الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التدين على الإنترنت

أحمد محمد صالح

2004 / 7 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أن دراسة تأثيرات التقنية على المجتمع ، وبالأخص على الثقافة ، فى منتهى الصعوبة ، لأن " الثقافة "مفهوم معقد للغاية ، والتغييرات الثقافية بطيئة عادة . لكن هناك العديد من مؤسسات المجتمع ، والتى تعتبر جزءا من التراث الثقافي - مثل أشكال السلطة ، والتعابير المختلفة للفن المبدع، يفضل دراستهما بشكل منفصل ، بسبب تغييرات التقنية العميقة والسريعة على تلك المؤسسات . على أية حال عدد كبير من المؤشرات الثقافية الأخرى التي تتطوّر ببطئ أكثر مثل معتقداتنا، ولغاتنا وعاداتنا، يصعب جدا ملاحظة تغييرات التقنية عليها ! وبصفة عامة يصعب قياس الاختراق المحتمل الأعمق للتقنية في حياتنا الاجتماعية.
والجهد المبذول لدراسة تأثير التقنية على الثقافة يطرح فى الحقيقة المزيد من الأسئلة ! اكثر من كونة يقدم إجابات شافية . لكن الأسئلة تنير لنا الفهم بطريقة ما، لأن كلّ وقفة سؤال يقدم لنا سلسلة من الاحتمالات المثيرة، ويعرضنا لطرق جديدة للتفكير ، وفهم التغييرات التي تحدث حولنا . ونبدأ بطرح بعض الاسئلة ، التى نزعم انها تقدم لنا مزيدا من الأسئلة لفهم تأثيرات تقنيات المعلومات ، خاصة الإنترنت على الثقافة :
1- هل سوف نتكلم كلنا فى العالم لغة واحدة يوما ما، أو عدة لغات؟ ان تقنيات الإتصالات والنقل بالإضافة إلى الهجرة والغزو، بالطبع - ذهبوا بعيدا لتقليل العزلة الجغرافية التي أنتجت بغزارة اللغات الإنسانية المختلفة، فهل ستختفي تلك اللغات المختلفة يوما ما ؟ وهل سيتعلم تلاميذ المدارس حول العالم الإنجليزية أو لغة التعارف القادمة ! ؟ هل ستنجح تكنولوجيات المعلومات فى تسهيل عبء الترجمة، وتقلل الاختلافات بين لغات العالم ؟ هل سيتكرر السيناريو التوراتي لبابل - بتبعثر القبائل فى الكلام بألسنة غير مفهومة ، أم ان مهارتنا العالية فى التقنية تشجّعنا للإرتفاع إلى مستويات جديدة؟
2-هل ستقلل الإنترنت الاختلافات بين الثقافات ، أو ستصبح تلك الاختلافات أكثر تعقيدا؟ وإذا كانت الثقافات تملك أنماطا وممارسات متميّزة، وان تلك الفروق والتمايزات مهمة للإنسانية ، فهل ستتوفر فرص متساوية توفر للناس إمكانية الوصول السهل والرخيص إلى ثقافات أخرى على الإنترنت ؟ هل سيتعلّم الناس أن يتحمّلوا ثقافات أخرى ، ويتسامحون معها على حساب ثقافتهم ؟ هل يصبح كوكبنا متجانس أو اكثر تنوّع ثقافى ؟
3-هل يتباطأ التطور الثقافي أو يسرّع؟ فالثقافات تتغيّر ببطيء، ويعتقد بعض الناس ان تقنية المعلومات ستساعد جيدا على إبقاء وصيانة وإبلاغ العناصر الرئيسية للثقافة ! وأنها يمكن ان توقف التغيّرات في العديد من المعتقدات والممارسات التى يمكن أن تأتى من الآخر ! لكن ألا يحتمل أن التعرّض المستمر إلى المعتقدات والممارسات البديلة ، يسرّع فعلا من سرعة التغيير الثقافي ؟!
4-هل سوف يزيد تفاعلنا مع بعضنا البعض ، ام يقل ذلك التفاعل ؟ تتضارب نتائج الدراسات التى نشرت حول الكيفية التى تجعل تقنية معلومات تميل إلى عزل الناس أو تنجح فى تجمعهم سويا . وتحت هذه الادّعاءات السهلة، هناك أسئلة مهمة حول تأثيرات التكنولوجيا على كمية الوقت الذى نقضيه مع الناس الآخرين ؟ وماذا نعنى "بقضاء الوقت مع الآخرين."
5- هل تصبح الأديان على حدّ سواء ويزداد التسامح بين أصحابها ، وتتقارب أكثر؟ هل سوف يتفق أصحابها أو سيتباعدون ؟ كان هناك دفع عظيم في السنوات الأخيرة لإثارة التشابهات بين الأديان المختلفة، بدلا من اختلافاتها. هل تنجح تقنية المعلومات فى تقديم الأديان المختلفة إلى العديد من الناس ؟ وهل الناس سيكونون أحرار لاختيار دينهم من بين الخيارات المطروحة ؟ إذا كان الأمر كذلك ، ما معنى الجوهر العميق للمعتقد الديني إذا تحولت الأديان للإختيارات مجرّدة؟ هل تجعل تقنية المعلومات الأمر أكثر سهولة على الأديان لجذب وتجنيد الأعضاء الجدّد، أو تصعب الموقف ، بسبب عدد الخيارات المتوفرة؟ هل يمكن أن تتماثل وتندمج الأديان ؟
ولأن الثقافة تميل إلى التطوير والنمو البطيء، فمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة ستأخذ دائما شكل الاستنتاجات الضخمة التى نتوصّل إليها من الأدلّة الصغيرة جدا. وهذا يزيد التناقضات حول الثقافة ، وحقيقتها ، فالثقافة هي المجال الوحيد الذى نمارس فيه فى نفس الوقت اقل واكثر تحكم وسيطرة على التكنولوجي ! فبينما نحن نمارس إجراءات نهائية للسيطرة على الاعتقادات واللغات والعادات ، التى نمارسها ، نجد ان الثقافة يشترك فيها ويؤثّر عليها الاختيارات المستقلة للملايين الآخرين.
نقطة تحول
ان ما يسمى " عصر المعلومات " نشر تأثيره بشكل تدريجي إلى مجال الدين ، ونعنى تحديدا في الطرق والوسائل التى تستعملها الأديان للتعليم ، والهداية ، والإرشاد ، ومجمل أنشطة التحويل العقائدي ، وأيضا في أنظمة المعتقدات. وحدثت تطوّرات بارزة جدا ، تضمّن فى الحقيقة إمكانية الفرصة لأيّ دين الآن للانتشار إلى ما بعد حدوده الوطنية، وتسمح لحركات دينية جديدة وصغيرة ، فى القيام بأنشطة الهداية والإرشاد للتحويل من عقيدة إلى أخرى خارج الحدود الوطنية ، ويؤدّي ذلك إلى تطوّرات دينية غير مرئية حتى الآن، والكلام هنا عن الدين كظاهرة اجتماعية ، وليس الدين نفسه . وإذا كان من المستحيل التخمين كيف ستتطوّر هذه العملية في المستقبل ! لكن من الأرجح ان المعلوماتية الدينية ستنشر ، وتوزّع باستفاضة ، وعلى نحو متزايد، وبطرق مختلفة لم تكن معهودة ، وستتشكل أنماط جديدة من المؤسسات الدينية ، محتويات نشاطاتها وتعاليمها ، أكثر خبرة وتجربة ، واكثر تمردا وتغييرا من قبل . بهذا المعنى، الأديان عموما ستواجه نقطة تحوّل كبيرة !
وتكافح الكيانات الدينية الآن من أجل موازنة تقاليدها الأصيلة في أغلب الأحيان بالحقائق الجديدة لعصر المعلومات. لكنها في بعض الحالات، تصرّ على أهمية عمل الأشياء، بالطرق التقليدية ، بينما هناك آخرون استعملوا الفرص التى وفرتها التقنيات الجديدة في محاولة لتقوية مؤسساتها الحالية، فقد بدأت كنائس ايرلنده الكاثوليكية بتجنيد الكهنة على الإنترنت ، بعد ان واجهت نقص فى الكهنة ، وحرصت على توظيف التقنية لجذب شباب أكثر للتدريب ككهنة . واصبح للعديد من الكنائس والمساجد والمعابد فى الولايات المتّحدة مواقع على شبكة الويب، حيث وظفوا التجارة الإلكترونية لجمع الأموال لنشاطاتهم الدينية وللأغراض الخيرية، وفى نفس الإطار استغل المسلمون البريطانيون التليفون المحمول للأذّن للصلاة !
