الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعمارنا ليست عزيزة علينا ، وحربنا معها مستمره .

حامد حمودي عباس

2010 / 4 / 1
المجتمع المدني


منذ اللحضات الاولى لبشائر الولاده ، وحين تنطلق في الفضاء المحيط أحلى صرخة يسمعها الآباء ، حين يبدو للعيان كائن جديد يحمل أسماءهم ، ويجسد أمامهم أعمق معاني التكوين الاسري المقبل .. منذ تلك اللحظات الجميلة للبعض ، والمريرة للبعض الآخر .. يبدأ العد العكسي متسارعا وعلى غير طبيعته وباتجاه النهايه .. فما أن يمر اليوم الأول لولادة طفلنا العزيز حتى نستعد لاحياء حفل بلوغه أسبوع من العمر ، يليه الانتظار لأن يبلغ من عمره حدا يجعلنا مطمئنين لحاله حينما يحبو .. ويستمر العد وبعجلة من الامر ، وكأننا في تسابق مع الزمن ، كي نفخر أخيرا بانه قد بلغ الصبى ، كل ذلك وعملية الحساب والشطب على الأيام في رزنامة التاريخ وبدون أي شعور بالملل مستمرة ، والعمر يجري وهو يقضم بعضه ساعيا لبلوغ مؤخرته ، لا يوقفه عن ذلك الا بلوغ تلك المؤخره .

الحصيلة دائما في نهايات أعمارنا واحدة .. قبر بائس مهما بالغنا في إعداده ونحن على قيد الحياة ، محفور على أرض موحشة يخاف ان يطأها بقية البشر ، وحكايا لجن يسرح ويمرح فيها ، وأصوات لمخلوقات يخيل لنا بأنها تخلد هناك .. المكلفون بالدفن في مقابرنا هم من الفنانين بكسر رقاب الموتى ، وثني اجسادهم كي تكفيهم حفرهم التي أعدت لمثواهم الاخير ..

أحدهم ذكر لي وملامحه تنطق بالرعب ، كيف أن موتانا نحن فقط ، تنتظر البعض منهم أنواع من الافاعي الضخمة ، تسكن في قبورهم قبل حفرها ، لتستقبلهم وتنتقم منهم شر انتقام .. عندها كان عجبي ليس له حدود من أننا نستعجل بلوغ اعمارنا نقطة اللاعوده ، حينما نبالغ في محو شهورها لنلقي بها خلف ظهورنا دون ابطاء .

لقد بدأت أنا مثلا بالإنابة عن والدي ووالدتي حين غابا عني ، حيث كانت لي رفقة حميمة مع عمليلت العد تلك ، فكنت وعلى الدوام ، اقوم بتنظيم قائمة متسلسلة باسماء الايام وتواريخها لأشطب عليها واحدا تلو الاخر ، منتظرا وبفارغ الصبر ان ينقضي شهر من مدة خدمتي في الجيش ، وكنت حينما أبلغ اليوم الاخير من الشهر، أحس بسعادة غامره ، متناسيا بان ذلك الشهر قد ذهب من عمري ، حيث لم يكن أي معنى لشيء اسمه عمر ، المهم هو ان تنقضي تلك المدة المليئة بكل شواخص الخوف والمذلة وترقب النهايات غير المعروفه .. كان اليوم الواحد يحمل في طياته مئات الاحتمالات السوداء والتي توحي بالعذاب والمهانه .. جوع دائم للحرية والانعتاق ، ولم يكن خلال تلك الايام العصيبة هدف واحد يمكنني من خلاله اعتبار ما أنا فيه ، دفاع عن مقدسات ارض سليبة أو وطن مهدد .

أعقب ذلك عد آخر ، حين إرتحلت بي الظروف لتجعلني عسكري بهيئة مدنيه ، وكنت يومها اشطب أيامي بقوة وكأنني في عداء مستفحل معها .. لقد كان جميع من معي يفعلون ما أفعل .. إنه إلغاء جماعي للايام والاشهر والسنين كي تندفع جميعها باتجاه النهاية ليحل الخلاص .. ترى من .. من العراقيين لم يلجأ الى شطب أيامه وبالطريقة التي كنت افعل بها أنا ؟ ..

إنني أتذكر جيدا تلك القصاصات التي كنا جميعا نعلقها على الجدران القريبة من مضاجعنا ، حيث نقوم احيانا بشطب يوم لم ينتهي بعد ، وحين نفعل .. كنا نحس بلذة متناهية ، كوننا اقتربنا خطوة جديدة من موعد تحررنا من المشاركة في لعبة موت لا تريد أن تنتهي .

أسرنا هي الاخرى مشغولة بشطب أيامها بانتظارنا .. تفعل ما نفعل ، ولكن بطريقة أخرى .. إنها تقوم بدفع نهارها والليالي ، كي يحل موعد عودة ربها من ساحات الوغى الموبوءة بروائح الفناء ، علها في تسارع الايام الراحلة من العمر ، تحضى بحلول الفرج ، وتلتئم العائلة كاملة لتنعم بالسعادة المفقودة ولو لأيام .

