الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغرائزية الدينية في خطاب القنوات الفضائية

محمد جمول

2010 / 5 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الغرائزية الدينية في خطاب القنوات الفضائية

محمد جمول
يُفترض بالأديان أن ترتقي بالإنسان من مستوى التفكير الغرائزي البدائي الذي يلتقي فيه بشكل ما مع باقي الكائنات الأخرى إلى مستوى التفكير الإنساني الذي يرتقي به إلى آفاق رحبة تتسع للتعاون والمحبة والإخاء بشكل يليق بهذا الكائن الذي يتفرد بالمشي على قائمتين على هذه الأرض، ويختص بميزة التفكير والتحليل والتِركيب والإبداع والابتكار واستخدام قدراته في الإعمار وتحسين ظروف الحياة وجعلها جنة تتسع للجميع، أو استخدامها في فعل أشياء كثيرة تميزه عن الحيوانات الأخرى أيضا، ومنها إشعال الحروب وبناء السجون والتفنن في تعذيب أبناء جلدته وتكفيرهم وتحديد من يذهب منهم إلى الجنة ومن يذهب إلى النار.
ولكن يبدو أن بعض رجال الدين عبر التاريخ كانوا دائما من أنصار تحويل الحياة على الأرض إلى جحيم يسعدهم أن تبقى ناره مستعرة، ويسرهم أن يتخيلوا البشر قطع لحم تشوى على جمر نار جهنمهم. ولذلك كان همهم دائما النفخ في نار الفتنة خوفا من أن تنطفئ. ومن الواضح أن هؤلاء لا يثقون بعدل الله وأنه سيحاسب كل امرئ على عمله يوم القيامة، فأخذوا على عاتقهم محاسبة كل من يخالفهم ومعاقبته وإرساله إلى جحيمهم ليجعلوا قناعاتهم وآراءهم معيار الثواب والعقاب، والقول الفصل يوم الحساب. ومن هنا نلاحظ جرأتهم في إصدار فتاوى التكفير التي حولت حياة كثير من الدول والمجتمعات إلى قوافل من الانتحاريين والسيارات المفخخة التي تنفجر في الأسواق والتجمعات والشوارع، ولا تميز بين بريء ومذنب، وطفل وشيخ.
من يتابع بعض القنوات الفضائية الدينية يلاحظ أن الحرب مستعرة دائما بين الشيعة والسنة في هذه الأيام، وكأن العالم لم يعد فيه أية مشكلة سوى أن يتمكن كل طرف من إثبات أن كل من يقف في الطرف الآخر على باطل وأن مصيره جهنم حتما، وكأن كل من الطرفين يملك كل الحقيقة ويؤمن أن مصير الطرف الآخر جهنم بالتأكيد. ونكتشف أن الله أودع علمه عند هؤلاء المشايخ، الذين يجيدون الصراخ والنواح والتمثيل والظهور بمظهر الدعاة الذين لا يبغون سوى نصرة الحقيقة ومعرفة الحق، والذين أطلعهم رب العالمين على الغيب وكلفهم تحديد من يجب أن يذهب إلى الجنة ومن يجب أن يذهب إلى النار. واللافت في أمرهم أنهم يستخدمون الأدوات التي طورها العقل عبر التاريخ في إثبات أشياء لا علاقة لها لا بالعقل ولا بالمنطق ولا بالإنسانية ما دام استخدامها محصورا في تبرير قتل الآخر وتكفيره وفي نشر الكراهية والحقد والبغضاء، وخلق كل أسباب الفرقة والقتل والتدمير.
من يتابع هذه القنوات، يخرج بقناعة أن الطرفين على باطل إذا صدق ما يأتي به كل طرف من شواهد تاريخية وأحاديث نبوية وآيات قرآنية ضد الطرف الآخر. وبشكل تلقائي يجد أي شخص لديه الحد الأدنى من التفكير الموضوعي العقلاني أن هذا هو حال كل من الطائفتين مع باقي الطوائف والأديان الأخرى. وتلك هي نظرة كل طائفة من الطوائف والأديان الأخرى إلى هاتين الطائفتين. وبذلك نحن مرة أخرى أمام مضمون الآية الكريمة" وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون كتاب الله"، ولكن مع تعميمها على الطوائف الإسلامية هذه المرة بدلا من حصرها في الحديث عن اليهودية والمسيحية في إطار زمني محدد.
والنتيجة التي يصلها أي متابع هو أن الجميع إما صادق، وبالتالي فالكل على باطل، أو الكل كاذب لأنه من الصعب أن تكون الحقيقة كلها في طرف واحد إذا ما أخذنا بالاعتبار طبيعة الصراع الطويل والمعقد بمكوناته الدينية والتاريخية، وبالتالي لا توجد حقيقة، وهذا مستحيل. فمن يستطيع إقناع مقاولي الفتنة ودعاة القتل والتكفير من مشايخ القنوات الفضائية أن الحقيقة ليست حكرا على طرف بكامله، وأنها موجودة بنسب متفاوتة عند الجميع، مثلما هناك أخطاء بنسب متفاوتة عند الجميع. وأن لكلٍ حقيقته الخاصة به، وأن ما هو باطل في طرف ما قد يكون حقا لدى الآخر. والمطلوب أن يتعاون الجميع على تركيب هذه الأجزاء المتناثرة من الحقيقة في كل واحد متماسك، وأنه من الأفضل أن ينصرف كل طرف إلى بناء وتقديم أفضل وأجمل ما لديه، بدلا من الانشغال في تدمير الآخر ونبش أخطائه ومساوئه. وعندها سيكون لدينا عالم يسير نحو الخير والتعايش والتعاون. عندئذ يتفرغ هؤلاء المشايخ للتذكير بمكارم الأخلاق والسعي إلى جعل الدين طريقا إلى المعاملة الحسنة، لأن الدين المعاملة. وعندها قد يقتنعون بالتوقف عن التعيّش من إثارة الفتن والاستمتاع برؤية الحياة على شكل غابة يكون فيها الإنسان إما مفترِسا أو مفترَسا. ويتذكرون بعد ذلك أن الناس صنفان: أخوك في الدين ونظيرك في الخلق كما يقول الإمام علي بن أبي طالب.
أليس من الأفضل أن يكون رجل الدين داعية تسامح وانفتاح وحوار وقبول للآخر، وليس داعية حروب وتكفير، وأن يكون مشغولا بفتح الطرق أمام الناس للعبور إلى جنة رب العالمين بدلا من الانشغال بدفعهم جهنمه، وطبع أختام التأبيد فيه على جبهة كل من يخالفه في الرأي. وعندها كم سيكون العالم جميلا، وكم ستكون الجنة واسعة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال