الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من هو المسؤول عن مأساة ( منتهى ) ؟؟ .

حامد حمودي عباس

2010 / 5 / 17
المجتمع المدني


حفزني الزملاء عبد القادر أنيس والحكيم البابلي وصلاح يوسف ، من خلال تعليقهم على مقالي بعنوان ( أنا والمجانين ) ، لأن أسرد حكاية الصبية ( منتهى ) .. تلك الضحية التي ستبقى روحها تلعن الى نهاية الدهر ، إن كان للدهر نهايه ، أولئك الذين تسببوا في قطع سلسلة عمرها ، وهي لم تزل طفلة لا تحمل وزرا غير كونها إبنة لعائلة فقيره .

منتهى .. وهذا هو اسمها الحقيقي ، وقد سموها بهذا الاسم ، لتكون ولادتها خاتمة للعنة حلت بالعائله ، سببها ولادة البنات ، حيث لم تترك ( فتحيه ) والدة منتهى حلا إلا وسلكته لتحقق رغبة زوجها بأن تلد له ولدا يحمل إسمه .

وبعد ستة بنات .. آخرهن منتهى .. أنجبت فتحيه ( هاشم ) .. كان هاشم كالمطر الذي يهطل على ارض تشققت بسبب الجفاف .. لقد جندت جميع البنات مع والدتهن لخدمة الوافد الجديد ، وسط فرحة لا تطالها فرحة ، غمرت قلب الوالد المبهور بإطلالة ولد تكرم الله عليه به بعد صبر طويل .

كانت منتهى أكثر البنات حضوة عند ابيها من اخواتها ، لأنها كانت تحمل فعلا علامات النهاية ، فبها انقطع نسل الاناث ، ولهذا السبب فهي مبروكة كما يقول والدها عنها ، كلما سنحت له الفرصة للتعبير عن فرحته الكبيرة بهاشم .

وعلى ما يبدو فإن للقدر حكمه الآخر .. حيث توفي هاشم بعد مرور سنة واحدة من عمره ، حين أصيب بمرض مفاجيء ، لم يمهله غير ليلة واحدة فقط قضاها في مستشفى المدينة ... لقد كنت أتابع فتحيه المسكينه ، وهي تبحث عن إبنها هاشم بين أشجار النخيل المحيطة بقريتنا عند الغروب من كل يوم ، كانت تصرخ بحشرجة غريبه ، وهي تناديه وكأنه يجري من حولها مداعبا إياها بالتواري خلف الاشجار ..

في تلك الفتره ، كانت منتهى ، وهي تحمل جمالا متميزا يفوق ما لدى أخواتها ، تشب وجسدها الفتي يقاوم الحرمان المسلط عليها وعلى شقيقاتها ، كونهن لم يتحن للاهل فرصة انجاب الذكور .. ولن انسى كيف كانت تحمل وهي لم تزل ابنة السادسة ، حزم ( التبن ) لتقدمه علفا لبقرتين ، كانتا تحضيان برعاية تفوق تلك التي تخص بها جالبات النحس من الاناث .

عندما بلغت الثامنه من العمر ، ظهرت عليها بوادر مرض ( الصرع ) .. وقد شخص طبيب المستشفى الحكومي في المدينة مرضها على أنه لم يزل في مراحله الاولى ، ومنحها علاجا على ان تلتزم بالتردد عليه في اوقات محدده .

بدأ الصراع الجدي بين الايمان بما يقرره العلم ، وبين أن يستجاب لدعوات ممتهني الشعوذة وآكلي لحوم البشر ، ولكون فتحيه ملتزمة بدينها ، مؤمنة بأثر أضرحة الاولياء الصالحين ، وقدرة تلك الاضرحة على بتر يد السارق لمجرد القسم بحضرتها كذبا وفي أية لحضه ، فقد اختارت السبيل الثاني ، للتعجيل بشفاء ابنتها قبل ان يبلغ المرض أشده ... فكانت الصبية تخضع لعدة مرات في الشهر الواحد ، لعذاب يسلطه على جسدها الضعيف ، شذاذ الآفاق من مرتكبي القتل العمد ، أولئك الذين قرروا بارادتهم ، ودون ان يتبرع أحد من حملة الفقه ومراجع الفتوى بردعهم عن غيهم وبشكل صريح ، أن يكونوا حلقة وصل بين الله وعباده ، فراحوا يعتدون على حرمات البيوت وهتك اعراض الناس دون وجه حق ، ليقرروا وعلى سجيتهم المتخلفة ، كيف يجب ان تمارس الحياة ، وماهي ضروراتها وكيف تحدد معالمها وفق رؤاهم الجامدة والمغرضة .