الموظفون والعمال ، ومن يقود حافلات النقل العام ، الطلبة والاساتذه ، الجنود والبحاره ، النساء والرجال ، وغيرهم في بلادنا ، جميعهم في شغل من أمرهم ، جادون في عمليات ذبح الزمن ومحاولة التخلص منه على عجل .. إنه ثقيل الحضور لا تهواه النفوس ، ممل لا يحمل الجديد .. أغبر تملؤه الحسرات ويلفه الضجر .. زمن كئيب ، حينما يدفعه صاحبه الى هاوية ينكفيء عندها ولا يعود ، يحس بالراحة والهناء .

لا أعرف سببا بعينه لتلك العداوة المزمنة بيننا وبين الزمن .. فالجميع منا حاذق في عمليات قتله والتخلص منه عن عمد ومع سبق الاصرار والترصد .. أعمارنا بدت حملا ثقيلا على قلوبنا وعقولنا ، وكذلك أجسادنا .. ومن يشعر بخفة وزن العمر على اكتافه فهو إما غير سوي العقل ، أو أنه ليس منا ، ولا ينتمي إلى عالمنا المسمى باسمائنا المعروفه .

لقد إخترعنا ، وبعزيمة الابطال ، سبلا شتى لقتل الزمن ، فكانت الاركيلة والمسبحة وجلسات القات والاسترخاء الطويل على تخوت المقاهي ، وكانت لنا صولات انتصرنا فيها جميعا حينما نلنا من أوقاتنا الفائضة على الدوام ، لنحيلها الى ركامات من عدم ، لا معنى لها ولا مضامين بعينها وليس لها من أثمان .

ومما إخترعناه أيضا ، هو أن نجعل من سنتنا مقسمة الى عطل لا حدود لها .. إننا حينما نضجر من زمننا ، نحيله الى عطل رسمية كي ننعم بنعمة القيلولة الهانئة .. وعندما لا تكفينا مناسباتنا الحاضرة ، نغور في اعماق الماضي لنبحث في السيرة الذاتية لعضمائنا القدماء ، كي نعثر على تواريخ ميلادهم وزواجهم ، ويوم ضاجعوا سباياهم ، لنحتفل بتلك المناسبات ، ونمنح انفسنا فرصة كي ننعم من خلالها براحة البال .

هكذا نحن .. أمة لم تغفل قدسية قتل الزمن وهدر دمه على الدوام ، وسوف تبقى سلسلة عمليات هدر الدم تلك ، قائمة لا تنقطع ، حتى تتوقف أعمارنا عن الحركة رغما عنا .. حينها ، سوف لن يكون علينا بالضرورة أن تستمر حربنا مع شيء بغيض إسمه الزمن .. فنريح ونستريح .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عزيزي الأستاذ حامد المحترم
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 4 / 2 - 08:05 )
مقالك هذا أكاد أعتبره رداً على تعليقي في مقالك السابق منذ ثلاثة أيام , لأن منْ يتبع نصيحتي التي أشرت بها عليك فلا جدال أن الزمن سيكون سيفاً بتاراً لعمره , وبعيداً عن السخرية المؤلمة من المفارقات في حياتنا فأنت هنا تفلسف الزمن وتعطيه بعداً مرتبطاً بالوعي , وهي دعوة للحياة بكل تأكيد . فكل فعل نقوم به في حياتنا إن لم يتمّ تخزينه بالذاكرة بوعي فسيحال فوراً إلى النسيان ويضيع معه جزء من عمرنا , وكلما كان الانسان قادراً على إعطاء مفهوم للزمن الماضي كلما طال الزمن وطال النظر إلى المستقبل أيضاً . لم تذكر لي إن اتبعت نصيحتي في المقال السابق لكني فهمت أنك رفضتها من فهمي لهذا المقال . نعم , رصد الانسان( والمحيط ) والتفاعل معه بوعي واخلاص هو إنعاش للعمر وللحياة , هذا ما أؤمن به بقوة وبعزم , عدا ذلك فهو استهلاك البطران لزمنه سرعان ما يفلت منه لبلوغ مؤخرة العمر . مقال جميل حقاً


2 - خيانة الزمن
عبد الرحمن حمومي ( 2010 / 4 / 2 - 18:49 )
وانا اقرأ هذا المقال اصبت فعلا بما يشبه الذهول في تشابه احوالنا واجماعنا اللا شعوري على الاغتيال الاستباقي للزمن،رغم انه الفرصة الوحيدة الملموسة الدالةفي الرحلة القصيرة للحياة مابين الولادة والاقبار ما الذي يحدث في ادمغتنا العاجزة المحاصرة لماذايتم ترويج ان الحياة لا تستحق كل عناء العمل والتفكرام انها ليست سوى سيكولوجية المقهور يتم اعادة انتاجها في غياب اي فعل تا ريخي لاممنا المنذورة للانقراض؟هل فعلا لم يتبق شيءامام هذا التقدم الكاسح للافكاروالابداع التكنولوجي ام ان استشعار الموت ضروري لتعبئة القوى الكامنة التي لم تجرب بعد لاسباب يدركها ذوي الالباب؟;;;

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | تعرّض مروحية رئيسي لهبوط صعب في أذربيجان الشرقي


.. إحباط محاولة انقلاب في الكونغو.. مقتل واعتقال عدد من المدبري




.. شاهد: -نعيش في ذل وتعب-.. معاناة دائمة للفلسطينيين النازحين


.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل




.. وزير الخارجية الأردني: نطالب بتحقيق دولي في جرائم الحرب في غ