الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رقابات تفتيش فسطاطية تتناغم و-حسبات- تكميم الأفواه

ماجد الشيخ

2010 / 5 / 1
المجتمع المدني



ها نحن من جديد في مواجهة حالة من رقابة تفتيشية، تنتشر وتعم، وأمام محاكم من ذات الطراز، تصدر أحكامها جزافا، دون تمحيص، ودون الاستماع إلى دفاع من تتهمهم، بل هي في الأصل؛ لا تريد الاستماع، إلاّ لصدى أصواتها وأحكامها، وكأننا أمام مكارثية جديدة، بدأت تنشر أوبئتها طولا وعرضا، في بلاد تستسلم للاستبداد السياسي والديني، وذاك الاجتماعي الشعبوي، الذي أضحى يقيم مزيجه من هذا وذاك من أصناف الاستبداد السلطوي – الأبوي، القائم اليوم في مجتمعات فقدت حصاناتها، ليس أمام غزو الخارج، بل وأمام غزو الدواخل المحلية، المعبأة بنهج الحروب الأهلية دون أقنعة أو حُجب أو أنقبة، ذلك إن تلك الحروب هي مطية كل أولئك الساعين إلى تكريس سلطة لهم، أو إسناد وتكريس تلك السلطة الأبوية – البطركية للاستبداد المقيم، المتبنين في قلب البنى السياسية والمجتمعية والدينية المهيمنة.

لقد جسّدت فسطاطية الهجوم على الثقافة والمثقفين، عبر ذرائع ومزاعم متعددة، كونها تنتمي إلى فضاء خاص من الطلاق مع الحرية، ومع تداول الآراء والقبول بتعددها وممارسة سلوك تبادلي للمواقف، جسدت هذه العقلية الفسطاطية سلوكا لم يستطع أن يرى الأمور وفق منهج علمي، يدّعي أصحابه أنهم من رواده، فذهبت باتجاه الحكم على القشور بدلا من الغوص في الجوهر، فاتهمت وحاكمت قبل أن تعمد إلى استخدام آليات التحاكم والتخاصم والتقاضي في مثل هذه الحالات، وتلك سمة من سمات استبدادية السلطة أو السلطات الأيديولوجية المعلنة أو المقنّعة، التي أضحت تتفشى في ثنايا حياتنا العربية المعاصرة.

وبالعودة إلى عدد من المقالات التي استدعاها كتاب "الاقصاء الشامل- تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة" والضجة التي أثارها داخل الجامعة الأميركية وفي الصحافة اللبنانية (أنظر مقالات حازم صاغية: على هامش مسألة ساري حنفي – الحياة 11/3 [وبيسان الشيخ: هل انتصرت الأيديولوجيا على الأكاديميا؟ - الحياة 14/3 [وصقر أبو فخر: ساري حنفي والحملة الظالمة – السفير 9/3). وما كتب عن جائزة البوكر العربية (أنظر مقال راسم المدهون: عن بوكر بعدما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة الحياة 16/3 [ووائل السواح: في أن إطلاق الاتهامات أسهل كثيرا من التدقيق فيها/ أفكار في المواطنة والعمالة وجائزة بوكر – الحياة 18/3)، وأخيرا ما كتبه إبراهيم حاج عبدي من دمشق تحت عنوان "اتحاد الكتاب السوريين يتهم جائزة محفوظ و (البوكر) بالصهيونية" الحياة 7/3. تعيدنا هذه المقالات النقدية أو الانتقادية، بموضوعيتها – إذ لا مصلحة أو مصالح ذاتية لأصحابها في إثارتها – وغيرها من المقالات التي تعرضت للرقابات الرسمية، والتفتيشية الأهلوية المتفشية اليوم في تجمعات مجتمعاتنا المؤدلجة، إلى طبيعة الصراع القائم اليوم، ليس في نطاق مجتمعاتنا العربية، بل وفي نطاقات أوسع وأشمل تحيط بقضايا عالمنا المعاصر، ليس بين ثنائيات مفترضة، بل وحتى داخل الأحاديات المجتمعية أو الدولتية، حيث الصراع على القيم وعلى المفاهيم وعلى الحداثة والمعاصرة والتنوير، وهي تواجه قوى الاستمساك بالماضي التليد، ليس الدينية فحسب، بل والقوموية أيضا وتلك اليسراوية المتحوّلة، في تماهيها والتباسها بفسطاط التديّن الشعبوي، تحولات مقدارها 180 درجة باتجاه طلاقها مع العقلانية الناقدة، نحو تبني منظومات لا عقلانية، همّها الرئيس الحفاظ على ستاتيكية الحاضر المؤدلج بروحية الماضي وتكراراته واجتراراته، وهذا هو سر هذا العداء المزمن، والمعلن؛ غير الخفي أو المبطّن لقيم الحداثة التنويرية بأبعادها العقلانية والمعرفية المنتجة.

لهذا.. لم يكن من الغرابة أو المفارقة، أن تذهب بنا "حروب داحس والغبراء" الثقافوية إلى الأقاصي، وهي تحاول استبقاء الماضي الديني والقوموي واليسراوي السلفي، بمثابة المنصة الجاهزة على الدوام للهجوم على المستقبل، عبر تلك المحاولات الدائبة لاستخدام الثقافة مطية للسياسة الملتبسة، في تماهيها بالسلطة في أحلك وجوهها قتامة، ومحاولات جعلها من الذات/ذاتها المرجعية الأبوية، ليس في نطاقها السياسي، بل وفي النطاقات الأخرى كافة، حيث الطبيعة الاستبدادية الراهنة لم تعد مُفارقة للحياة، كل شؤون الحياة المعاصرة، بل هي تدس أنفها وقد دست من قبل أنوف أيديولوجياتها في كل "الشوارد الوطنية"، جاعلة من تحيينها ذلك "المقدس" الدنيوي المفارق للطبيعة.

ولئن ذهب مثقفون كثر إلى حتفهم، فما فتئ آخرون يمارسون محاولاتهم فرض سمات "نيرونية" على الثقافة والمجتمع العربيين، مطلقين النار على كل الحواضن السابقة، وضد الذات كذلك، ما أغرق ويغرق واقعنا الراهن في وحول الصراعات الأهلية طويلة الأمد، بدءا من حروب السلطة ضد المجتمع، وصولا إلى حروب الكل ضد الكل، في تخل من قبل الأنظمة السلطوية الاستبدادية عن مهمة "حراسة الحياة المدنية"، في موازاة مع تحريم "حراس الدين" للحياة الثقافية ذاتها، ما أدخل الواقع في مراحل من تداخل وتشابك مهام وأدوار السلطة و "بعض المجتمع" في الهجوم ضد الثقافة؛ طالما هي لم "تتديّن"، ولم تتطوّع أو تطوّع "التزامها" لصالح أيديولوجيا التديّن الفسطاطي أو السلطوي. وهذا تحديدا هو ما قاد مع الزمن، ليس إلى ابتناء أحادية الفسطاط الواحد، بل تقسيم الفسطاط الواحد إلى مجموعة متذررة من فسطاطات، جميعها يمتلك سلطة الاتهام والتكفير والتخوين، كما وسلطة الإدانة والتفتيش والرقابة، حتى بتنا أمام أنماط من "حسبات" جديدة، نشأت وتنشأ على هوامش "الحسبة" المعروفة في عالم الفقه الديني، وفي العديد من طبعاته وسماته ووجوهه الفسطاطية المتذررة.

إن ثقافة بلا حرية، تماما مثل حرية لا ينتظم ضمن عقدها أي ثقافة في أي مجتمع، وبالتالي فإن قمعها لا يمكن فصله عن قمع الحرية ذاتها، وتغييبها عبر فعل يجسّد بشكل حي ومباشر قمع الوعي الإنساني، ويقوم مقام تعويق كل قدرة أو إمكانية للنهوض بوعي المجتمعات المنتجة لوعيها الخاص، المتعددة في دواخلها وثقافات وعيها المتنوع، ولكن دون افتعال أو انفعال، ودون خضوع أو تبعية لأيديولوجيا أحادية مهيمنة، تتقاسم أدوارها سلطة الاستبداد المهيمنة من جهة، وذلك "المجتمع" أو "المجتمعات" التي تسلم قيادها لتلك السلطة؛ كمرجعية لا يأتيها "باطل" الوعي المضاد؛ وعي الثقافة لذاتها والمجتمع لذاته، وبما يعطيهما دفعا أماميا/تقدميا لا يعوّق أو يفوّت مسيرة ومسار التحولات الإنسانية، الحاملة والحائزة بذرة وقدرة وصول الكائن إلى إدراك ذاته الواعية بدورها، لمحددات كونها الثقافي والاجتماعي، المنقذة له ولذاته من مجاهل تخلف وانحطاط قيم وسلوكيات، تغترب عن واقعها بدافع السيادة السلطوية، تلك التي تتصدّر المشهد العام؛ كوعي زائف يماهي بين الذات وموضوع اغترابها. وهذا ما قاد ويقود إلى أن تنشأ موضوعة تكفير وتخوين الثقافة ومنتجيها، حيث تشيع "نيرونية" الحرق والمنع والمصادرة وتكميم الأفواه.

لهذا ما كان من شأن تحالف مصلحي ومنفعي، يقوم بين السلطة والمجتمع، أو حتى بعضه، إلاّ أن يسفر عن تخلّق أو إنتاج وعي نكوصي، توالد منه سكوت المجتمع، صمته، وغرقه في لجج تقوم على سلطة الكلام، وهي تعيد الاعتبار لكلام السلطة، كمرجعية أحادية وواحدية، استقطبت من خلاله ليس المجتمع وحده، بل والثقافة المفترض أنها مُنتجة خارج تقييدات الأيديولوجيا السلطوية وحرّاسها، في إجادتهم لصعود منصات الخطابة المجتمعية المغرقة بدورها في أيديولوجياتها الدينية، تلك المنفصلة عن كل وعي، أو وعد بالإصلاح، أو أمل بالتغيير؛ مكتفية بوجودها داخل "كونها" الخاص؛ كون الغيبوبة المؤدلجة النافية لوجود أي كون آخر، وإن كان من مادة الكلام. برغم أن كون الكائن إنما هو مجبول بكلام العقل كمادة للحوار ووسيلة للنقد، في احتكام لمجالات العقل النقدي، ومزاوجة الوعي السياسي والوعي الاجتماعي، دون مماثلته أو مطابقته بالضرورة، لشروط الأدلجة الدينية التي تصدر على الدوام، من مصادر هي إلى السلطة أو مراجعها السلطوية أقرب.

أخيرا ما كان ممكنا أن يتعرض كتاب "الإقصاء الشامل" إلى تلك المحاولة العامدة إلى إقصائه، واستبعاده، ومقاطعته، واتهام أحد المساهمين فيه بالتطبيع. أو أن تُهاجم جائزة البوكر العربية بهذه الحديّة، ويجري "إطلاق النار" عليها من عدد من الاتجاهات والجهات؛ لو كانت مجتمعاتنا وسلطاتنا وثقافتنا وإعلامنا، والأهم عقلنا ووعينا الراهن؛ كلها تعيش مفاعيل هاجس آخر؛ غير الهواجس المبتلاة بالاستبداد، ونزعته ونزوعه، كونه "الحاكم المطلق" في فضاءات وسماوات وتربة هذه البلاد، المشهود لها تطليقها لمواطنيها، سعيا نحو استعادة صياغة مجتمعاتها، كونها مستوعبات لرعايا الأدلجة الاستبدادية السلطوية ليس إلاّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هغاري: الجيش الإسرائيلي سيواصل العمل من أجل خلق الظروف لاستع


.. الأمم المتحدة ترحب بالهدنة التكتيكية جنوبي غزة| #غرفة_الأخبا




.. الجيش الإسرائيلي يعلن -هدنة تكتيكية- في جنوب قطاع غزة والأمم


.. بكين تفرض قواعد جديدة في -بحر الصين الجنوبي-.. واعتقال كل من




.. المتحدث باسم اليونيسيف يروي تفاصيل استهداف الاحتلال أطفال غز