الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجابري في مكتبة مؤيد

سعد محمد رحيم

2010 / 6 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بين محل بقالة، وآخر لتصليح الدراجات الهوائية، وفي مواجهة مطعم شعبي، وكشك صغير لبيع الشاي على الرصيف، ومخزن ثلج، وعلى شارع باتجاه واحد يفضي إلى كراج عمومي كانت مكتبة مؤيد سامي.. صورة صارخة من أرشيفنا السريالي في تسعينيات بعقوبة، حيث الحصار يقرض الآمال ويسرق البريق من عيون الناس. وحيث حالنا جميعاً قلق، لا يستكين، مما يخبئ الغد. وخوف من أن تكون للحيطان حواس خمس وأخرى سادسة لكشف النوايا والمقاصد الدفينة.. عند هذه الناصية المشرفة على المجهول كانت المكتبة شيئاً باهراً ينتمي لجهة العبث في نظر بعضهم، أو لمنطق التشبث بالحياة عند بعضهم الآخر.. شيء على الرغم من جديته المفرطة فإنه يحمل مسحة رقيقة من الفكاهة. ولذا كان ثمة من يقف مبتسماً عند مدخل المكتبة ( وهي دكان صغير ) يحدج بتل الكتب على الأرض، ويقرأ اللافتة الكرتونية الصغيرة؛ ( الكتاب بمئة دينار ) ثم يرفع رأسه إلى الرفوف المزدانة بالكتب الأغلى وابتسامته تتسع قبل أن يسأل ذلك السؤال المثقل بالسخرية والشفقة والإنكار: "هسه، ابهل زلك هَمْ أكو واحد يشتري اكتاب؟". فيرد عليه مؤيد بابتسامة عريضة ونبرة حاسمة: لا.. ثم يقهقه مردفاً ليقطع على الشخص الواقف سبيل السؤال المكمِّل المنطقي: "لعد شكو مفتح؟". فتسري عدوى الضحك بين الحاضرين في المكان.
في هذا المكان الذي لا يخلو من اللامعقول كان بعض النقاش يخص محمد عابد الجابري ومشروعه الفكري.. كان كتاب ( نقد العقل العربي) بأجزائه الثلاثة ( التكوين والبنية والعقل السياسي، قبل أن يصلنا الجزء الرابع عن العقل الأخلاقي ) فضلاً عن كتبه الأخرى ( العصبية والدولة، نحن والتراث، مدخل إلى فلسفة العلوم، الخ ) متاحة لنا، نستلها من الرفوف ونقرأ.. كان ذلك المشروع كبيراً ومغرياً يتحدى العقل ويحرّك ملكة التفكير، ويُغرق القارئ بالأسئلة.. كان المشروع من الضخامة إلى الحد الذي صار من المستحيل أن ينجو من الثغرات ومواضع الضعف. ومع ذلك يبقى مشروعاً فذاً.. كنا في سجالاتنا أنا ومؤيد، وأحياناً بمشاركة بعض الأصدقاء منهم: ( الإبراهيمان البهرزي والخياط، حاتم وفراس الشيبانيان، كاظم الواسطي، منير العبيدي، صلاح زنكنة، حسين التميمي ). نختلف مع طروحات الجابري ونعترف بفضله على الفكر العربي المعاصر في الوقت نفسه، لأنه أثار إشكاليات لم يكن بالحسبان، ودخل مناطق للفكر ممنوعة، وحاول استنطاق بعض المسكوت عنه، وحفّز الآخرين لقراءته والاتفاق معه أو مخالفته. فشُرعت سبل لحوارات فكرية خصبة ومثمرة شارك فيها عشرات المفكرين العرب ومنهم حسن حنفي. وكان مؤيد يحتفظ بمعظم أعداد مجلة اليوم السابع المتضمنة لنصوص حوارات الجابري والحنفي التي احتدمت في فاتحة تسعينيات القرن المنصرم.
أذكر أننا خضنا نقاشاً مستفيضاً عن مفهوم ( تبيئة المفاهيم ) الذي ورد في كتاب الجابري: ( المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد ). حيث التبيئة في اصطلاحه؛ "تعني ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطاً عضوياً، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة، سلطة المفهوم، في آن واحد". ولأننا كنا مهتمين بمفهوم المثقف: من هو المثقف، وهل يشكل المثقفون طبقة أو شريحة مستقلة، وما وظيفة المثقف الآن في بلادنا؟ وعلاقة المثقف بالسلطة. فإن ما طرحه الجابري حول هذه المسائل صار جزءاً من مجال أحاديثنا وحواراتنا. وحين قدّمنا ( أنا ومؤيد ) عرضاً مشتركاً لكتاب إدوارد سعيد ( صور المثقف ) في أمسية لاتحاد أدباء ديالى عدنا إلى ما قاله الجابري بهذا الصدد. وتوقفنا طويلاً عند فكرته عن ظهور المثقفين في حضارتنا العربية الإسلامية بعدما اقترن ظهور المثقفين في أوربا العصر الوسيط "بنشأة المدن وتأسيس الجامعات والاحتكاك بالثقافة العربية الإسلامية عبر الترجمة" في مقابل أن "الجيل الأول من المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية قد ارتبط ظهوره... بظهور ( الخلاف ) وتحوله إلى ( فتنة ) عملية وفكرية".