توم بيودوين، عالم ديني كاثوليكي ومؤلف كتاب "الإيمان التخيليّ(1998) قال: "الإنترنت دعوة للناس الشكّاكة لتلقى كافة الإجابات عن أسئلتها الدينية الى يريدون بها إستكشاف جوهر الدين . فقد إستلم رسائل بريدية إلكترونية في الساعة 3 صباحا من ناس عمرهم ما دخلوا كنيسة في حياتهم " ، السّيد بيودوين، قلق جدا من مواقع الأديان على الإنترنت ،و يقول : بأنّ تلك المواقع تساهم في جعل الدين مثل قوائم برامج الكمبيوتر ، تختار منها ما يفيدك ! أو مثل قائمة الطعام تختار منها ما يعجبك ! مجرد اختيار شخصى ! فالإنترنت توسع النطاق الجغرافى الذى يمكن ان تصل إليه الأديان ، ولكنها فى نفس الوقت تعمل على تأكل جذور تلك الأديان ! وكل المعتقدات خلقت لها على الشبكة بيوتا روحية ، لكن بعض المواقع خلطت بين الصلاة والربح ! لقد أحدثت الإنترنت تحَوَّلات كبيرة َ فى الاستثمار والتسوق ، و الآن تؤئر على الكيفية التى يمارس بها الناس عقائدهم !ُ



أديان بلا وطن
والإنترنت نجحت كثيرا فى ، توسيع النطاق الجغرافى لوصول الكهنة ، والشيوخ ، والرهبان، الوعاظ ، والقساوسة ، والحاخامات سواء التقليديين منهم او نجوم التليفزيون والأعلام ، و عملت على تدعيم وانتشار شعبيتهم ! بل سمحت لهم بالوصول إلى الشواذ جنسيا والسحاقيات ، وبقية المنحرفين اجتماعيا فى جميع انحاء العالم ، والذين يتجنبوا دخول المساجد والكنائس والمعابد وبقية دور العبادة .
ونزعم بأنّنا سنرى تغييرا فى الشكل التقليدي الثابت للدين المرتبط ارتباطا حميما بالتاريخ ، والملتصق بالثقافات الخاصة للأمم ، فهناك ظاهرة جديدة هى امتداد وانتشار الدين ، بدون ان يكون ذلك مرتبط بأمة معينة ، او مجتمع بالذات ، او مجموعة عرقية خاصة! فالدين أساسا موهوبا بصفة الديمومة والبقاء . على سبيل المثال، بوذية الماهايانا طوّرت لنفسها وظائف إجتماعية مختلفة بشكل كبير جدا في البلدان المجاورة لكوريا واليابان التى نشأت فيها هذة الديانة ، ومن جانب آخر هناك الكثير من ذوى الجنسيات الأمريكية والأوروبية ، الذين اسلموا فى بلادهم ، او انحدروا من اسر مسلمة تعيش هناك ، واغلبهم من الزنوج ، لهم كتبهم ومطبوعاتهم ومجلاتهم ودعاتهم ومشايخهم وأغانيهم وأناشيدهم الخاصة ، انهم لا يعرفون اى مؤسسة دينية رسمية او أهليه من المنطقة الإسلامية الكلاسيكية ، بل لهم منظماتهم ، وهيئاتهم ، وهم هناك لهم همومهم كأقليات ، وتفسيراتهم للإسلام وفقا لعاداتهم وتقاليدهم هناك ، بهذه الطريقة، كلّ منطقة فى العالم يمكن أن تعرّف وتميز بواسطة خريطة توزيع مجموعاتها الدينية الرئيسية، بينما الدين في نفس الوقت ضمن كلّ أمة أو مجموعة عرقية يمتلك خصائصه الفريدة المميزة .
. وفى عصر المليتميديا او الأوساط المتعددة ، ظهرت أشكال جديدة إضافية للإتصال الإلكتروني مستندا على الحاسبات، وأصبحت المعلومات الدينية يتم تبادلها باستعمال البريد الإلكتروني ، وغرف الدردشة ، وبينما لا نستطيع توقّع مستقبل اتصالات الحاسب ، نجد ان المؤسسات الدينية التى تستند على مثل هذه الاتصالات الإليكترونية تعطى إمكانية لظهور " أديان بلا وطن " لا ترتبط ببلد المنشأ أو لها مقر واضح.، ونذكر هنا ان الفجوة بين العقلية التقنية ووجهة النظر الدينية قد لا تكون كبيرة كما تبدو ! . فالذين يعتنقون كلّ التقدّم التقني الجديد فى تكنولوجيات المعلومات ، ويوظفونه فى خدمة الأديان ، غالبا ما يكونوا مدفوعين بأحاسيس دينية .

العلاقات التوفيقية الجديدة
من الظواهر الاجتماعية الطبيعية فى المجتمعات ، هى حالة التعايش وأحيانا الاندماج والمزج بين مجموعات العناصر المختلفة من التيارات العقائدية ، حيث تتعايش تقاليد دينية متعدّدة. مثل العلاقة التوفيقية بين عقيدة الشنتو والبوذية المعروفة في اليابان، بينما توفيقية أخرى وجدت بين ديانة تاويسم، والكونفوشيوسيّة والبوذية في الصين، و أخرى بين البوذية والهندوسية في المناطق الواسعة من بلدان جنوب شرق آسيا ، هذا وتعتبر السيخية وهى شيء من الديانتين الإِسلامية والهندوسية تحت شعار (لا هندوس ولا مسلمون) . لكن ما هو الإختلاف بين هذه الأشكال الكلاسيكية للتوفيقية و"بين التوفيقية الجديدة التى نقصدها فى عصر المعلومات ؟ الإختلاف في ان التوفيقية الجديدة حدثت باندماج بين المذاهب والطقوس والشعائر بحماس شديد على أساس المعلومات التى توفرت من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصال الجديدة ، و في نفس الوقت ليس شرطا بالضرورة حدوث أيّ اتصال فعلي مباشر بين تلك المجموعات الدينية ، لأن اهم تأثير لعصر معلومات على الظاهرة الدينية ، أنه جعل الأمر أكثر سهولة فى الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالتعليمات والنشاطات والشعائر والطقوس للأديان الأخرى ، واصبح فى إمكان أولئك الذين لا يملكون التأهيل و التدريب الديني المحترف، يمكنهم أن يحصلوا على المعلومات بيسر ، وهذا يجعل الأمر أكثر سهولة لتشكيل حركات دينية جديدة ، بدون ضرورة الاصطدام بتقاليد مجتمعيه، بل من خلال تبنى شخصي عبر مصادر الاتصال المتعددة ! وقد رصدت ظواهر مشابهة في الأديان الجديدة فى الولايات المتّحدة ، و التعبير الأديان الجديدة هناك يستعمل للإشارة إلى الأديان التوفيقية التي تتضمّن قاعدة مسيحية بإضافة عناصر استعيرت من الهندوسية، والبوذية أوأى فكر شرقي آخر. وكانت بداية هذه الأنواع من الحركات الدينية على الساحل الغربي الأمريكي في الفترة بعد الحرب العالمية الثانية ، مثال حركة معبد الناس المشهوره بالإنتحاره الجماعي في جويانا عام 1978، وكانت بقيادة جيم جونز، الذي قيل بأنه كان متأثّرا بشدة بالفكر الماوي الصيني . من الناحية الأخرى، وكثير من البلدان في الشرق وجنوب شرق آسيا كانت مفتوحة ومستعدة من الناحية التاريخية إلى حركات دينية توفيقية ، فالعديد من المناطق الإسلامية ، و المسيحية، البوذية، والهندوسية، ، ومناطق ديانات تاويسم، والكونفوشيوسيّة ، توفرت فيها بيئة ثقافية تسمح لفترات طويلة من التعايش والسماحة بين الاديان المختلفة ، بما يتيح فى المستقبل كما يقول علماء الأجتماع الدينى ، زيادة فرص التعايش والسماحة فى تلك المناطق التاريخية مع انتشار تكنولوجيات المعلومات والاتصال ، ويوفر ذلك تربة مناسبة لظهور حركات دينية توفيقية جديدة !

عدم احتكار المعلومات الدينية
عصر المعلومات حول أعداد متزايدة من الناس ليصبحوا ليس فقط مستهلكين للمعلومات، لكن أيضا مرسلين للمعلومات بحكم حقّهم الشخصي ، حيث ساعدت تقنيات المعلوماتية على رفع المستوى الثقافى والفكري لعامة الناس ، ومنعت نخبة ثقافية محدودة من احتكار الحصول على المعلومات . والمعلومات الدينية على نفس النمط ، لا يمكن أن تحتكر فى عصر المعلومات من قبل المحترفين الدينيين، فكلّ شخص عنده فرصة الآن بأن يكون مرسل ،و مستلم، ووسيط للخطاب الديني، وأعطيت الفرصة لأعداد متزايدة من الأشخاص ، تظهر من الخلفية الشعبية ، ويصبحوا زعماء دينيين ، يعظون ويبشرون برسالة الهداية ، ليس فقط لعامة الناس من البسطاء ، بل يلتف حولهم آخرين ، وأولئك الأتباع يمكن أن يستديروا بسهولة ويرسلون الرسالة إلى الآخرين. ضمن هذه الحالة، نجد السلطة والقوّة التقليدية المسيطرة على المؤسسات والمنظمات الدينية ستميل إلى الضعف والتحول ! وبدل من استمرار السلطة الدينية التقليدية فى المحافظة على تعاليم وشعائر وتقاليد كل دين ، فيقوم الكهنة ، والشيوخ والرهبان، الوعاظ ، والقساوسة والحاخامات بترجمة وتفسير وتأويل المعلومات الدينية إلى المؤمنين، و على المؤمنين فقط أن يقبلوا تلك الترجمة وذلك التفسير والتأويل ، فهو دورهم الوحيد المقبول فى هذا الوضع ، نجد على الجانب الآخر الآن السوق الدينية الموجهة من قبل المستعمل ، الذى يجد من حقه المحاولة لاختيار أفضل البدائل القائمة على المنطق والعقل! خلاصة القول ان عصر المعلومات يؤدّي إلى انعدام المسافة بين المحترفين الدينيين والأتباع العاميّين ، وليس استثناء ان نجد ناس عاديين يمتلكون فهم أعمق لفلسفة الأديان أكثر من الكهنة ، والشيوخ والرهبان، الوعاظ ، والقساوسة ، والحاخامات ! و على الأرجح هذه النزعة ستَتَنَامَي في المستقبل، ففى مجتمع المعلومات عموما ستزول الفروق بين أهل الخبرة والمتخصصين والأفراد العاديين ! ومعنى هذا التطور أنّ الأديان التاريخية التقليدية ،والأديان السماوية من المحتمل ان تجد صعوبة لتطوير أنظمة تدريب لأجيال جديدة من المحترفين الدينيين ، وتصبح هناك صعوبة متزايدة جدا لأى مذهب او مجموعة داخل اى دين لإدّعاء الشرعية الدينية الفريدة ! وبينما يتقدم عصر المعلومات سيتزايد أعداد الناس الذين ينظرون إلى الخطاب الدينى فى اى دين من خلال منظور نقدى ، ورؤية نسبية !

الصلاة الافتراضية
يمتلئ فضاء الإنترنت Cyberspace بالمحتوى الديني، ويقدّم فرصا جديدة ، ويتحدّى كلّ سمات واعتبارات الدراسات الدينية، سواء التاريخية أو النصّية، أو الدراسات الميدانية . وكل الأديان التى كانت تعتمد على المطبوعات بكافة أشكالها لتوصيل رسالتها أصبحت الآن تدعو كافة المؤمنين لدخول عضوية فضاء الإنترنت ! وفى إمكانك الآن ، إذا لم تكن عندك هواية معينة ، ان تنظم وتبنى لك موقعا على الإنترنت ، وتقدم نفسك كواحد من الكهنة ، أو من الشيوخ ، والرهبان، والوعاظ ، والقساوسة ، والحاخامات! وكل الأديان لها نصوصها المقدسة ، بل ان بداية الإيمان دائما تبدأ بالنص ، وقد فهم المسلمون والبروتستانتيون، والكاثوليكيون، الأرثذوكسيون ، واليهود ، وغيرهم من اصحاب الديانات ، فهموا جميعا اهمية النص ، فكانت الرسالة المطبوعة هى الأداة الرئيسية التى تستخدمها الأديان فى توصيل رسالتها ، و كان اصحاب الديانات دائما يملكون مخاوف وحساسية من اى تكنولوجى جديد يهدد مكانة وأهمية النصوص ، ويتوجسون من تهديد العقيدة نفسها ، والمؤمنون دائما يلتفون ويتجمعون حول النصوص ( أهل الكتاب ) ! ومن هذا المنظور احتفل كل اصحاب الديانات بالأنترنت ، بتلك اللغة الأنسانية الجديدة hypertext ، التى تفعل وتغنى النصوص ، رغم ان هذه اللغة تتطلب مهارات وعادات خاصة فى القراءة والكتابة ! بل أنهم أوجدوا تشابه بين خصائص النص المقدس ، سواء القرآنى او التوراتى او الآنجيلى بخصائص النص الإليكترونى hypertext ، فكلاهما نصّ مطبوع يتكلم Text Talk ! وكلاهما يحمل من الإشارات والأدلّة، أو الصلات التي تشير إلى الأجزاء الأخرى !
لقد أدرك أصحاب الديانات المختلفة بسرعة كبيرة ما للإنترنت من أهمية في نشر أفكارهم والتبشير بها ، وإيصالها إلى أوسع قاعدة ممكنة من أتباعهم أو للآخرين، وعلى صعيد أخر وهو الأحدث والأطرف أن الصلاة أصبحت تبث على الشبكة، ويمكن المشاركة فيها دون الانتقال إلى أماكن العبادة نفسها. وهذا بالضبط ما فعلته مؤسسة "لوريس" للاتصالات التي أنجزت المعجزات خلال حفل نهاية العام الماضي، حيث كان يكفي لاتباع الديانة المسيحية أن يتطلعوا إلى شاشة ضخمة من نوع ويبكام لمتابعة الحفل الديني الذي أقيم بالمناسبة، كما كان يكفيهم أن يقوموا بإرسال بريد إلكتروني لتقديم واجب الصلاة. وإذا كان المسيحيون يستخدمون الإنترنت للصلاة، فإن المسلمين واليهود والبوذيين استخدموها للدعوة والتبشير بدياناتهم، هناك الآلاف المواقع الإسلامية ، التي لم تترك شيئا يخص العلوم الإسلامية إلا ونشرته! ورغم أن شبكة الإنترنت أخذت طريقها لتحل محل الدروس الدينية التقليدية للمسلمين والمسيحين واليهود ، إلا أن المناهضين للأديان يستطيعون بث نقدهم لها من دون أن تطالهم أيدي الدينيين والسلطات، لان جهل الهوية وإخفائها فى الإنترنت ، يشجع على المناقشة والنقد ، وتفنيد المسائل الدينية والروحية . والناس الآن فى الغرب يدخلون الإنترنت على المواقع الدينية المسيحية واليهودية ، ويؤدون الصلاة وهم على الخط ، واصبح من المعتاد عندما يواجه أحد الأفراد أزمة صحية ، تتوجه أسرته وأصدقائه لصلاة من اجله ، ليس فى الكنائس ، بل على الإنترنت من خلال المواقع الافتراضية للكنائس والمعابد ، حتى أصدقاء الأسرة الآخرين من عقائد مختلفة ، يدخلون الإنترنت ويرسلون صلاواتهم ، وهم مطمئنون ان أحدا لن يكتشف انهم على عقيدة مختلفة !

مخلوقات الشبكة الدينية
الدين حاضر جدا على شبكة الإنترنت العالمية ، وخاصة فى منتديات الدردشة ومجموعات الأخبار. وكل الأديان الرئيسية ، ممثّلة فى الإنترنت ، بل كل الطوائف الكبيرة والصغيرة فى تلك الأديان موجودة على الإنترنت ! وتقريبا كلّ الحركات الدينية الجديدة، آلاف من الشيع والفرق والملل حاضرة وموجودة ، وصفحات ويب شخصية غير معدودة تدار من قبل مؤمنين عاديين ، وقيادات دينية معلنة ، ومرشدين ، ودعاه ، ووعاظ ، وآخرون مهتمون بالأخلاق ، وأيضا هناك مرتدين وملحدين يهاجمون الأديان ! و الشبكة أفرّخت مخلوقاتها الدينية، فى مواقع الروحانيات ، والكنائس والمعابد الافتراضية و مواقع الأديان العلى الخط ! هذا غير المواقع التجارية العديدة التى ترغب فى الربح على حساب شهياتنا الروحية، وتزوّدنا بالأخبار الدينية، وتبيعنا معدات دينية متنوعة من ملابس و كتب وشرائط ، وبخور وروائح ! وتوصلنا ايضا إلى مئات المواقع الدينية الأخرى. وهناك أيضا آلاف المواقع التى انطلقت لتعليم الجمهور أو لمتابعة القضايا ، والمناظرات الدينية .
والناس على الإنترنت يمكن ان يمارسوا القراءة عن الدين، والكلام مع الآخرين حول الدين، وتحميل النصوص والوثائق الدينية، وشراء الكتب الدينية والمصنوعات اليدوية، ويقوموا برحلات سفر تخيّلية إلى معارض الفنّ الديني والمتاحف الدينية ، ويشاهدوا روائع العمارة الداخلية للكنائس والمساجد والمعابد ، ويفتّشوا فى الكتب المقدّسة التي تستعمل أدلة إلكترونية، ويحدّدوا أماكن الكنائس والمساجد والمعابد والمراكز الدينية، ويشاركوا في جلسات الطقوس والمراسيم والشفاعة والتوسط ، ويصوتوا على المقترحات التنظيمية، ويروا صور زعمائهم الدينيين، ويراقبون مقاطع الفيديو للمواعظ والتعاليم الدينية ، ويستمعون إلى الموسيقى الدينية مثل التواشيح والتراتيل ،والتسابيح والترانيم ، وايضا إلى الخطب، والصلاوات، والتزكيات، والمحادثات. وقريبا جدا سوف يستطيعون الإحساس بنسيج وبنيه الأهداف الدينيه المقصودة على شاشتهم ، و يشمّون رائحة حرق البخور التخيليّ على المذبح المولّد بالحاسوب !
والسؤال الذى يطرح نفسه الآن ! كيف يمكن لهذه التقنية ان تؤثّر على ديناميكا كيان من المؤمنين في تجمع ما ؟ فالاتصال بالبريد الإليكترونى بين القيادات الدينية والأعضاء ، والاتصال بين الأعضاء أنفسهم ، يتم من خلال تبادل الإعلانات أو النسخ الإلكترونية من نشرات أخبارهم وصحفهم ومطبوعاتهم ، وبعض الكنائس والمعابد لها بريد إلكتروني لإستقبال طلبات الصلاة الإلكترونية، وهذا لا شك يحسن خطوط التفاعل ويعزز الاتصال بين المؤسسة الدينية المعنية وقيادتها وبين التابعين ، لكن فى نفس الوقت يتوسط التفاعل بينهما ، وقد يأخذ مكان الثقافة الشفهية التى يتم فيها الاتصال بين الأعضاء عبر ساحة المؤسسة الدينية ، او على فنجان من القهوة ، او حتى عبر ثرثرة على التليفون ! فالنشرات الإلكترونية الدينية من قيادة دينية إلى التابعين ليست تماما مثل الزيارة التى تتم شخصيا بين القيادة الدينية والتابعين ، ولا حتى مثل الثرثرة التى تتم عبر بريد إلكتروني ، فلا شيء مثل الاتصال الشفهى ، والأثر الورقى للنصوص الدينية .
