الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأصيل فضيلة التسامح

احسان طالب

2010 / 5 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


للتسامح في المضامين العربية اللسانية والخُلقية، معنى غالباً يقترب كثيرا من العفو والمغفرة، لا يُعرف كقيمة منفصلة عن حزمة من المثل الأخلاقية، يسير مفهومه العام جهة المن والتفضل، متحركا من الأعلى نحو الأسفل، فهو تكرم من المتسامح نحو الآخر، أي أنه فضيلة غير ملزمة تدور ككثير من الفضائل في فلك النوافل والمندوبات، خارجة عن مفهوم الحق والواجب، فالآخر المختلف عنا بقناعاته أو انتماءاته الفكرية أو العقدية لا يمتلك الحصانة الحقوقية التي تضمن حقه في حرية التعبير والاعتقاد والممارسة إلا ضمن قاعدة ارتباط الحق المدني بالحق والواجب الإلهي. لقد تمرس العقل العربي في تحليلاته المنطقية على ربط جملة المثل والقيم الإنسانية بالثقافة الدينية كمعيار ودليل وكانت محاولاته تاريخياً تنصب على تديين القيم، فما ارتأه خيراً أقحمه في الدين وجعل منه قيمة دينية متفاعلة مع النص القولي أو الفعلي، وغدا من العسير تحرك الفكر بمعزل عن أحكام مسبقة تصوغها قوالب ثابتة تميز الحقوق بمدى انسجامها أو تنافرها مع قيم الحرام والحلال، فتكون دائرة البحث مغلقة محدودة تبني منهجها على أساس الخير كله موجود في النص وما هو بحكمه والطارئ المحدث مرفوض من حيث المبدأ، لا يدخل المنظومة القيمية الدينية إلا بتأويل أو تفسير يقارب البدعة فيجعلها أصيلة، وقد يتطور الحكم حال وجود ضرورة قصوى للمُبتدع فيصبح أصلا، و يكون ما جادت به البشرية من إبداع مجيراً لصالح الموروث بل ونابع عنه.
ينسجم ذلك التصور مع حقيقة محدودية النص ومسلمات تمامه وكماله واشتماله على الخير كله، أما م واقع متغير متجدد، وتبقى الإشكالية الرئيسة في منهجية التعامل مع الموروث كأصل مرجعي وحيد يخضع الإرث الإنساني المنقول عن الآخر لمنطقه وجوهره.
يستعمل الدارسون آياتٍ قرآنية بعينها للإشادة بموقف الإسلام من التسامح من جهة ولتأصيل قيمه وثقافته في الفكر الديني من جهة أخرى: ( إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة الآية (62) ووجه الاستدلال فيها مبتدؤه الاعتراف بوجود الآخر المختلف بعقيدته ومرجعيته، فلكل أمة ممن ذكروا في الآية كتاب منزل إلا الصابئون فقد عدهم بعض المفسرين من الكتابيين وخالف آخرون، ويجمع الكل الإيمان بالله والعمل الصالح، والآية في ظرفها التاريخي خطوة جليلة في تأصيل مفهوم التسامح الحديث، يعكر صفوها القول بنسخها بآية: ( من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) سورة آل عمران الآية (85). تتضمن الآية الكريمة مستوى من التسامح رفيعا إذا ما قورن بالفكر الديني الأوربي السائد في القرون الوسطى حيث سيطرة الكنيسة وانتشرت الحروب الدينية بين أبناء الدين الواحد. ويرى باحثون أن الإسلام بلغ غاية التسامح بإقراره لحقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية ويضربون أمثلة بتعايش المسلمين مع اليهود والمسحيين في الأندلس، وبقاء أكثرية من سكان البلاد التي حكمها المسلمون على دينهم الأصلي وما تلا خروجهم من مذابح دينية ومحاكم لاهوتية. لكننا نجد في الطرف المقابل سيرورة تاريخية تناقص مفهوم التسامح عاشها غير المسلمين تحت راية النظام السياسي الديني إبان الحكم الفاطمي لمصر كما نلحظها إبان صراعات عرفتها الخلافات السياسية الداخلية بين أبناء الدين الواحد. في حين نجد صفحة ناصعة للتسامح في سيرة السلطان صلاح الدين الأيوبي في تعامله عموماً مع أقباط مصر وعند فتحه لبيت المقدس.
ويمكننا أن نلحظ من خلال قراءتنا لفصول من تاريخ الدول الإسلامية صفحات جلية من ممارسة فعل التسامح ، كما لا يعجز الباحث عن وضع يده على جانب آخر مظلم تفوقت فيه ثقافة العنف في مواجهة المختلف وسياسة الإخضاع ِقبل الآخر. وهذه حالة غالبة في التاريخ الإنساني حيث لا توجد أمة بتاريخ نوراني ساطع لا تشوبه شائبة، وما ينطبق على تاريخ العرب و المسلمين يطابق ما عرف عن الشعوب الأخرى والفارق في مساحات وحجم ممارسة التسامح كفعل وفي البنية الثقافية و المعرفية للشعوب والمجتمعات.
في مقابل آثار نصية فعلية و قولية تؤصل للتسامح كالآية (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) سورة الكهف الآية (29) وآية (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) سورة البقرة الآية (256) وآية (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) سورة النحل الآية (125) وقول النبي محمد لأهل مكة يوم الفتح ( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لا تثريب عليكم اليوم. أو قال اذهبوا فأنتم الطلقاء ). وهو موقف مهيب يقفه المنتصر في وجه خصومه السابقين، يمتلك القدرة على ممارسة القوة و العنف تجاههم إلا أنه يبادر للعفو من موقع القوة والمقدرة وهو خلق رفيع من أركان قيمة التسامح.
في مقابل تلك النصوص نقرأ إفادات تنقل المحرض الثقافي والفكري إلى تمكين ثقافة العنف وتأصيل آليات السيطرة والإخضاع للآخر ونبذه أو إقصائه وفقا لمناهج تأويلية ومدارس تفسيرية أعطت لنصوص دون غيرها الفوقية والهيمنة على ما سواها من الأدلة الشرعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المسلمون في الهند يؤدون صلاة عيد الأضحى


.. عواطف الأسدي: رجال الدين مرتبطون بالنظام ويستفيدون منه




.. المسلمون في النرويج يؤدون صلاة عيد الأضحى المبارك


.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟




.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع