الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا والمجانين

حامد حمودي عباس

2010 / 5 / 14
المجتمع المدني


لا أعرف سببا بعينه لحضي السيء على الدوام مع من أصادفهم من المجانين .. فكثير ما يهاجمني أحدهم وأنا أقوم بحركتي الاعتيادية في الشارع العام أو السوق أو المقهى ، ليترك في نفسي زيادة في الاشفاق بدلا من الشعور بالغبن .

كان ذلك يوما ربيعيا ، وخلال الحقبة التي أنعم بها سلطان بلادنا علينا بويلات حروبه ، حين قررت أن أغامر بالانضمام الى طبقة الميسورين ، فدخلت الى مطعم للكباب ، لا يرتاده إلا من صلحت حاله ، وتوفرت له أسباب النعيم .

المكان كان مزدحم بمن اعتادوا على تناول الطعام فيه ، ويبدو انهم جميعا يعرف بعضهم بعضا ، حيث كانوا يتبادلون الطرف بينهم ، ويناكدون صاحب المطعم بين الحين والآخر .

جلست متواريا في آخر الصالة ، متخيلا كوني مقدم على ارتكاب حماقة كبيرة ، ستجعلني مذنب بنظر من يراني من معارفي ويتهمني حينها بالبطر .. طلبت نفر كباب مع حرصي على أن يكون مع كافة ملحقاته دون استثناء .. من يدري ؟ .. فلربما قد لا تتكرر هكذا فرصة وفي موعد قريب .

نفشت ريشي ، وانا اتطلع لعامل المطعم ، وهو يقوم برصف صحن الكباب ، وبجانبه صحن آخر للطماطم المشوية ، تحيط بهما حزم من الريحان الاخضر الطري ، وذهب مسرعا ليعود وبيده كأس من اللبن تطفو على قمته طبقة من زبد أبيض تسر الناظر .

ماذا يحدث لو أنني هذه المره ، تفرغت لنفسي دون غيري من بقية العائله ؟ .. يلعن أبو الدنيا وما فيها .. سوف اغادر ملامح الحرمان ولو لدقائق ، وانفرد بطاولة تنطلق من فوقها أبخرة الكباب ، واتمتع بوقتي كما أريد .

وقبل أن أبدأ بمداعبة ما تحمله طاولتي ، إستوقفتني حركة مفاجأة مصدرها دخول أحد المجانين الى الصاله ، دون أن يكترث له أحد من الموجودين في الداخل ، فهو على ما يبدو معتاد على زيارة المكان في كل يوم .. الرجل كان كما خمنت ، قريب من سن الاربعين ، يرتدي أسمالا ضاعت فيها أشكال الملابس المعتاده ، فهي عبارة عن خيوط متدلية من كافة أنحاء جسمه .. لحيته إختلطت بفروة رأسه لتشكل مساحة لا يميزها لون واحد .. عيناه يكسوهما إحمرار شديد يوحي بغضب صاحبهما ورغبته بالانتقام ... راح يرمقني بنظراته الحاده فور دخوله المطعم .. وتحرك من مكانه ليمر من خلال الحاضرين ، متوجها الى طاولتي مباشرة .. وأخذ يمسح بيده القذرة كل ما يحتويه صحن الكباب ليلقي به في فمه مرة واحده ، في حين أسقطت حركة ذراعه الاخرى كأس اللبن ، وجرف باسماله ما تبقى على الطاوله ، وغادر الصالة بكل هدوء ، وسط موجة من ضحك الاخرين .

كل ذلك جرى في لحظات ، ولم اتحرك من مكاني .. لقد كانت تحدوني رغبة شديدة باستعادة صورة ما حدث .. الكباب ذهب ولا يمكن لصاحب المطعم أن يعوضني بغيره ، ولا يسعه أن يعفيني من دفع الثمن كونه لا ذنب له بما أصابني من مصاب جلل ... حاولت أن أجد تفسيرا منطقيا لاستهدافي من قبل ذلك المجنون ، رغم أنه مر في طريقه نحوي بعدد من الطاولات تعلوها صحون الكباب ، وكان بامكانه سد رمقه بواحد منها .. وحين عجزت عن ذلك ، ركنت الموضوع تحت باب الصدفة لا غير .

وفي مرة اخرى .. شعرت وأنا أسير على رصيف الشارع ، بأن أحدا قام بلطمي من الخلف على مؤخرة رأسي وبشده .. التفت وأذا به شاب معتوه يجري وسط السيارات المزدحمه مبتعدا نحو الرصيف المقابل .. وفي ثالثة أضطرني أحدهم لمغادرة المقهى المزدحم بالزبائن ، كونه أصر على مشاركتي طاولتي ليحاورني بيديه ورأسه المتحرك كالآله ، وقد تكرم علي أخيرا بدلق قدح الشاي على بدلتي ، مستريحا بالتخلص مني حينما هربت بجلدي ، وأنا اتلفت مخافة أن يكون قد قرر ملاحقتي الى ابعد من المقهى .

مرات عديدة حضيت خلالها بمغازلة المجانين ، وكانت لي معهم لقاءات غير حميمه .. ولا أتذكر بأن حالة من غضب قد انتابتني في واحدة من حالات كهذه ، بل على العكس ، لقد جرتني مواقفهم تلك ، الى أن أتمثل كياناتهم الانسانية الناقصه ، وأسعى للحصول على فحوى ان يكون الانسان مسلوب العقل ، ويحيا وسط مجتمع تتصادم بين أركانه سبل السلب والنهب وهدر حقوق الآخرين ، والتزاحم على نيل أسباب الحياة دون مراعاة لعرف أو قانون أو دين .

ترى .. كيف يتحرك هؤلاء خلال يومهم الكامل ؟ .. أين يذهبون حينما يسكن كل شيء ويطبق الظلام ، وتتهادى الاجساد الى مكامنها وأفرشة نومها ؟ .. ماذا يحدث في فضاء العالم الذي يسكنونه بعقولهم المعطله ، حين يختفي ضجيج الحركة من حولهم في الليل ؟ .. ماهي ردود أفعال أجسادهم جراء ما تسلطه عليها عوامل المناخ المتقلبه ؟ .. ثم وهذا هو الاهم .. ماهي صلتهم بصفة المواطنة ؟ .. هل هم يتمتعون بهذه الصفة اللصيقة بكل من يحمل جنسية بلادهم ، أم أنهم خارج حدود هذه الصفه ؟ .. وان كانوا مواطنين مسجلين في دوائر الاحوال المدنية وحسب الاصول المرعية قانونا ، فلماذا لا تعمد الدولة الى منحهم حق الحياة في ملاجيء تحميهم من شرور الضياع والموت وهم يحملون صفة ( مجهول ) ؟ .. إن ذلك قطعا سوف لن يتعدى ما تكلفه نفقات مراسيم استقبال الوفود الرسمية خلال عام واحد .

ولكوني بدأت أشعر بوجود مداخل حقيقية لعالم ما يسمونه بالسياسة ، غير النبش في معاجم تفسير مصطلحاتها الجامده ، وغير أن يقضي المرء عمره في ملاحقة التاريخ ورموزه ، لينازع سواه في أمر قدسية هذا الرمز او ذاك .. مداخل تجعل من امر الاقتراب من فنون لعبة الحياة الحقيقية ، للتتجسد امام المتقصي صور غير مبتسرة ، صور كاملة تقول ما غيبته بطون الكتب ومراجع التحليل الاكاديمي المتخصصه .. لكوني كذلك ، فقد وجدتني ألاحق بنظري وسمعي واحاسيسي كل ما يحيط بي من عالم تنطق محافله اليومية بكل جديد ، لابني افكاري الخاصة ، مستمتعا غاية الاستمتاع ، بما احضى به من صور تؤثر في تشكيل صيغ التفكير لدي ، وبشكل يفوق بكثير ذلك الاثر الذي يتركه كتاب أو مقال عابر .

من هنا .. فقد وجدتني يوما ، وحين لمحت احد من نسميهم بالمجانين ، مضطجعا على الارض في احدى الحدائق العامة المهجوره ، إقتربت منه بحذر ، وجلست على الارض تاركا مسافة بيني وبينه للطواريء .. حاولت حمله على الحديث ، وكان بينا الحوار القصير التالي –

- كيف حالك ؟
- لاجواب .
- ما اسمك ؟
- أنا جائع .
- سوف اشتري لك سندويج إن أخبرتني عن اسمك ؟ .
- محمود .
- اين هم اهلك يامحمود ؟ .
- لاجواب .
- اين تنام في الليل يامحمود ؟ .
- هنا .. انا جائع .
- خذ هذه واذهب لشراء السندويج .
هب واقفا دون ان ينحني جسده كما يجري للانسان عندما ينوي النهوض من نومه ، وخطف قطعة النقود الورقية من يدي ، وجرى كالبرق حيث اختفى من أمامي بسرعه مذهله .
كان كل ما في داخلي يصرخ .. أسرع يامحمود .. قد لا تنال فرصة أخرى كهذه كي تحصل على قطعة سندويج من فلافل الطعمية البسيطه ، ليتك تعلم يامحمود بان قطارات محملة بحبوب الحنطة الاسترالية الفاخرة ، تلقي بحمولتها لاطعام اسماك بحيرات السلطان ، وحين يمل السمك طعم الحنطه ، تستبدل بالبيض المسلوق .. وليتك تعلم وانت تطير فرحا لقطعة سندويج ، بأن مطابخ لا حصر لها تقوم يوميا باعداد طعام نمور البرنس الكبير من ابناء الخديوي العظيم .

نفضت التراب عن ملابسي ، وغادرت المكان ، وأنا اتذكر ما رواه أحد معارفي حين زار مستشفى الشماعية في بغداد ، وهو المستشفى الرئيسي لايواء مجانين العراق .. حيث يقومون بتزويد الاشخاص الاكثر عدوانية من المجانين بسلاسل حديدية طويله ، ليقوموا بضرب بقية زملائهم العراة وفي قاعات مغلقه ، كجزء من عمليات الترويض .

حين دخلت جيوش الاحتلال الى العاصمة بغداد ، كان مجانين الشماعية من ضمن المشمولين ببركات التحرير ، فانتشروا في شوارع وازقة المدينه ، لتطال البعض منهم رصاصات مجهولة ، ومن بقي منهم ضل يحاور عالمه الخاص حرا طليقا كسواه من خلق الله .. وقد يكون صاحبي الذي خطف مني صحن الكباب ، واحد من هؤلاء ، لا زال يبحث عن فرصة اللقاء بي في يوم من الايام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محزن
عبد القادر أنيس ( 2010 / 5 / 14 - 21:17 )
استمتعت بقراءة مقالك كالعادة. التفاتتك إلى هذا العالم من البشر في محلها. الأسرة التي تصاب بهذه النكبة أي بإصابة أحد أفرادها بمرض عقلي لا يمكن تصور معاناتها خاصة في غياب مساعدة المجتمع. وتبقى الأسرة تتخبط لوحدها وفي النهاية تضطر للتخلي عن قريبها. عرفت أحدى هذه الحالات، وصدقني، لا يمكن أن تتمناها لعدوك: لا راحة، لا نوم، لا أمن، لا اطمئنان، يستمر هذا لشهور أو حتى لسنوات. المحزن أن حكوماتنا مفرطة بشكل مجرم. وهي في الواقع مفرطة في كل شيء. مؤخرا حدثني صديق عن ندرة دواء للسرطان في مستشفياتنا لأن الميزانية المرصودة له لم تكف. قال لي: تصور أن ما قدم للاعب واحد في الفريق الوطني بعد الفوز بمباراة كان كافيا لسد العجز لمدة عامين.
ماذا نقول؟ من يهن يسهل الهوان عليه.
تحياتي


2 - حزن آخر
حامد حمودي عباس ( 2010 / 5 / 15 - 08:32 )
الاخ عبد القادر أنيس : قد أضيف الى حزنك حزنا ، حينما انقل لك خبر حادثة كانت ضحيتها إحدى قريباتي ، وكانت مصابة بداء الصرع ، تطور بفضل شيوخ الفضيلة وصناع المعجزات ، وما سلطوه على جسدها من عذاب ، الى خلل عقلي وهي لم تزل دون سن المراهقه .. حتى انتهى بها الامر الى ان احترقت بالكامل بنار المدفئة النفطية في ليلة شتوية بارده .. وسوف اكتب وبالتفصيل عن تلك الصبية في المستبل .. شكرا على اطلالتك


3 - مؤثر
ناهد ( 2010 / 5 / 15 - 22:50 )
مقال مميز مؤثر في نهايتة وبنكهة لطيفة بدايته ، هذه الفئة المشطوبة من قائمة البشر والمرفوضة بحاجة فعلا لمن يتدارس حقوقها وكيفية مساعدتها والعمل على تقبلها .
تحياتي للكاتب
سلام


4 - مجانين
ناهد ( 2010 / 5 / 15 - 22:54 )
الكاتب القدير اعذر لي اعتراضي على مسمى مجنون ومجانين ، تقع على عاتق المثقف مسؤوليه انه قدوة ونموذج سلوكي معرفي يُحتذى به ، لذلك كنت افضل مسمى ذوي احتياجات خاصة او مرضى لمن فقدوا الاهليه .
تحياتي
سلام


5 - شعوبنا مُعَوَقة وبحاجة إلى وصاية ورعاية طبية
الحكيم البابلي ( 2010 / 5 / 16 - 07:38 )
الصديق حامد حمودي عباس
تقول الأنسة ناهد : (هذه الفئة المشطوبة من البشر) ، صحيح ، وهذا الشطب يحدث في الدول التي تتباكى وتَدَعي الرحمة والإنسانية والتسامح في أديانها !! فقط
أما في دول الغرب فالمُعوَقين لهم حقوق أكثر من البشر الطبيعيين ، بنت أختي مُعَوَقة في الخامسة والثلاثين ، تعيش منذ سنين في بيت حكومي مع عشرة مُعَوَقاتْ أُخريات ، وعلى حساب الحكومة الأميركية ، وتتناوب على خدمتهن 3 نساء مُدربات في كل وجبة عمل يومية تتكون من ثمانية ساعات ، وتُصرف لهن مبالغ أخرى لكل إحتياجاتهن ، وتُعقد مع أهاليهن إجتماعات موسمية من قبل مسؤولين وأخصائيين لمعرفة مدى رضى الأهل عن كل ما تقدمه الحكومة لهن
بعض المُعَوَقين يُكلفون الحكومة أموالاً طائلة ، وبحسب نوع الإعاقة ، ولكن الكل راضٍ ولا هناك أي سبب للتذمر
ولإنعاش ذاكرتك صديقي حامد ، فقد قام أفراد من الحرس القومي والبعثي بإغتصاب كل المُعَوَقات ( المجنونات ) في مستشفى الأمراض العقلية في بغداد بعد أن أطاحوا بالزعيم قاسم في 1963 ، وبعد أشهر كانت الكثيرات منهن حاملات ، وهذه الحادثة مُسجلة رسمياً
نحنُ شعوب مخلبية بحاجة إلى وصاية إلى أن نُفطَمْ
تحياتي


6 - حقوق الإعاقة
صلاح يوسف ( 2010 / 5 / 16 - 17:57 )
في بلاد الكفار المتقدمة، كما تفضلتم جميعاً، توجد حقوق كثيرة للمعاقين حيث تتكفل الدولة بتعليمهم وإيجاد مهن تناسبهم. حتى المواصلات العامة في الباصات مكفولة مجاناً بالكامل لكل ذي إعاقة. تتعامل الدول المتقدمة مع المعاق على أنه إنسان منكوب وهذه وحدها تكفي لكي يقوم المجتمع ككل ممثلاً بالدولة بإعطاء كامل الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية لهؤلاء. بالمقابل في الدول الإسلامية لا تكفل الدولة حقوق أي مواطن سواء كان معاقاً ام سليماً. لدينا عصابات تحكم بقوة الأمن والجيش وتنفق موارد الدولة على أصحاب النفوذ والحظوة ويتركون الشعب يعاني الجوع والفقر والمرض. شكراً أخي محمود على الالتفاتة الإنسانية.


7 - تعقيب
حامد حمودي عباس ( 2010 / 5 / 16 - 19:25 )
الاخت ناهد : تحياتي لك ، أوافقك الرأي من حيث التسميه ، مع شكري الجزيل على المساهمه

الاخ الحكيم البابلي : يوم بعد يوم ، يزداد شوقي لأن يكون لحياتي معنى من خلال الانتماء الى مجتمعات تضع في حسابها أن للانسان حقوق ، على الدولة والمجتمع تأديتها له مقابل ان تكلفه بواجبات المواطنة .. ولكن ما العمل ؟ .. فقد قدر لنا ان نحيا ونحن اموات ، ومع هذا .. فهم يعدوننا بعذاب يشيب له الرضيع كما يقولون .. أحييك واشكرك على تواصلك القيم

الاخ صلاح يوسف : يبدو ان محمود في اصل الحكايه قد كان مؤثر فعلا بمشاعر المتلقي ، بحيث اسميتني باسمه .. لقد أجدت الوصف حينما تطرقت الى رعاية المجتمعات المتقدمة لمواطنيها .. وما علينا نحن البؤساء ، إلا ان ننتظر ظهور الغائب ، كي ينصفنا مما نحن فيه من حال .. اتمنى مواصلتك الدائمه مع تحياتي


8 - شكر
انبثاق محمد غني ( 2011 / 1 / 26 - 13:03 )
سيدي الفاضل هل لنا ان نرى هذه الظاهره في اي بلد خارج بالتاكيد كلا اشكر شواهدك الطيبه

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | تعرّض مروحية رئيسي لهبوط صعب في أذربيجان الشرقي


.. إحباط محاولة انقلاب في الكونغو.. مقتل واعتقال عدد من المدبري




.. شاهد: -نعيش في ذل وتعب-.. معاناة دائمة للفلسطينيين النازحين


.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل




.. وزير الخارجية الأردني: نطالب بتحقيق دولي في جرائم الحرب في غ