تخوفات وأخطار
ومعنى تقني ثاني يظهر فى ديناميكية مجتمع العقيدة ، وهو متعلق بالقوّة والهوية. حيث يمكن " للعضو العادي " ان يلعب دور الزعامة الدينية بدلا من أحد رجال الدين . ومن ناحية الأخرى، اتصال الإنترنت كنمط أساسي من الاتصال في مؤسسة دينية يمكن ان يخلق صنفين من العضوية للتابعين لتلك المؤسسة ، عضوية تقليدية ، وعضوية اخرى على الخط ! وأيضا كما هو الحال مع التليفزيون عدّلت الإنترنت سلوك الوعاظ والجمهور بشكل جذري ! وعلى الرغم من الممارسة شبه الموحّدة للمواقع الدينية على الويب فى حرصها على عرض المعلومات الدينية الأساسية والتأريخ المقدّس لكل دين ، فقد أبدى الكثير من المراقبين والمهتمين عدم ارتياحهم ، وقلقهم الكبير حول انضمام الدين إلى التقنية ، لكنه ممكن فى مجتمع العقيدة ، حيث الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية ، والمساجد الاسلاميه يمكن ان تمد رسالتها وعضويتها إلى ما وراء مواقعها الطبيعية ، هناك فى فضاء الإنترنت ! لكن هل هناك أيضا تخوفات وأخطار من التحولات والتبديلات الدينية التى تتم عبر مواقع الويب ؟! هل يمكن ان تنتهى تلك التحويلات بخلق أديان هجينية جديدة من صنع التابعين أنفسهم ؟! هل يمكن أن يلجأ البعض إلى الإدعاء انه واحد من التابعين لعقيدة معينة ، ويدخل بتلك الهوية مواقع تلك العقيدة ، كنوع من المغامرة ، و البعض كحب استطلاع ، وآخرون بأهداف تعصبية ضد تلك العقيدة ؟ هل يمكن لأعضاء فى عقيدة راسخة وقائمة ان يلجئوا إلى طوائف أو تجمّعات دينية أخرى غريبة وشاذة ؟ على مقياس أكبر هل يمكن ان تكون المواقع الدينية فى فضاء الإنترنت هو البديل المكافئ عن اندلاع والتهاب الحروب الدينية مرة ثانية؟
مطلوب مسح علمى
لقد اصبح النمو في الاستعمالات الدينية للإنترنت شامل وسريع جدا ، بحيث من الصعوبة الشديدة حصر وإحصاء عدد المواقع المتوفرة ، فعددها يتجاوز قدرة مكائن وأدلّة البحث على الإنترنت ، فالإنترنت حتى عام 2000 كان فيها 10 مليون موقع تغطى كافة الموضوعات والمجالات ، ويتوقع بأنّ هذا العدد سيزيد إلى مائتا مليون بحلول عام 2005 ، ويعني هذا التوسّع المستمر زيادة حتمية و نسبية في عدد المواقع ذات العلاقة بالأديان عموما . ولأن التغييرات سريعة ومتزايدة ، وصار من الصعب ان يحتفظ احدا بخطوته فى فضاء الإنترنت ، تظهر الحاجة الملحة ، على أية حال، للبدء بدراسة وتخطيط ورسم تضاريس الإنترنت بصورة اكثر وضوحا ودقة . ونحتاج لمعرفة أكثر حول المحتوى و المضمون الموضوع على الشبكة، ومن الذي وضعه هناك ؟ ولماذا ؟! لهذا يقتضى التحليل العلمى لمضمون محتوى مواقع الشبكة ، بالإضافة إلى مسح ومقابلة صنّاع تلك المواقع ، ورؤساء جلسات، ومستعملي مواقع الويب مثل جماعات المناقشة ، ومنتديات الحوار ، ومجموعات الأخبار ، وغرف دردشة. نحتاج لتطوير لمحة حياة أكثر دقّة عن مستعملي المواد والفرص الدينية على الإنترنت. نحتاج لمعرفة خصائص مستعملى الشبكة للمواقع الدينية العلى الخط ( أعمارهم ، انتمائهم العرقي، نوعهم ، مهنتهم ، موضوعهم الجغرافي، خلفياتهم الدينية، الخ. ). ماهى عاداتهم ، ودوافعهم ، والنتائج العائدة عليهم ؟ وهل التدين الافتراضي "virtual religiosity" شىء حقيقى موجود فعلا ؟ في هذه الحالة، كيف، ولماذا، و ما هى النتيجة؟، وإلى أيّ التأثير؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال