الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أموية الشعر والشاعر – جبرية وارتزاق(1-2)!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 4 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عندما تصبح الثقافة الكبرى وشخصياتها الحية عصية على السلطة، فإنها عادة ما تلجأ إلى أمواتها من اجل نفخ "الحياة" فيهم. وهي عملية كانت ملازمة لحقيقة الأموية، بوصفها خروجا على منطق التاريخ الصاعد للفكرة الإسلامية. وليس مصادفة أن يكون إحياء الأموات وتفعيل أشباحها في أصقاع الإمبراطورية الهائلة من خلال تفعيل وإعادة الدماء الحارة إلى القبلية وبنيتها النفسية والذهنية. وقد كانت هذه الإعادة تتعارض مع صيرورة النخبة الفكرية والروحية الجديدة. من هنا العمل الدءوب للأموية في القضاء على النخبة الروحية واستئصال أثرها المحتمل في الحياة السياسية. وقد جسدتها الأموية من خلال صنع النخبة المرتزقة واستعمال الشعر وسيلة لها عبر حصره في ثنائية المديح والهجاء. بحيث جعلت من شعرهم شعارها، ومن شعارها شعرهم. ورفع معاوية وفيما بعد يزيد وحلقات الخلفاء الأمويين هذه الممارسة إلى مصاف الثقافة الوحيدة المعقولة والمقبولة. بمعنى أن الأموية شقت لنفسها أخاديدها الخاصة في تضاريس الثقافة الإسلامية المتنوعة والهائلة. مما جعل من "الثقافة الأموية" ضيقة مسطحة ولكنها شرسة معدومة المروءة والقيم المتسامية. بعبارة أخرى، أنها أرادت سماع لسان بلا قلب، أي أصوات قابلة للمقايضة. من هنا انحصارها بمدح السلطة وهجاء معارضيها والتلذذ بينهما كما لوا نهما قطبا الوجد والوجود الوحيدين! بحيث لم يعد هناك فرقا كبيرا بين الشعراء الكبار والصغار، مما أدى إلى سحق الموهبة ومحقها في التملق والتزلف للسلطة. مع ما ترتب عليه من انتعاش للموهبة وتمرغها بين سوط السلطان ورنين النقود. وفيما بينهما تضمحل وتنعدم قيم الإحسان والعقل والإيمان. فنرى شعراء مثل العجاج يمدح معاوية بحيث يرفعه إلى مصاف الأنبياء كما في قوله:
إذا زلـزل الأقـوام لم تزلزل عن دين موسى والرسول المرسل
أو نسمع الاحوس يقول عنه في إحدى قصائده:
ملك تديـن له المـلوك مبارك كادت لهـيبته الجــبال تـزول
أو أن يتبرع الشاعر مسكين الدارمي بعد أن طلب منه معاوية إنشاد الشعر بمدح يزيد من اجل تقديمه للخلافة، بحيث نراه مرة يدخل على معاوية وعنده بني أمية وأشراف أهل الشام وحشد من الناس، فينشد:
إن ادع مسـكينا فاني ابن معشر
من الـناس أحمي عنهم وأذود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر
ومـروان أم مـاذا يقول سعيد
بنـي خلـفاء الله مـهلا فإنـما
يبوئـها الروح مـن حيث يريد
إذا المـنبر الغـربي خـلاه ربه
فـان أمــير المؤمنين يـزيد!!
لقد كانت هذه الصيغة الشعرية في مظهرها تحتوي على تقاليد الماضي وتقليد الانصياع الجديد للسلطة. وبالتالي فإنها كانت تحتوي على أغلفة التقاليد الوجدانية القديمة (القبلية) وتقليد الارتزاق الذي رفعته الأموية إلى مصاف المعيار الوحيد تجاه الثقافة والمثقفين. وتمثلت هذه الصيغة مظاهر تقاليد المديح والهجاء القديمة، ولكن بعد انتزاع شروطها الأولية. مما جعل منها كلمات معلقة على أستار السلطة وكعبة زوارها، التي لا اثر فيها للروح والفكر والإبداع الفردي. مما جعل من شعر الوجدان اللطيف وبر الارتزاق الكثيف. بحيث تحول إلى مجرد طقوس مملة للابتذال السياسي. غير أن ذلك لم يرفع الشعر إلى مصاف الصوت المؤثر، رغم كل المبالغ الكبيرة المصروفة عليه. كما لم يجعل منه أكثر من أقشاش تطفو على ضفاف بحر الثقافة الكبير، أي ثقافة الفكر المنظم والمنهجي للمعارضة العربية الإسلامية الكبرى.
لقد جعلت السلطة من الشعر أداة وجدانها السلطوي وجزء من معتركها الذاتي ولهوها ومرحها. ومن ثم عزلته عن مجرى الحياة العارم وإشكالاتها. بحيث أصبح أشبه ما يكون بتعبير اللسان عن الوجدان المزيف والمصطنع والمأجور. وتحول شاعر السلطة إلى هراوة خشنة أو لسان بلا قلب. وكلاهما من صنف واحد بمعايير الثقافة الحية. لقد قتلت تقاليد الأموية حقيقة الشعر بإرجاع مشاعره إلى وجدان مصطنع. وأفرغته من كل مغامرات الوعي والاجتهاد، وأثارت بالمقابل عنف المواجهة. الأمر الذي جعل من مواجهة المعارضة تجسيدا لتدرج المرء في سلالم الروح. ومن ثم جعل من أصوات السيوف والرماح في المعارك المناهضة للأموية أنغام الوجدان الحر، ومن شعر المعارضة تعبيرا عما كان يعتمل في ثقافة التحدي من قيم الحق والحقيقة. وصنع هذا التباين والاختلاف مثقف الرخام السلطوي والحطام المعنوي، وبالمقابل صنع مثقف المواجهة والتحدي. ولكل منهما إبداعه الخاص، الذي لا يخلو من متناقضات الحياة والوجود والتاريخ.
فقد كانت الأموية مسوحا متهرئة ومطرزة بالجواهر الثمينة والأصداف الرخيصة. وهي حالة معبرة عن مفارقات الصيرورة الأولى للإمبراطورية العربية الإسلامية بعد تحولها من الخلافة إلى الملك. وما استتبعها من تغير وتبدل في صيرورة الأشباح وكينونة الأرواح. غير أن الأموية كانت رغم ذلك، تتبجح بهذه المفارقة لأنها من صلب صيرورتها السياسية. الأمر الذي جعلها تولع بالشعر لقربه من وبرها الثقافي وتقاليدها الجاهلية. بعبارة أخرى، لقد جعلت الأموية من السلطة قبيلة للشعراء المرتزقة وقبلة مديحهم ومجونهم. كما جعلت من الكذب والغش والخداع والتضليل والميول المحمومة لتخريب العقل وتعكير الضمير وتشويه الجسد ميدان منازلاتهم الحسية والغريزية. وكان همها الأكبر بهذا الصدد أن يكون الشعر والشعراء خدما وعبيدا. فهي الصيغة الأقرب إلى نفسيتها وذهنيتها. وليس مصادفة أن تجعل من موهبة الأخطل والفرزدق وجرير محصورة في "النقائض" والولع فيها للدرجة التي أصبحت "فنا" من فنون الشعر. بمعنى قولبته ضمن قصور الخلفاء والأمراء والاكتفاء بما فيه من هجاء ومديح، بوصفهما العوالم الوحيدة الحية بالنسبة للمعنى والمغزى. كما ليس غريبا أن يصبح الأخطل فارسها الخائف من أتباع الأموية نفسها! وهي شخصيات نموذجية تجتمع على مدح السلطة والعيش في كنيفها!
فقد ابتدأ الأخطل (20-92 هجرية) حياته الشعرية في التملق للأموية وانتهى به. وما بينهما لم يشذ إلا في القليل النادر عن خط الارتماء في أحضان السلطة والفعل بمقاييسها. فقد ابتدأ بتطويع لسانه على قدرة القول بما تريده السلطة، بمعنى الاستعداد على بيع القلب والوجدان. وتروى عنه الحادثة الشهيرة التي هجا فيها الأنصار بطلب من يزيد بن معاوية قبل تسلمه السلطة. فعندما امتنع كعب التغلبي من هجاء الأنصار، لأنه وجد في ذلك ردة من الإيمان إلى الشرك، وكيف له أن يهجو قوما نصروا الرسول. لكنه رشح له الأخطل، واصفا لسانه مثل لسان الثور! وقد استجاب الأخطل لطلب يزيد وقال أبيات منظومة هي الأكثر إثارة من حيث وظيفتها السياسية آنذاك بحق الأنصار، من بينها تلك التي قارنهم فيها بعصابة اليهود واختتمها بحقهم في البيت المشهور:
ذهبت قريش بالمكارم كلها واللؤم تحت عمائم الأنصار
وقد أثار هذا الهجاء حفيظة بعض الأنصار الذين انظموا إلى معسكر الأموية، مثل النعمان بن بشير، الذي واجه معاوية غاضبا بعد أن حسر عمامته عن رأسه قائلا لمعاوية:
- يا معاوية أترى لؤما؟
- لا بل أرى خيرا وكرما! فما ذاك؟!
- زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائمنا!
- ما حاجتك؟
- لسانه.
- ذلك لك!
