة بمنهج علمي تجريبي، أو بمنهج عقلي منطقي، وإن كانت تحتمل التوصل إليها بواسطة مثل هذه المناهج .
وهذه المجموعات الثلاث من التصورات لا تكون منفصلة عن بعضها، ولا يمكن أن تتعارض مع بعضها البعض، فعلى سبيل المثال، النظرة التي تفترض الوجود المادي للعالم فقط، وتنكر الوجود فوق الطبيعي، لا تستمد القيم من مصدر فوق طبيعي، وإلا كان ذلك تناقضا، وإنما تمتلك منظومة قيمية معتمدة على العقل الإنساني، وبالعكس، النظرةالتي تعترف بوجود إله خالق، كموجود غير طبيعي، لا تستمد القيم من العقل وحده، وإلا كان ذلك تناقضا، وإنما تمتلك منظومة قيمية تعتمد على الدين، وهذا هو مبدأ الاتساق .

3 - معايير معالجة الموضوع
النهضة مفهوم عملي بالأساس، لذلك فالشرط الأساسي لطرح تصور مقبول عن فكر النهضة هو أن يكون تصور واقعي، بمعنى أن يهدف إلى تحقيق هدف محدد يؤدي إلى تغيير في أرض الواقع، وبهذا المعنى يصبح من اللازم طرح العلاقة بين العلم الحديث وبين تحولات النهضة العربية، والقضية موضوع الخلاف هي العلاقة بين نظرة الثقافة العربية الإسلامية وبين النظرة العلمية للعالم المعاصر، وهناك ثلاثة تصورات مختلفة للموضوع :
أولا : محاولة تحقيق النهضة العلمية في المجتمع بدون محاولة إنشاء علاقة بين نظرة الثقافة العربية وبين النظرة العلمية .
ثانيا : محاولة تحقيق تلك النهضة من خلال محاولة تحقيق اتفاق أو تطابق بين النظرة العلمية وبين نظرة الثقافة العربية .
ثالثا : محاولة تحقيق النهضة ليس من خلال التطابق بين النظرتين، وإنما فقط من خلال تحقيق نوع من التوافق أو الاتساق بينهما . و"التوافق أو الاتساق "Consistency مفهوم موجود في فلسفة العلم، وهو مفهوم
واقعي أكثر منه نظري، ولا يعنى التطابق أو التماثل، وإنما يعني فقط عدم وجود أي تناقضات أساسية بين تصور معين وباقي تصوراتنا ومعارفنا عن العالم .
الهدف الأول فشل في تحقيق نهضة عربية في القرن الماضي لأنه غير واقعي وغير قابل للتحقيق، والهدف الثاني أيضا غير واقعي، أما الهدف الثالث فهو الهدف الوحيد الممكن والقابل للتحقيق، والذي يهدف لتحقيقه المؤلف ، والاتساق المطلوب يتحقق حينما يمكننا الرد على السؤال : كيف يمكن أن يصبح العلم مكونا جوهريا في المجتمع العربي؟ . لتحقيق ذلك لابد من أن يتحول العلم إلى قيمة مجتمعية أساسية، فالمفهوم الأساسي الذي يعمل من خلاله المجتمع هو مفهوم القيم، فالبشر لابد أن يتفقوا على الأهمية الاستثنائية لبعض الأنشطة والمعاملات، فإذا كان المجتمع قد اتفق على قيمة الأمان كقيمة أساسية يجب أن يلتزم بها الجميع لتحقيق الأمن الجماعي، وأن الأسرة كقيمة لتحقيق التوافق بين الجنسين، وأن الاخلاق العامة والتكافل الاجتماعي واحترام القانون كقيم مجتمعية عليا .
لذلك إذا أردنا أن يصبح العلم جزءا أساسيا من حياتنا فلا يمكن أن نقرر بأهميته للمجتمع أو لإثبات الاتفاق بين العلم وبين ثقافتنا، ثم ننصرف إلى شئوننا، وإنما من الضروري أن نعمل على أن يصبح قيمة مجتمعية أساسية مثله في ذلك مثل باقي القيم المجتمعية، وتحول العلم إلى قيمة مجتمعية أساسية، هو هدف فكري له متطلبات وشروط يمكن توضيحها فيما يلي :
• يحتاج تأسيس العلم كقيمة أساسية في المجتمع أن يكون مفهومنا عنه متسقا مع تصوراتنا عن العالم، وأن لا يتناقض هذا المفهوم مع أي من اعتقاداتنا الأساسية، وهذا يطرح القضية الجوهرية عن العلاقة بين العلم والدين، وما يتفرع منها من قضايا فرعية كمثل قضية الحرية والحتمية وحدود المعرفة الإنسانية .. ألخ .
• وضوح العلاقة بين العلم والمجتمع، فلا يكفي أن يقتصر على المقررات الدراسية والتجارب والبحوث العلمية، ولابد من أن يكون نشاطا مجتمعيا شاملا يشمل أنشطة الإنسان في كل مجالات حياته .
• من المهم التفرقة بين الحديث "عن" العلم، والحديث "في" العلم . فالحديث عن العلم هو حديث عن العلم كموضوع من الخارج بدون معرفة حقيقية بالقضايا الجوهرية في العلم، سواء على مستوى موضوعات فلسفة العلوم أو موضوعات العلوم الأساسية، أما الحديث في العلم فهو حديث عن القضايا التي يوجهها الفلاسفة والعلماء عند معالجة المشكلات العلمية المختلفة، في الحالة الأولي يكون الحديث نوع من الوعظ والتوجيه بدون اكتساب معلومات، أما في الحالة الثانية فيكون الفرد مشاركا في القضايا والمشكلات التي تواجه العلماء، كما يستلزم ذلك نوع من المعرفة بالمشكلات المشتركة بين التخصصات والعلوم المختلفة، فنجد ارتباط وثيق في العلوم المعاصرة بين نظريات الكم الفيزيائية، ومفهوم الوعي ذو الأصول الفلسفية، وعلوم الحاسبات والكمبيوتر، والعلوم البيولوجية والجينية ( مفهوم المنظومة العلمية) .
• توفر قدر من عرض المعارف بشكل مفهوم لغير المتخصص من خلال العمل على تبسيط العلوم والمفاهيم الفلسفية، وسد الفجوة بين المتخصصين في العلوم الإنسانية، والعلوم الأساسية، وهنا يأتي دور الثقافة العلمية التي تمكن الإنسان من الاستمرار في متابعة المعرفة العلمية والارتباط بها .
• يحتاج تأسيس العلم كقيمة في المجتمع إلى معالجة الارتباط بين الفرد في حياته العامة والخاصة وبين العلم، وحتى يتحقق ذلك من الضروري إثبات أن التعامل العلمي، بالمعنى المجتمعي العام يستطيع أن يغير من حياة الفرد إلى الأفضل، فتصبح المساهمة في العمل العام، والمشاركة في صنع واتخاذ القرار السياسي والمجتمعي، وليس في ذلك مبالغة لموضوع العلم كي يصبح نشاطا عاما، فالمجتمعات الغربية التي نجحت في إنجاذ النهضة، لم تحقق ذلك إلا بسبب "الإيمان" بالعلم، فبالنسبة لمجتمعات الحداثة في أوروبا ظهر مفهوم العلم باعتباره أسلوب حياة، ووسيلة خلاص، فالمهم أن يتحول هدفنا لإنشاء العلاقة بين العلم والنشاط المجتمعي عموما ليس إلى مجرد شعار، وإنما أن نحقق الشروط التي تكفل تحقيق هذا التحول إلى أرض الواقع .
إذا تحققت هذه الشروط في العمل لتأسيس العلم كقيمة مجتمعية، كان من الممكن اعتباره عملا صحيحا له مضمون عملي حقيقي يؤدي إلى النهضة ويكون له دور حاسم في أحداث التقدم، وليس مجرد تصورات نظرية تهدف لاستخدام العلم كشعار عام خال من المضمون .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