الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآخر في الدولة الإسلامية : جدلية القرب و النبذ

يوسف المساتي

2010 / 4 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اتجه القراء الجذريون للتاريخ الإسلامي نحو اعتبار القرن 06هـ/12م، لحظة مفصلية أرخت لدخول الأمة الإسلامية في مرحلة انتحار نهضوي، مرجعين ذلك بالأساس إلى التحالف التاريخي الذي تم بين الحكام و بين بعض المرتزقة من رجال الدين، بهدف أسر المجتمعات الإسلامية داخل بنى صلبة و رجعية، و ذلك عبر شن حرب ضروس على المعرفة العلمية و العقلية، تمثلت في عمليات السجن و الصلب و الإحراق التي تعرض لها العديد من رجال الفكر و العلم. كما جاء في المقال: "الجذور التاريخية للاستبداد السياسي" المنشور بمنتدى الأحداث يومي الأربعاء و الخميس 19-20 نونبـر 2008.
و رغم أن هذا الأمر لا يخلو من حصافة، إلا أنه ثمة سؤال أساسي لازال إلى الآن بلا جواب، و هو الذي نطرحه اليوم بالصيغة التالية: لماذا وقع العامة و الغوغاء (الشعب) أسرى لهذا التحول الخطير؟ ألا يؤشر هذا الأمر على أنه ثمة تحولات عميقة قد مست البنية الذهنية لهذه المجتمعات جعلتها تقع فريسة سهلة لتحالف الأمراء و الحكام؟. فإذا كانت هذه الفترة قد عرفت تغييرات مست جميع الأنماط و الأنساق، فإنه من الطبيعي أن يكون المستوى النفسي من أهمها على اعتبار أنه المحدد الرئيسي للعلاقة مع باقي الأنماط، التي اهتزت ليهـتـز معها التصور الجمعي للمعرفة العلمية و العقلانية، و هو ما استغله بذكاء التحالف السابق الذكر لينشر "حقده" على العقل و كل ما يمت له بصلة، و سنخصص هذه المساهمة للتحولات التي عرفها تمثل الآخر في البنية الذهنية الإسلامية و أثرها على المعرفة العلمية داخلها.
عرف توسع الدولة الإسلامية خلال العصر الأموي أوجه، بيد أن هذا التوسع كان بحد السيف، و هو ما جعل العلاقة مع الآخر تتخذ شكلا توتريا، سيساهم فيه بشكل كبير ذلك الاستعلاء الأموي تجاه العناصر غير العربية (الفرس، البربر...). من هنا ستتمثل البنية الذهنية للمجتمعات الإسلامية "الآخر" بشكل سلبي، و كان أحد الأسباب الرئيسية لسقوط دولة بني أمية. و بالتأكيد أنه داخل بنية ذهنية كهذه يستحيل بناء أي معرفة علمية أو عقلية، لأن الشرط الأساسي لبنائهما يتطلب تمثل التجارب السابقة و المعاصرة للآخر (تمثل تجارب الحضارات السابقة و المعاصرة)، فكيف الحال إذا كان الوضع على ما هو عليه، إذ أن رفض الآخر ذهنيا يعني قطيعة معرفية معه، ورفضا كليا لإنتاجه المعرفي. و هذا ما يفسر لماذا غابت خلال هذا العصر أي معرفة علمية أو عقلانية، و كل ما تم إنتاجه على مستوى علم الكلام أو الفقه لا يخرج عن دائرة الصراعات الإيديولوجية التي عرفها المجتمع الإسلامي منذ الفتنة الكبرى.
بيد أن سقوط الدولة الأموية و قدوم بني العباس على أكتاف الفرس بصفة خاصة، سيفرز تحولات مهمة إذ سيصبح الآخر الذي كان ينظر إليه "باستعلاء أو بعداء" شريكا على عدة مستويات، بحيث أصبح عنصرا مؤسسا للدولة، و شريكا اقتصاديا حيث لبني العباس، كما عرف هذا العصر بعثات دبلوماسية متبادلة بين المسلمين و غيرهم، و هو ما سينعكس على البنية الذهنية للمجتمعات الإسلامية و على تمثلها للآخر. و انطلاقا من هذا الأساس سيشهد هذا العصر إقبالا على العلوم "الدخيلة"، و على مصنفات الآخرين في شتى المجالات، مع نشاط لحركة المعتزلة و الفرق الكلامية الذين وظفوا تراث الأمم السابقة، و هو الشيء الذي مكنتهم منه عملية الترجمة التي انتشرت على نطاق واسع في أرجاء الدولة الإسلامية.
ستساهم هذه العملية (ترجمة تراث الآخر) في بناء المعرفة العلمية و العقلية للمجتمعات الإسلامية، و سيصبح المناخ الفكري منفتحا على الاجتهاد و على تحرير عقال العقل، و هو الأمر الذي سيلقي بظلاله على الفكر الديني، حيث ستظهر المذاهب الفقهية الكبرى، و تعطى الأهمية للقياس العقلي و المنطقي. إلا أن هذه المرحلة لن تدوم طويلا فسرعان ما ستتم العودة لعصر القطيعة الذهنية مع الآخر "العصر الأموي"، و التي ستبلغ أوجها خلال القرن 5-6هـ/11-12م.
قبيل القرن 5هـ/11م بقليل ستدخل المجتمعات الإسلامية في حالة من التصدع السياسي، و ستحدق الأخطار بها من كل جانب، و هو ما سيؤدي إلى تحول ذهني خطير داخلها – المجتمعات الإسلامية- فيما يخص تمثلها للآخر، إذ سيتحول من "ند أو شريك"، إلى عدو مرفوض يجب نبذه و "محاربته"، و هكذا يمكننا الحديث عن حركة ارتدادية نحو عصر القطيعة الذهنية مع الآخر، و هو ما سيلتقي مع تحالف تاريخي خطير تم بين الحكام و بعض المرتزقة من رجال الدين لشن حرب كبرى على المعرفة العقلية و العلمية، الأمر الذي سيؤدي إلى توقف شبه تام للفكر الفلسفي و العلمي بفعل افتقاد العلماء لأي حماية أو قاعدة شعبية تحميهم من بطش التحالف الحاكم.
لقد تحولت البنية الفكرية للمجتمعات الإسلامية إلى بنية جامدة و متحجرة ترفض بشكل قطعي أي معرفة مرتبطة بالآخر، أو أي أسئلة حول المستقبل، لقد أصبحت -المجتمعات- محتاجة إلى الإطلاق، و إلى الأجوبة النهائية، فالأزمة في عمقها كانت أزمتين، الأولى وجودية مرتبطة بمستقبل الذات الإسلامية في ظل تحولات موازين القوى، و الثانية أزمة تمثل للآخر و تصور للعلاقة معه.
و من أجل ترسيخ القطيعة مع الآخر، و الانغلاق على الذات أكثر، سيلجأ تحالف الحكام و الفقهاء إلى حيلة تبدو في ظاهرها بريئة إلا أنها في الواقع عكس ذلك تماما، إذ ستنشط في هذا العصر حركة ترجمة الأعلام و الصحابة منهم بصفة خاصة، و قد عمدت هذه المؤلفات إلى رسم صورة مثالية للصحابة تكاد ترتفع بهم إلى درجة التقديس، متجاوزة عن صفاتهم البشرية و مصنفة إياهم ضمن مقدسات الأمة، و نعتقد أن هذه الحركة قد جاءت بهدف أساسي هو تغييب الآخر من البنية الذهنية الإسلامية و بالتالي إلغاء تراثه المعرفي معه، أما الهدف الثاني لعمليات ترجمة الأعلام على النحو الذي ذكرناه فكان هو إضفاء المشروعية على الحاكم و الفقيه، باعتبارهما استمرارية للصحابة، و للرعيل الأول من "الصادقين المقدسين"، و هو ما يفسر كيف ارتفع مجموعة من العلماء و الحكام إلى مصاف المقدسات الكبرى.
لقد شهد ذلك العصر صعودا صاروخيا للمقدس بمختلف أشكاله، و تقوقعا على الذات الفردية، فيما يمكن أن نسميه "بديكتاتورية الفرد"، و البحث عن ذلك الخلاص الفردي، فكان انهيار المعرفة العلمية داخل المجتمعات الإسلامية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيسة وزراء إيطاليا في ليبيا لبحث التعاون المشترك بين البلدي


.. العراق.. زفاف بلوغر بالقصر العباسي التراثي يثير استفزاز البع




.. المخاوف تتزايد في رفح من عملية برية إسرائيلية مع نزوح جديد ل


.. الجيش الإسرائيلي يعلن أنه شن غارات على أهداف لحزب الله في 6




.. إنشاء خمسة أرصفة بحرية في العراق لاستقبال السفن التجارية الخ