وعندما بلغ الأخطل مضمون ما جرى وإمكانية قطع لسانه على ما قاله بحقهم، فان ملجأه كان مضمونا، بغض النظر عن فقدان الأموية لهذا الصفة. بمعنى انعدام الأمان والائتمان لها في شيء، باستثناء ما يخدم مصالحها. لهذا نراه يحصل على الاستجارة بيزيد حالما توجه إليه. ولما علم معاوية بإجارة يزيد إياه رد على النعمان قائلا: لا سبيل إلى ذمة يزيد! بحيث جعل الأخطل يتفاخر به. ومن ثم الانزلاق أكثر فأكثر في حضيض الأموية لإدراكه أو تحسسه، بان السلطة لا تقطع لسان دعاتها ومداحيها وأسلحتها النفسية! ومع كل يقين بهذا الصدد، يصبح الهبوط أمام أقدامها عين الارتقاء إلى مصاف المطلق، شأن المؤمنين في سجودهم أمام الإله! ونعثر على هذه النتيجة في أبياته الشعرية العديدة مثل:
وانتم أهـل بيـت لا يوازنهم
بيت إذا عدت الاحساب والعدد
قوم إذا انعموا كانت فواضلهم
سببا من الله لا من ولا حـسد
والإبداع الوحيد في هذه الرتابة المملة للخنوع والزيف، هو تنوع صورها! أما البطولة الوحيدة الممكنة، والتي جرى رفعها إلى مصاف "الإبداع الشعري" فهي ألعوبة الهجاء بين أيدي الخلفاء، كما لو أن مهمة الشاعر التحول إلى قرد يزيد أو كلاب صيده! فهو الميدان الذي تبرز فيه عضلات اللسان البارعة في نطق ما هو مثير للحديث الفارغ واللغط المنحط وشغب المشاكسة الجبانة. لهذا كان بإمكان الشعراء "الفحول" الاندفاع الأهوج في هجائهم المتبادل، مثل أن يقول الأخطل في معرض الافتخار بقومه وذمه لجرير
ما زال فينا رباط الخيل معلمة وفي كليب رباط الذل والعار
أو أن يقول جرير بحقه ما يلي:
نــرضى عـن الله أن الناس قد
علموا أن لا يفاخرنا من خلقه بشر
وما لتـغلب أن عـدّت مساعيها
نجـم يضيء ولا شمـس ولا قمر
بل وان يهجوه بعبارات بذيئة مثل قوله:
قل للاخيطل لم تبلغ موازنتي فاجعل لامك أير القس ميزانا
أو أن يقول بحق الفرزدق:
فانك لو تعط الفرزدق درهما على ديـن نصرانية لتنصرا
أو أن يهجو أصول الفرزدق كلها قائلا:
لا تذكروا حلل الملوك فإنكم بعد الزبير كحائض لم تغسل
كما هجاهما الفرزدق بأقذع الصور. والحصيلة إننا نقف أمام هجاء مفتعل. أما قيمته الوحيدة فتقوم في تلاعبهم بالكلمات والصور. وخياله لا يتعدى حدود الزيف. إذ كل ما فيه من فضائل منسوبة للنفس ورذائل منسوبة للآخر متساوية بحق الأطراف. وبالتالي فان فضيلته الفعلية تقوم في استكشاف وإظهار وإبراز رذيلة الآخر. وفي الحصيلة لا فضيلة فيه بسبب دوافع الهجاء، بوصفها ارتزاقا أو تزلفا لاستمالة ابتسامة الخلفاء الخبيثة أو ضحكهم الماجن في مجالس اللهو. وليس مصادفة أن يصبح تاريخ الشعر "الرفيع" تاريخ الهجاء بين فحول القصور الأموية! من هنا سفاهته وسخافته بمعايير الذوق والمعنى والقيمة. ففي اغلبه مجرد كلام منظوم، أو سبيكة من الأوزان الخفيفة للضحك والشماتة، والمهانة والاستهانة، والمسخرة والاستهزاء. إذ لا همّ فيه لغير إثارة التسلية المفتعلة في عالم لا روح فيه. أما النتيجة فهي موت المشاعر المسعورة والأحاسيس الحية. فالهجاء لا يقتل ولا يثير النفس والعقل والوجدان، والمديح لا يسمع غير رنين الدينار والدرهم. والنتيجة اضمحلال أثر القيم في ميزان الأقوال والأفعال، بمعنى اضمحلال قيمتها المستقلة. بحيث يصبح الجبن والشجاعة، والبخل والجود وأمثالهما شيئا واحدا، أي استواء الرذيلة والفضيلة! وإذا كانت الفضيلة المتخيلة هنا تقوم في انتزاع الحمية والغضب الغريزي من تقاليد الهجاء، بمعنى تذليل هذا النوع من الهجاء لتقاليد الماضي الدموية، فإنها فضيلة أقذر من رذيلة! وذلك لان الهجاء والمديح لم يكنا سموا على نزوع الجسد الغريزي وقيم القبيلة الإنسانية وتقاليد العزة والافتخار وما شابه ذلك، بل جزءا من تمارين الخيال الكسول لكسب القوت ورفاهية العبيد!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة ضرب مستشفى للأطفال بصاروخ في وضح النهار بأوكرانيا


.. شيرين عبدالوهاب في أزمة جديدة وصور زفاف ناصيف زيتون ودانييلا




.. -سنعود لبنائها-.. طبيبان أردنيان متطوعان يودعان شمال غزة


.. احتجاجات شبابية تجبر الحكومة الكينية على التراجع عن زيادات ض




.. مراسلة الجزيرة: تكتم إسرائيلي بشأن 4 حوادث أمنية صعبة بحي تل