الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشارات عابرة

علي الأمين السويد

2010 / 6 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تنظر من خلال نافذة السيارة، فتعبر بك مئات العبارات التي توقد في رأسك حوارات كأنها وساوس شيطان الإنس والجان، ورغما عنك، و بالرغم من التعب الذي يفترسك في نهاية يوم شاق كالعادة، تجد نفسك أسيراً لقراءة هذه الكتابات التي منها ما يجعلك تبتسم، ومنها ما يغيظك، ومنها ما يجعلك تزفر ومنها ... ومنها.
فكم من مرة مرَّت بي دراجةٌ نارية بعجلات ثلاث، وقد كتب على مؤخرتها عبارة "مركبة طويلة"، وهي في الواقع "قصيرة" لا يتجاوز طولها متراً ونصف. وآخر كتب على حافلة صدئة صنعت قبل أن يتوفى جدي، رحمة الله عليه، إعلاناً غريباً بخط جميل يقول: "تعلن شركة حفاري القبور الدولية عن تنظيم رحلة إلى المريخ بدون رجعة، للراغبين بالاستجمام الاتصال على الرقم 00000000 شرط إخبار أمهات زوجاتهم"، و آخر كتب حكمةً ربما تهزُّ راسك موافقاً عليها، وربما لا، تقول " الحسود لا يسود"، أو "طنش، تعش"، أو "نفّخْ عليها (دخن السجائر)، تنجلي"، وأخرى مضللة مثل "اتق شر من أحسنت إليه".
يقول صديقي: "أنا أقرأ، وأحلل، كل ما يمر بي من عبارات مهمة، أو غير مهمة، شعورياً، و لا شعورياً، وفي أحايين كثيرة، أهزُّ رأسي محاولاً الخروج من الموضوع الذي يشغلني وكأنني أنفض من فروته الغبار أو القشرة، إلى أن احترت يوماً في أن أتوقف عن فعلي هذا، أو أني سأعصب عيني خوفاً من القراءة. طبعاً، هو ربما لا يعلم أنه حينما قال ذلك، قد عبَّر عما يجول في رؤوس الآلاف من الناس و"أنا منهم، و أولهم" على رأي الفنانة ميادة الحناوي في إحدى أغنياتها.
ومما قرأت مكتوباً هنا وهناك، ولعب في رأسي قليلاً و كثيراً، بيتاً من الشعر للمتنبي. فرحت أبحث في مغزى استخدامه دون الإشارة إلى قائله من قبل البعض في سياق حديثهم. حاولت نفض الأفكار السوداء حول أسباب ذلك الاستخدام، تماماً مثلما يحاول صديقي التملص من هدير القراءة والتحليل، فلم أفلح. فتعالوا معي نطلع على بعض جوانب تحليل قول هذا البيت: أولاً من قبل المتنبي في حياته، و ثانياً قوله له، لو أنه قام من موته الآن، وأخيراً استخدام هذا البيت من قبل بعض الناس أثناء حواراتهم المختلفة، حيث اتبع طريقة المقايسة حسب قوانين المنطق الحيوي.

المقايسة الأولى
المادة المقايسة: بيت من شعر المتنبي
المصدر: من شعر أبي الطيب المتنبي
ملاحظة
ستتم مقايسة مصالح البيت دون اعتبار لمختلف مصالحه الجمالية و باعتبار قائله المتنبي ذاته وهو على قيد الحياة آنذاك.

أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

أولا – قياس حال المصالح

الحكم: صـراع ﬤ (1) عــزلة

السبب: تتحوى مصالح البيت المعروضة لإشكالية كون الشاعر أهلاً لما يقوله أم لا.
فأهل الاختصاص من الشعراء والأدباء من معاصريه، والعامة ممن سمعه، أو ممن قابله يختلفون في كونه فعلاً كما يصف نفسه. و يلاحظ استخدام الشاعر لكلمة "الذي" التي تعني أنه هو وليس أحداً غيره، مما يؤطر لصراع ذا توتر عال بين من يرفضون قول الشاعر، وبين الشاعر ومؤيديه.
ولكون البيت يعرض لمصالح تنغلق على ذات شخص الشاعر كما يظهر من استخدامه لكلمات مثل :"أنا"، "أدبي"، "كلماتي" ، جاء الحكم بالعزلة المعشش في مربع الصراع.

ثانياً – قياس جذور منطق المصالح

الحكم: شـكل جـزئي (2)
السـبب: مرجعية غير منافية للبرهان وغير ملزمة.
فمن عامة أهل الاختصاص من الشعراء و الأدباء آنذاك يرون أن ما يقوله المتنبي غير مناف للبرهان. فشعر المتنبي كان معروفاً ومتميزاً بدرجة كبيرة، ولكن الاعتراف بتفوقه، آنذاك، لم يكن سهلاً أو ممكناً بسبب عدة عوامل منها عدم الإحاطة بكل ما قيل من شعر جيد، و منها صعوبة الحكم النهائي في تفوق شاعر دون غيره.


المقايسة الثانية
مقايسة مصالح البيت لو قام المتنبي من قبره وقاله اليوم:
أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

أولا – قياس حال المصالح

الحـكم: عـزلة
السـبب تتحوى المصالح المعروضة إشكالية تتلخص بالإشارة إلى النتاج الأدبي للشاعر على أنه من النوع الذي لا يمكن لأعمى بصيرة ومعاند أن ينكر أدبه، ولا يمكن لمُعْرِضٍ عن الحق مشاراً إليه بعبارة "به صمم" أن يستمر في تجاهل ما في هذا الأدب من قيمة وأهمية. وهذه الإشكالية، هنا، هي ذات إيقاع منخفض وغير ملزمة أيضاً.

ثانياً – قياس جذور منطق المصالح

الحـكم: شـكل كـلي (3)
السـبب: مرجعية برهانيه بدهية يقبل بها عامة أهل الاختصاص من الأدباء والشعراء العرب. وقبول أهل الاختصاص ملزم لعامة الناس بالضرورة المنطقية.

تعــليق :
إن بـُرِّرَ لرجل أن يقول ما قاله المتنبي عن نفسه، لكان ذاك الرجل هو المتنبي ذاته. فهو أحد الشعراء القلائل الذين استمرت صلاحية شعرهم بزخم منقطع النظير لمدة تزيد على العشرة قرون. تقول عنه الموسوعة الحرة وكيبيديا: "(4)المتنبي، هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد، أبو الطيب الجعفي الكوفي، ولد سنة 303 هـ في الكوفة بالعراق، وعاش أفضل أيام حياته و أكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان أحد أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهو شاعر حكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ويقولون عنه بأنه شاعر أناني ويظهر ذلك في أشعاره. ترك تراثاً عظيماً من الشعر، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير. قال الشعر صبياً. فنظم أول أشعاره وعمره 9 سنوات. اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً.
صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني."
وفي الحقيقة أن شعراً ينجح في البقاء على قيد الحياة متصدراً عناوين دراسات، و أطروحات أدبية، ويدرس كمادة منفصلة، أو متصلة في كل المؤسسات التعليمية المتخصصة باللغة والأدب العربي لمدة تزيد على الألف عام، لجدير به أن يتربع على كرسي تسيد الشعر و البلاغة.

المقايسة الثالثة

فيما يلي مقايسة توظيف البيت من قبل بعض الناس و ذلك من خلال استخدامه للدلالة على ما يكتبون باعتباره فريداً من نوعه. ومن صور استخدام هذا البيت أن يذكره أحد المتحاورين في معرض الإشارة إلى أدبه أو شعره بكتابته على زجاج سيارته كعبارة "لا تلحقني مخطوبة" أو "عين الحسود تبلى بالعمى"، أو أن يتخذه توقيعاً لرسائله البريدية.

النص المقايس: أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

أولاً – قياس حال واتجاه المصالح

الحـكم: صـراع ﬤ عـزلة
السبب: يعرض استخدام هذا البيت في هذه الحالة إلى إشكالية تتحوى مصالح صراعية عالية التوتر تتمثل في كون المُستخدِم يدعي العلم وحيازة الأدب الرفيع، الأمر الذي لا يقبل به عامة الناس فضلاً عن أهل الاختصاص، فقد يكون القائل أمياً، أو متعلماً عادياً وأراد أن يفتخر بكياسته، فقال هذا البيت الذي يحفظه. ونلاحظ وجود مصالح عزلة معششة في مربع الصراع جاءت لأن المتحدث إنما ذكر البيت، لينسب الرفعة والسمو لذكائه و أدبه، وما يتيح له ذلك وجود المفردات مثل :"أنا"، "أدبي"، "كلماتي".

ثانياً – قياس جذور أحوال المصالح

الحـكم: جـوهر كـلي (5)

السـبب: مرجعية منافية للبرهان تتحوى ازدواجية معايير.

نلاحظ أنه لو استخدم هذا البيت أحدٌ الأدباء المعاصرين، فسيقع في أشد ما وقع فيه المتنبي يوم كان على قيد الحياة مع أهل الاختصاص، فضلاً عن أنه ليس القائل الحقيقي لهذا البيت.
ولو قاله أحدٌ من غير الشعراء أو الأدباء لتوضح الغرض من القول على أنه علو واستهزاء بالمستمع لتحقيق مصالحه في إغضاب محاوره، وإلباسه ثوب الغباء والتخلف.
فكون قائل البيت ممن لا يقبل عامة أهل الاختصاص بشعرهم، إن وجد، على أنه من الدرجة الراقية التي يدّعيها، فهو يعرض في قوله هذا إلى قضية منافية للبرهان، ويستوي في ذلك الشاعر أو الغير شاعر أو أديب.
وحين يذكر القائل هذا البيت، قولاً أو كتابة، فهو يقصد بذلك التدليل على كون المستمع، أو القارئ أقل علماً، أو ذكاء من القائل، فإما أن يرضخ المستمع إلى تلميح القائل، أو يكون غبياً بنظر القائل ونظر من حوله و تتضح هذه الازدواجية إذا اشتد الحوار، واحمرَّت عيني القائل، وارتفع صوته، و حان وقت الانصراف الذي به تبدأ القطيعة.

ملاحـظات:
(1) ﬤ*: إشارة الاحتواء في الرياضيات، وهي تعني هنا: "أن مربع الصراع يحتوي (يتحوى) مربع العزلة كمربع فرعي."
(2) شكل جزئي : يكون عند وجود مصالح غير منافية للبرهان , و غير ملزمة. مثالها: عبارة "أنا بكره إسرائيل".
(3) شكل كلي : يكون عند وجود مرجعية البداهة الكلية و المنطق ألبرهاني. مثال: "للإنسان حق الحياة"
(4) http://ar.wikipedia.org/wiki/أبو_الطيب_المتنبي
(5) الأحكام الناتجة في المقايسة الثالثة جاءت كون المستخدم يستعمل البيت دون الإشارة إلى قائله
الأصلي، وقد يصدف أنه لا يعرف مَنْ قائله الأساسي. ولو قام مستخدم البيت بذكر أن المتنبي هو
من قال البيت، لاختلفت أحكام المقايسة وتبدلت نحو الايجابية الحيوية.
(6) جوهر كلي: يكون عند وجود مصالح منافية للبرهان والبداهة الكلية وتقبل الظلم وازدواجية
المعايير. مثال: "يوجد أناس من كوكبنا يسكنون مذنب هالي، وإذا لم تصدقني، فأنت جاهل".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط


.. النازحون يعبرون عن آمالهم بنجاح جهود وقف إطلاق النار كي يتسن




.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: نتنياهو ولأسبابه السياسية الخاص


.. ما آخر التطورات وتداعيات القصف الإسرائيلي على المنطقة الوسطى




.. ثالث أكبر جالية أجنبية في ألمانيا.. السوريون هم الأسرع في ال