الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يقظة ابن سينا- حكمة الشفاء والنجاة!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 5 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ابن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن علي (980-1036). كان أبوه من أهل بلخ وأمه من قرى بخارى. ونشأ في عائلة محبة للمعرفة والعلم والرياسة، وتعتنق الفكرة الإسماعيلية. ورغم اعتراف ابن سينا نفسه بعدم استساغته لما كان يقوله أباه وإخوته عن أفضلية الفكرة الإسماعيلية، إلا انه تأثر بنزوعها العقلي الصارم وروحانيتها الباطنية ونزوعها العملي السياسي. ومن ثم لم يكن المقصود بعدم قبوله ما يقولونه معارضة للفكرة الإسماعيلية بحد ذاتها، بقدر ما هو مؤشر على استقلاله الفكري المبكر وفطرته الحرة في البحث عن الحقيقة، كما نعثر عليه في مجرى حياته ككل. إذ استطاع أن يتجرد للبحث الفلسفي في وقت مبكر بعد اطلاعه على أوليات المعارف (اللغة العربية والقرآن والفقه والأدب). ومنهما تراكمت معالم شخصيته، بوصفها احد النماذج الرفيعة للفردية المتسامية في البحث عن الحقيقة وتأسيس الأفكار.
وقد أشار هو في معرض حديثه عن نفسه بولعه المبكر في الفلسفة وإتقانه مختلف علومها. وكتب بهذا الصدد عن إحدى سنواته المبكرة عندما اختلى لدراسة الفلسفة قبل الثامنة عشر يقول:"ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصف، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة. وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره. فكل حجة كنت انظر فيها اثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور. ثم نظرت فيما عساها أن تنتج، وراعيت شروط مقدماتها حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسالة. وكنت كلما أتحير في مسألة ولم أكن اظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكلّ، حتى فتح لي المنغلق وتيسر المتعسر". وتشير هذه الحالة إلى هموم البحث والحيرة والاكتشاف التي لازمته مدى الحياة. فنراه يكتب عن مرحلة متأخرة من حياته يقول فيها "كنت ارجع بالليل إلى داري واضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة. فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي. ثم ارجع إلى القراءة. ومهما أخذني أدنى نوم احلم بتلك المسائل بعينها، حتى أن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام".
بعبارة أخرى، لقد كانت حياة ابن سينا إبداع في اليقظة والمنام. إذ تلازم هذه الدورة هموم البحث عن الحق والحقيقة ما لم تبلغ حالة اليقين. وقد تكون علاقته المتقلبة الأولى بالفلسفة، وبالأخص في عذاب وعذوبة اللقاء بأرسطو إحدى الصور الرمزية لذلك. إذ يروي لنا ابن سينا كيف انه كان يقرأ كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو دون أن يستطيع فك رموزه. بحيث قرأه حولي أربعين مرة ولكن دون جدوى. مما جعله ييأس من إمكانية إتقان العلم الفلسفي، قبل أن يحصل عن طريق الصدفة على شرح الفارابي له. وهي قصة طريفة يرويها ابن سينا بالشكل التالي "في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه عليه فرددته رد متبرم، معتقد أن لا فائدة من هذا العلم. فقال لي:اشتر مني هذا فانه رخيص ابيعكه بثلاث دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه! واشتريته منه فهو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته. فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب انه كان لي محفوظا على ظهر قلب". أما حياته اللاحقة فقد كانت سريان بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. حيث اشتغل في مختلف ميادين العلوم الفلسفية والطبيعية وكذلك في خدمة الأمراء والملوك والسلاطين. بل وشغل مرة وظيفة وزير في بلاط الأمير شمس الدولة، تعرض بأثر تمرد الجند عليه إلى السجن ومصادرة كل ما يمتلكه ومطالبة الجند بقتله. غير أن استبدال القتل بالنفي قد مدد ما أسميته بسريان حياته بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. فقد عاد بقدر واحد إلى مزاولة مختلف العلوم والأعمال، وبالقدر ذاته التمتع بحياته الشخصية على قدر ما فيه من قوى الروح والجسد. فقد صوره تلميذه الشهرزوري بالعبارة التالية:"كان الشيخ قوي القوى كلها. وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى واغلب. وكان كثيرا ما يشتغل بها فأثر في مزاجه. وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه" في الحياة والعمل. وهي صورة دقيقة عن شخصيته وحياته، بمعنى العمل المتفاني في مختلف ميادين الحياة والعلوم، والتنقل بين الأمراء والعامة، والمزاوجة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة بوصفه طبيب الروح والجسد. ووجدت هذه المزاوجة تعبيرها الخاص في أشهر مؤلفاته - (الشفاء) و(النجاة)، دون أن تحرره من أمراض الجسد ولحظات الهلاك القاتلة للروح. وواجه هذه الحالة أواخر حياته وانتهت بمماته. فقد أصيب آخر حياته بالقولنج. وكان يعالج نفسه بنفسه دون كلل. غير انه وقف في نهاية المطاف أمام خاتمته بقوته المعهودة. إذ تروي لنا ككتب التاريخ والسير عن أن مدينة (همدان كانت آخر محطة من حياته، بعد أن أحس بانهيار قوته وأنها لا تفي بدفع المرض عنه. عندها أهمل مداواة نفسه واخذ يقول:"المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير. والآن فلا تنفع المعالجة". ويقال أن سبب موته هو وضع كمية من الأفيون كبيرة في مأكله من جانب الخدم بسبب خيانتهم إياه في سرقة أمواله من اجل التخلص منه! ومهما يكن من آمر هذه الخاتمة، فإنها ظلت تأرجح في ذاكرة الثقافة وذكرى الأعداء بقدر واحد. بمعنى رؤية كل منهما على قدر ما فيه. فقد قال عنه البعض:
رأيت ابن سينا يعادي الرجـال وبالحبس مـات أخس الممـات
فلم يشـف مـا ناله بالشفــا ولـم ينج من مـوته بالمنجيات
ويقصد بذلك كتاب (الشفاء) و(النجاة). وهي صيغة التشفي المعهودة لصغار العقول وموت القلوب. أما حقيقة ابن سينا فإنها تتضافر في وحدة شخصيته وإبداعه العلمي والعملي من اجل تأسيس مهمات شفاء الجسد ونجاة الروح، بوصفها مهمات بلوغ الحكمة الإنسانية. وليس رسالة (حي بن يقظان) سوى إحدى الصيغ الرمزية لأحد نماذج الحوار الأبدي بين العقل والغريزة، في سعيه لتأسيس مهمة الشفاء والنجاة بسيادة العقل، بوصفه المدبر الأول لكل شيء.
فقد كتب ابن سينا رسالته الرمزية الصغيرة هذه وهو في السجن، يتأمل من كوة المعتقل في القلعة خيوط الأمل المغرية التي تلازم العقول الجريئة في منعطفات الحياة ودهاليزها. وليس مصادفة أن يتوصل ابن سينا إلى إحدى الأفكار العميقة التي وضعها في صلب مواقفه الحياتية والعلمية عندما قال، بان كل ما يصعب البرهان عليه يمكن رميه في حيز الإمكان! عندها يصبح العمل والأمل شيئا واحدا، أي يقظة أبدية وجدت تعبيرها في رسالة (حي بن يقظان).
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة ضرب مستشفى للأطفال بصاروخ في وضح النهار بأوكرانيا


.. شيرين عبدالوهاب في أزمة جديدة وصور زفاف ناصيف زيتون ودانييلا




.. -سنعود لبنائها-.. طبيبان أردنيان متطوعان يودعان شمال غزة


.. احتجاجات شبابية تجبر الحكومة الكينية على التراجع عن زيادات ض




.. مراسلة الجزيرة: تكتم إسرائيلي بشأن 4 حوادث أمنية صعبة بحي تل