لقد تعرضت الفتاة الى ابشع عمليات الكي بالنار ، والضرب المبرح لاخراج الجن من جسدها ، وربطوها بالسلاسل الحديدية لقبور الاولياء .. وحين رأتها جارة لاهلها ذات يوم وعن طريق الصدفه ، وهي تحاول الافلات من سياط مجرم معتوه يرتدي العمامة ، القت بجسدها لتحتضنها وتحميها منه ، فهاج الوحش وراح يوجه سوطه للمرأة غير مبال بصراخها ما دام مكلفا من قبل السماء ، ووكيلا معترف به من قبل صاحب القبرالمقدس .

في جميع انحاء جسد منتهى ، كانت هناك مساحات تحمل آثارا للكي بالنار .. وكانت النهاية المفزعة حينما قام أحدهم بقص ضفائرها الجميلة ، وحلاقة شعرها بالكامل ، وإحداث جروح عميقة في رأسها باستخدامه شفرة حلاقه ، كي يخرج الجن مع الدم النازف .. حينذاك فقدت الضحية عقلها بالكامل ، واصبحت تهذي بشكل مستمر ، وفقدت توازنها الجسدي لعدة اسابيع .. حتى قامت بابتلاع مجموعة كبيرة من حبوب معالجة مرض الصرع كانت متوفرة في المنزل جراء مراجعتها الطبيب في السابق ، وبعد نقلها الى المستشفى تحت غيبوبة كامله ، ارادت الطبيبة المناوبة انهاء معاناة المريضة ، فخيرت الام بين ان تترك ابنتها بدون علاج لعدة ساعات فتموت وتستريح ، وبين ان تقوم بمعالجتها لتعود لآلامها من جديد .. حينها ثارت الامومة بكاملها ، فهددت فتحيه بانها ستشكوا الطبيبة للسيد المحافظ ، لو اقدمت على ترك ابنتها تموت .

كانت المسكينة تستغل الفرص للهروب من المنزل حينما تجد الباب مفتوحا ، ومن كان يعثر عليها من الجيران يقوم باعادتها الى اهلها متطوعا ودون تأخير .. لقد حرصت دوما على ان اجلب لها حلوى ( الملبس ) الملون ، وشريط من العلكة المحلاة بالسكر .. فتهب فور ان تراني لاستلام هديتها وسط أطراف من دموع تتزاحم بين جفوني ، لا تريد ان تنهمر مخافة الاعلان عن الاستسلام للحقيقة المرة ، الحقيقة التي تتجسد من خلالها مظالم تتسع مساحاتها الى ابعد من آفاق الكون ، سلطها على عالمنا قدر مجنون ، جعلنا نبتلع آلامنا مع لقمة الخبز ، ونتنسمه مع أنفاس الشهيق .. لا لشيء ، إلا لكوننا ولدنا ونحن نحمل سمة الشرق الملعونه .

كانت ليلة شتوية باردة ، حينما خلد الاهل جميعا الى النوم ، ما عدى منتهى ، فهي معتادة على السهر والتحرك ضمن فناء المنزل .. ولا اعرف لماذا بقي الشك يزاحمني حين اتذكر بان المدفأة النفطية أبقيت دون ان يطفئها احد ، رغم ان الصبية كانت تحوم حولها .. انهم جميعا يعترفون بالاهمال ، وينكرون وجود أي قصد مبيت لتصرفهم ذاك .. وكانت منتهى عند الساعة الرابعة صباحا ، جسدا قد أجهزت عليه النيران بالكامل ، لتجعله عبارة عن أبخرة تتصاعد في فناء المكان .

ماتت منتهى .. الصبية البريئة الحلوة .. ابنة الخمسة عشر ربيعا .. ليرتفع في سحر ذلك اليوم المفزع ، صوت يجلجل باطلاق اللعنات على كل من كانوا سببا في قضائها وهي لم تزل في عز الصبى .

ماتت منتهى .. وسياط الجلادين لم تمت بعد .. بل إنها تتجدد كل يوم ، وهي تحمل سياطا تختلف مواد صنعها باختلاف الزمن .. إنهم يجددون طرقهم المبتكرة في قتل البشر وتخدير عقولهم ، والسير بهم الى وديان يعمها الدمار ، وفي كل حقبة من زمنهم الرديء ، يبرزون لنا من تحت الرماد ، ليصفوا لنا كيف هي سبل موتنا وعلى أي مذهب تكون ، انهم يجندون اسلحة تفسد العقول والجسد ، وتؤدي الى خلق الكوابح الفعالة والمعرقلة لمسيرة التقدم .

إن أركان الجريمة في هذه القضية واضحة لا لبس فيها ولا غموض .. ويتحمل وزرها جميع من أفتوا زورا وبهتانا بعذابات الفقراء .. ولم ينطقوا بالحق .. ولم يردعوا حلفائهم عن فعل الشر .. أولئك الذين لا زالت اضرحة الاولياء وزوايا الازقة المظلمة تعج بهم ، يترنحون بعمائمهم وتلافيفهم الخضراء ، الملطخة بدماء المساكين دون تكليف من قضاء ، أو إباحة من قانون .

مرت أيام عده .. قبل أن اتجرأ برمي حلوى الملبس الملون ، وشريط العلكة المحلاة بالسكر ، حيث تخمرت في جيبي لأن منتهى ماتت .. وغابت عنا الى الابد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عزيزي الكاتب المحترم
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 5 / 18 - 08:26 )
لم يتح لي قراءة مقالك السابق في حينه فقرأته قبل قليل , الحقيقة شيء محزن ما نراه في مجتمعاتنا التي تتغنى بالانسانية والأخلاق والفضائل التي توفرها لنا الأديان وهو يمارس أبشع الأفاعيل في حق هذه الفئة من المجتمع . حوادث مخزية في الحقيقة , ظللت لثلاثة عشر عاماً أخدم متطوعة ذوي الاحتياجات الخاصة لم يقطعها سوى الانتقال لبلد آخر للعمل , لا يمكن مقارنة بلاد الغرب مع بلادنا من حيث أحدث الوسائل والأساليب المتبعة في التعامل مع هذه الشريحة , لكني أسأل كيف وهم الكافرون , من عبدة البقر والحجر , كيف توفر لهم هذا الحس الانساني العالي ؟؟ أتكلم على مستوى الشعب , الناس , لا المؤسسات , هذبهم القانون دون شك, لكن الانسانية والتعاطف شيء فطري والمفروض أن ذلك ولد معنا من خلال الجو الديني الذي نعيشه والحق أننا آخر الشعوب في التراحم والتعاطف والتكاتف وباسم الدين نرتكب الخطايا في حق الآخر أسفي على الصبية المسكينة منتهى ومثلها مات وسيموت الكثيرون , نحن عالم آخر لا علاقة له بالانسانية


2 - تحرير العقول
عبد القادر أنيس ( 2010 / 5 / 18 - 11:33 )
طبعا التخلف الاقتصادي والسياسي عامل من عوامل ما يلحق الناس عندنا من عذابات، ولكن أغلبها يتسبب فيها الناس أنفسهم نتيجة اعتقاداتهم الهمجية. كلم يوم تزداد قناعاتي في ضرورة تحرير العقول كأولوية تسبق تحرير الأبدان إن كان من المستحيل القيام بالمشروعين في آن واحد.
الحلول العصرية لكثير من المشاكل موجودة لكن الناس مازالوا يلجأون إلى الحلول الوهمية.
زواج الأقارب ثبتت نتائجه المدمرة على النسل ومع ذلك لا يحتاط الناس. التكاثر السكاني مدمر ومع ذلك نجد الناس الأكثر فقرا وعجزا عن التكفل بأبنائهم هم الأكثر إنجابا. ولا يسمعون نصائح العلماء ويفضلون عليها تعاليم الدين والخرافة.
الألم والعذاب والفقر ترافق دائما الجهل.
تحياتي


3 - منتهى القسوة
فاتن واصل ( 2010 / 5 / 18 - 18:14 )
الجهل هو المتهم الأول والأخير ، هو القاتل الفعلى ، جهل أبيها وامها ومجتمعها الذى يرى ان إنجاب الاناث لعنة ، ويرى أن فى الذكور الفلاح والنجاح ، أبكيتنى بكاءا مرا على هذا الملاك البرئ الطاهر ، وأعلم انه لن يتوقف قتل البراءة طالما يتحكم فى حياتنا كل هذا الجهل والتخلف


4 - ليست منتهى نهاية للمأساة
صلاح يوسف ( 2010 / 5 / 18 - 21:46 )
اليوم كان زميل دكتور في الكيمياء يتحدث عن الجن وكنت أسخر من رب هذه الأمة ورب معتقداتها البالية. كيف نلوم العامة والبسطاء ؟ هل عقدية الإسلام من القوة بحيث يمكن تقبل جرائمها والسكوت على مصائبها إلى هذا الحد ؟ أنا عاصرت موت امرأة ضرباً بالأحذية لإخراج الجن صبيحة أحد أعياد الأضحى وهي تستحق موضوعاً بالكامل هي الأخرى ربما أكتبه لو امتكلت وقتاً. ماتت وتركت ثمانية أطفال صباح العيد. أي إجرام ؟؟!
شكراً زميلنا العزيز على عرضك المحزن لمأساة منتهى.


5 - تمنيات طيبة
الحكيم البابلي ( 2010 / 5 / 18 - 22:03 )
أخي العزيز حامد
قصة مؤثرة تطرح معاناة شعوبنا المسكينة ، للأسف الشديد أن بعضنا ولد في الدولة غير المناسبة لطبعه وأخلاقه وأحاسيسه الإنسانية
قبل أكثر من عشرين سنة شاهدتُ فلماً أميركياً ، القصة تدور في نيويورك أميركا في المستقبل القريب ، حيث تقوم الحكومة بفصل مناطق كبيرة من نيويورك ، وتسويرها ، ووضع كل الأشرار في داخلها ، في محاولة جادة لعزلهم عن البشر الطيبين ( الأوادم ..كما نسميهم في العراق ) طبعاً لن أسرد لكم كل القصة ، ولكن الفكرة التي أطرحها هنا ، هو أنني منذ مشاهدتي لذلك الفلم ولحد الأن ، أحلم في يقظتي بفكرة عزل كل الأشرار عن الأوادم
ولما كنت أقرأ قصة منتهى الضحية ، والتي أبدعت في تصويرها وإخراجها كعادتك ، عادت لي فكرة تقسيم الناس بهذه الصورة ، وهي نوعاً ما العذاب والثواب الأرضي والمبني على الخير والشر ، وهي ليست فكرة دينية ، بل فكرة أجتماعية فيها الكثير من العدالة للأوادم
صدقني أخي .... كلما فكرت ببعض الزميلات والزملاء في الموقع ، والذين لا زالوا يعانون الكثير بسبب وجودهم في الدول الشرقية ، كلما تمنيت لو كنت أملك القدرة من أي نوع لأختطفهم وعوائلهم من جحيم الشرق
تحياتي

اخر الافلام

.. إحباط محاولة انقلاب في الكونغو.. مقتل واعتقال عدد من المدبري


.. شاهد: -نعيش في ذل وتعب-.. معاناة دائمة للفلسطينيين النازحين




.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل


.. وزير الخارجية الأردني: نطالب بتحقيق دولي في جرائم الحرب في غ




.. نتنياهو: شروط غانتس تعني هزيمة إسرائيل والتخلي عن الأسرى