الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق وإشكالية الزمن والتاريخ

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 4 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من الصعب تحديد ماهية الحالة العراقية الحالية، بسب تداخل وتشابك مقدماتها ونتائجها، إضافة إلى كونها حالة انتقالية لم تتحدد معالمها بصورة واضحة بعد. بمعنى أنها جزء من برامج ومشاريع "الغيب"، أي المستقبل السائب، وغير المحكوم بمرجعيات كبرى بالنسبة لأغلب النخب السياسية. وهي الحالة التي تجعل الواقع العراقي يتراوح ضمن تقاليد وقيم الزمن الضائع، أي الزمن المتكرر الذي لم يستطع لحد الآن إرساء أسس الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي والعلاقات المدنية والدخول والمساهمة الفعالة في تطوير العلم والتكنولوجيا والثقافة العالمية. وفيما لو حاولنا اختصار وتكثيف هذه الحالة بصورة اقرب إلى تصورات الحياة العادية، فإنها أشبه ما تكون بحالة المقامرة والمغامرة.
إن حالة العراق اليوم مازالت أسيرة زمن المقامرة والمغامرة، التي سادت وانتشرت وتغلغلت في كل مرافق وجوده الاجتماعي والسياسي الحديث والمعاصر. وهي الظاهرة التي شكلت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية نموذجها التام! ومن دون الخوض في مقدمات هذه الظاهرة وأسبابها، أصولها وجذورها المتشابكة في التاريخ العراقي الحديث، وبالأخص بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958، فان نتائجها المباشرة كانت جلية في استفحال وهيمنة النفسية الراديكالية للحثالة الاجتماعية والأطراف. الأمر الذي جعل من فكرة الدولة لعبة أطفال أو في أفضل الأحوال جرى مطابقتها مع فكرة السلطة التقليدية. من هنا تراكم نفسية وذهنية التعامل الخشن والبليد مع مؤسساتها التي لم تعد في نهاية المرحلة الصدامية أكثر من "مؤسسة" عصابة عائلية جهوية فئوية طائفية مغلفة بغلاف أيديولوجي لا علاقة له بالواقع والمستقبل. وليس مصادفة أن تنتهي هذه الحالة بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية وانهيار البعث كحزب وأيديولوجية إلى صعود مختلف نماذج الانحطاط المادي والمعنوي، أي كل ذلك المخزون المتهرئ والمتآكل والمضغوط بغطاء القهر والإرهاب المنظم!
لقد أدى انهيار البعث والصدامية إلى بروز بقاياهما الخربة المختبئة في كل مسام الوجود الاجتماعي والسياسي بشكل خاص. فإذا كانت العلاقات الاجتماعية أكثر ثباتا واشد على الممانعة أمام السلطة الاستبدادية، بسبب ارتباط هذه العلاقات بتقاليد وأعراف قادرة على حفظ التماسك الفردي والأخلاقي والقيم، رغم تعرضها إلى تفكيك نسبي وتخريب هائل، فان العلاقات السياسية لا يمكنها الثبات في ظل حكم استبدادي شرس ومتخلف من حيث مكوناته الاجتماعية، وتقليدي حتى المخ العظام من حيث مكوناته النفسية والذهنية. مما أدى إلى تدميرها بشكل عام من خلال جعل الاستبداد أسلوب التحكم الشامل بالفرد والجماعة والمجتمع ككل. أما الدولة، بوصفها الحاضنة الضرورية للعلاقات الاجتماعية والسياسية فإنها تحولت إلى مجرد حدود وهمية وارض جغرافية مملوكة لرغبات أفراد وعائلات. مما أدى بالنتيجة إلى صنع احد أتعس وأرذل نماذج "الزمن السياسي" الفارغ، أي الضائع بالنسبة لتاريخ العراق الحديث والمعاصر.
