الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاثية اليقظة الفلسفية - السهروردي وحكمة المتمرد!

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


السهروردي هو أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك ولد عام 549 للهجرة (1150ميلادية) في قرية سهرورد في أعالي جبال فارس، وقتل عام 587 للهجرة (1191 ميلادية) في مدينة حلب. تتلمذ في بدايته على يد الشيخ مجد الدين الجيلي (وكان أستاذ فخر الدين الرازي). وأثارت الفلسفة اهتمامه الشديد، كما تأثر منذ وقت مبكر بكتب ابن سينا، والمتصوفة إضافة إلى مختلف المدارس الفلسفية والأديان. مما يعكس مستوى انفتاحه العقلي والروحي. ووجد هذا الانفتاح تعبيره أيضا في حبه للسفر، أي للخروج من حدود الجغرافيا والبيئة التقليدية، بحيث تحولت حياته إلى رحلة دائمة من اجل المعرفة ومواجهة مصيره فيها. وقد أشار هو في إحدى رسائله على ذلك عندما كتب يقول، بأنه بلغ الثلاثين سنة وأكثر عمره في الأسفار والاستخبار والفحص عن مشارك مطلع على العلوم. وصنعت هذه الأسفار شخصيته الحرة وآفاقها المتفتحة، مع ما فيها من استعداد لما دعته التقاليد المحافظة بالتهور والاستهتار. بحيث قال عنه احدهم "ما أذكى هذا الشاب وافحصه. إلا إني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه، أن يكون ذلك سببا لتلفه". بينما قال عنه ابن أبي اصيبعة:"كان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارع في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، وكان علمه اكبر من عقله!". غير أنه تقييم لم يكتمل بسبب انقطاع حياة السهروردي المبكر.
فقد كانت هواجس السهروردي وسلوكه ومواقفه ومساعيه محكومة بهموم البحث عن الحكمة. الأمر الذي جعله غريبا متغربا. وليس مصادفة فيما يبدو أن يطلق على رسالته المتعلقة بشرح قصة (حي بن يقظان) اسم (الغربة الغربية). فالعقول الكبيرة تحس على الدوام بغربة. لكنها غربة بلا اغتراب! من هنا استغراب الآخرين منها، وذلك بسبب طبيعة الميول المختلفة بين غربة الكبار بوصفه أسلوبا للتكامل الذاتي، واستغراب الآخرين إياها بسبب مظهرها "المتهور". إذ وصفه تلميذه الشهرزوري في كتابه (نزهة الأرواح)، قائلا، بان السهروردي كان مستوي القامة، يضرب شعره ولحيته إلى الشقرة. وانه كان يميل إلى السماع (الموسيقى). وكان يبدي احتقارا شديدا لكل مظاهر السلطان والأبهة. كما كان يغير ملابسه بطريقة مثيرة. وقد روى بعضهم عنه حادثة طريفة تروي كيف انه كان يماشيه في جامع ميافارقين، والسهروردي لابس جبة قصيرة مضربة زرقاء، وعلى رأسه فوطة طويلة وفي رجله زربول (نعال). وعندما رآه صديق له اقترب منه قائلا:
- ما جئت تماشي إلا هذا الخربندا (سائق الحمير)؟!
- اسكت! هذا سيد الوقت شهاب الدين السهروردي!
فتعاظم الرجل هذا القول وتعجب منه وانصرف! بينما نراه مرة أخرى موشحا بالسواد. وعندما اقترب منه احدهم يكلمه بينما كان السهروردي سارح في عالم آخر:
- لو لبست شيئا غير هذا اللباد الأسود!
- يتوسخ.
- تغسله!
- يتوسخ.
- تغسله!
- ما حييت لغسل الثياب! لي شغل أهم من ذلك.
ولا علاقة لهذه الصورة بالمظهر والمظاهر بقدر ما انه تعكس تمرده الشامل وتوحده الذاتي. كما أنها تعكس تكامله العلمي والعملي في الظاهر والباطن، الذي وجد تعبيره في فكرته عما اسماه بالحكيم المتأله. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "الحكيم المتأله هو الذي يصير بدنه كقميص يخلعه تارة ويلبسه تارة أخرى. ولا يعد الإنسان في الحكماء ما لم يطلع على الخميرة المقدسة. وما لم يخلع ويلبس. فإن شاء عرج إلى النور، وان شاء ظهر في أي صورة أراد. وأما القدرة فإنها تحصل عليه بالنور الشارق عليه. ألم تر أن الحديدة الحامية إذ أثرت فيها النار تتشبه بالنار وتستضيء وتحترق؟ فالنفس من جوهر القدس، إذا انفعلت بالنور واكتست لباس الشروق أثرت وفعلت، فتومئ فيحصل الشيء بإيمائها. وتتصور فيقع على حسب تصورها. فالدجالون يحتالون بالمخارق، والمستنير الفاضل المحب للنظام البريء من الشر، يؤثر بتأييد النور لأنه وليد المقدس".
لقد وضعته فكرة الحكيم المتأله في حالة غريبة وغربة تامة عن تقاليد الفقهاء والمدارس التقليدية. من هنا اختلاف الناس فيه بين مصدق ومزندق! والأخير من نصيب الفقهاء، الذين كان "الاجتهاد" الفقهي بالنسبة لهم هراوة السلطة. وقد عملوا كل ما باستطاعتهم من اجل جر هذا "المتهور"، الذي "كان عقله اكبر من علمه" إلى خديعة الجدل اللاهوتي. إذ استطاعوا جره إلى "الزندقة" من خلال الجدل حول القدرة الإلهية. لقد نظر الفقهاء إليها بمعايير النص، بينما نظر إليها هو بمعايير العقل المجرد. وهو خلاف يعكس الاغتراب الجوهري بين تيار القدرة الإنسانية الفاعلة والحرة وتيار تحجيرها. واستجابت السلطة بشخصية صديقه الملك الظاهر (568-613 هجرية) (1173-1216 ميلادية) إلى الموافقة على قتله "تلافيا للفتنة". ويقال انه ندم لاحقا على ذلك واقتص ممن أوقع السهروردي في القتل. وهو أمر محتمل لكن اليقين فيه هو أن رجل السلطة لا يمكنه أن يكون وفيا وأمينا للعلاقة بالمفكر الحر.
ومن الصعب الآن القول، فيما إذا كان السهروردي قد أدرك هذه الحقيقة أم لا، إلا انه لم يفكر بها. وذلك لان همومه الجوهرية بوصفها روافد صيرورته العلمية والعملية كانت تسير صوب بلوغ الحكمة وهدوءها المضطرب في"بحار المعرفة"! وليس مصادفة أن يطلق السهروردي لقب الحكيم على من له "مشاهدة الأمور العلوية". وهي درجة يمكن للمرء أن يبلغها في حال توحيد العلم والعمل في دورة لا تنتهي مما دعاه السهروردي بالانسلاخ عن الدنيا، ومشاهدة الأنوار الإلهية، والسير فيها إلى ما لانهاية. من هنا قوله في تقديمه لكتابه (حكمة الإشراق) إلى أن ما يكتبه هو "لطالبي التأله والبحث، وليس للباحث الذي لم يتأله ولم يطلب التأله فيه نصيب. ولا نباحث في هذا الكتاب ورموزه إلا مع المجتهد المتأله، أو الطالب للتأله. فمن أراد البحث وحده فعليه بطريقة المشّائين" (أتباع أرسطو). من هنا تصنيف السهروردي الحكماء إلى ثلاثة أصناف كبرى. الأول وهو حكيم الهي متوغل في التأله عديم البحث (مثل الأنبياء وشيوخ المتصوفة أمثال البسطامي الحلاج والتستري)، والثاني حكيم بحاث عديم التأله (مثل الأرسطيين القدماء والفارابي وابن سينا من المتأخرين)، وأخيرا حكيم الهي متوغل في التأله والبحث. والأخير يطوي في ذاته مراحل الحس والعقل والحدس في كل واحد، كما وضعها في لوحته الرمزية عن المعنى العميق في شخصية "حي بن يقظان".
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عزة.. ماذا بعد؟ | المعارضة الإسرائيلية تمنح نتنياهو -الأمان-


.. فيضانات في الهند توقع أضراراً طالت ملايين الأشخاص




.. مواجهة مرتقبة بين إسبانيا وفرنسا في نصف نهائي يورو 2024


.. الاستقرار المالي يثير هلع الفرنسيين




.. تفاعلكم | مذيعة أميركية تخسر وظيفتها بسبب مقابلة مع بايدن!