لقد أدى هذا الزمن السياسي الضائع إلى تضييع إمكانية التراكم الطبيعي بالنسبة لإنتاج النخب الاجتماعية بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون النخب السياسية العراقية، وبالأخص بعد الرابع عشر من تموز 1958 هي نخب حزبية وليست اجتماعية سياسية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأن التحول العاصف الذي رافق سقوط الدكتاتورية الصدامية قد جرى بقوة خارجية (الغزو الأمريكي) من هنا تفاقم التناقض الداخلي العنيف بين القوى السياسية العراقية "الخارجية" و"الداخلية". ومع انه توصيف لا يتصف بالدقة، انطلاقا من حقيقة اغتراب الداخل والخارج العراقي أمام السلطة الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية، إلا انه كان بدوره احد المصادر "الطبيعية" لتعقيد مرحلة الانتقال صوب النظام الديمقراطي الفعلي والدولة الشرعية، أي كل ما سيجد طريقه إلى استفحال الطائفية السياسية والعرقية والجهوية والتقليدية للأحزاب و"توافقها" والاستماتة من اجل "حصتها" (المحاصصة) في السلطة وسلوكها العلني والمستتر تجاه القضايا العامة والخاصة. باختصار إننا نقف أمام ظاهرة معقدة وتتسم بالتشابك من تداخل الماضي الهش وقوة الاحتلال الأمريكي ونمط الذهنية الحزبية للنخب السياسية. مما أدى بمجموعه إلى نقل زمن الانحطاط والتفكك إلى هرم السلطة الجديدة. أما النتيجة فهي ضعف الدولة، وضعف السلطة أيضا. مع ما رافقه بالضرورة من تقوية النزوع الانفصالي (فكرة الأقاليم والفيدرالية) والكفاح من اجل الحصول على غنيمة (مادية في الأغلب) وتغليب الجزء على الكل بالمعنى السياسي والإداري والاجتماعي، مثل أن يسلك البرازاني سلوك رئيس دولة مع انه محافظ محافظة، وان يسلك الطالباني سلوك رئيس حزب قومي محلي (لمحافظة) مع انه "رئيس دولة"، أو تعمل قوى "سنية" للدخول في العملية السياسية من اجل تخريبها، أو أن تجعل قوى "شيعية" من شعار التفكيك والتجزئة (الإقليم) أسلوب الحل الأمثل لوحدة العراق! وهكذا دوليك! وقد يكون من الصعب اتهام الجميع بالسلوك المتعمد وراء هذه الممارسة، إلا أنها تعكس دون شك تعقيد العملية التاريخية لمرحلة الانتقال وقوة البقايا الخربة للزمن الدكتاتوري، ولعبة الاحتلال الأمريكي "الديمقراطية" و"القانونية"، أي كل ما وجد تعبيره في إرساء نموذج المحاصصة في "مجلس الحكم المؤقت" و"القانون المؤقت" و"الدستور الثابت".
غير أن هذه العملية التاريخية المرة والمريرة تبقى في نهاية المطاف الصيرورة الضرورية لتراكم القوى الاجتماعية السياسية العراقية، أي صعود القوى العراقية الفعلية من رحم المعاناة القاسية للولادة الطبيعية. ومن الممكن أن نطلق على هذه الحالة عبارة الوقوف المرتقب، الأول والأكبر أمام النفس (وإن بصورة لا يمكن وصفها بالمستقلة التامة قبل إخراج القوات الأمريكية بصورة تامة وإنهاء كل صيغ وأشكال ومستويات تدخلها في الشئون الداخلية للعراق). انه وقوف الارتقاب أمام مفترق تكرار الزمن الضائع، أي زمن السلطة ومغامرات ومقامرات الأحزاب والنخب المؤقتة، أو الانتقال إلى تاريخ الدولة، أي دولة القانون والشرعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عزة.. ماذا بعد؟ | المعارضة الإسرائيلية تمنح نتنياهو -الأمان-


.. فيضانات في الهند توقع أضراراً طالت ملايين الأشخاص




.. مواجهة مرتقبة بين إسبانيا وفرنسا في نصف نهائي يورو 2024


.. الاستقرار المالي يثير هلع الفرنسيين




.. تفاعلكم | مذيعة أميركية تخسر وظيفتها بسبب مقابلة مع بايدن!