وبعد حسن حنفي تصدى آخرون للجابري، وذات يوم التقط مؤيد كتاباً من درج خاص مخفي وناولني إياه؛ اقرأ هذا.. كان الكتاب بعنوان ( هل هناك عقل عربي ) لهشام غصيب. من ثم وصلنا كتاب جورج طرابيشي ( مذبحة التراث ) جعلنا نعيد النظر ببعض قناعاتنا عن كتابات الجابري. وأخيراً كانت أجزاء من كتاب آخر، أضخم لطرابيشي عنوانه: ( نقد نقد العقل العربي ). وانبهر مؤيد بالكتاب الأخير. كان رأي مؤيد أن طرابيشي قد قضى بشكل نهائي على مشروع الجابري وجعل بنيانه الفكري ينهار تماماً. وكان رأيي أن مشروعاً بهذه الآفاق لا يمكن أن تنتهي بهذه السهولة ومهما كانت الانتقادات التي يتعرض لها قوية ومفحمة. وإن المنهج الذي استثمره الجابري والإشكاليات التي طرحها والمفاهيم التي نحتها والأسئلة التي أثارها والإزاحات التي حققها ستبقى مركز اهتمام المفكرين لسنوات طويلة قادمة. وإذا كنا نريد أن نؤسس للنهضة علينا بدءاً أن نخلّص العقل العربي من معيقاته، مما يغيّبه، ويعطّل قدرته على التعاطي مع التراث العربي والعالمي، ومع الماضي والحاضر، والشروع بالإنتاج المعرفي. وكان المدخل الابستمولوجي الذي اختاره الجابري في حفرياته لتراثنا يصب بهذا الاتجاه.
صحيح أن المشروع لم يكن كاملاً وليس فوق التمحيص والدراسة والنقد. ولكن من الظلم تسفيه المشروع برمته وإلغائه.. كان مؤيد يدرك هذا ويوافقني في كثر مما أذهب إليه، بيد أنه كان غاضباً من الخدع التي مارسها الجابري في إنتاج خطابه الفكري، والتي اكتشفها طرابيشي. إذ أن البناء الذي شيّده ( الجابري )، بحسب رأي طرابيشي ( ويؤيّده مؤيد ) قائمة على أسس بعضها مختل وبعضها ضعيف وبعضها خاطئ، وعلى مقولات مبتورة أو منزوعة من سياقها وهي التي أوصلته إلى نتائج لن تصمد أمام ريح النقد. وكنت أقول أن الجابري فتح مسارب للفكر وحرّك ساكناً في زمن الهزائم وانحطاط حياتنا السياسية والثقافية، ونحن بحاجة إلى تغليب العقل البرهاني/ العلمي على ما عداه في زمن الخرافات والأصوليات الضيقة، كما يريد الجابري. فيعقّب مؤيد؛ نعم، ولكن...
ومع "ولكن" يستمر السجال وتتصادم الآراء والأفكار والمفاهيم في ظهيرات الصيف مع الماء المثلج والشاي الساخن تحت مروحة سقفية تنفخ هواءً حاراً وتتوقف حين تنقطع الكهرباء الوطنية ( لم تكن المولِّدات قد انتشرت على نطاق واسع، بعد ). غير أن السجال لا يتوقف والحديث لا ينقطع إلاّ مع مجيء صديق آخر يطرح قضية مغايرة سرعان ما ينغمس مؤيد في السجال حولها فأقول؛ باي، تأخر الوقت، أراك غداً" وأغادر وفي ذهني أن أستأنف معه الحديث عن الجابري غداً أو بعد غد.
توفي الجابري رحمه الله يوم 3/5/2010 تاركاً إرثاً فكرياً غنياً لابد من أن يتحمل مفكرو العرب ومثقفوه مسؤولية إعادة قراءته ونقده في سياق مشروع النهضة العربية المتعثرة الخطوات. وإعادة الاعتبار للعقل عبر إكمال مشروع نقده الذي قام بعبء كبير منه الجابري. لأن لا نهضة من غير عقل ناقد فعال ومنتج لها.
أما مؤيد ( رحمه الله ) فاستشهد قبل رحيل الجابري بأكثر من خمس سنين. وكان أمام باب داره في منطقة بهرز ببعقوبة يحمل محفظة فيها أوراقه، لحظة تلقى سيل الرصاص من سيارة مسرعة فرفع المحفظة في رد فعل لا واعٍ، سريع وأخير، ليتقي بها شر رصاصات الإرهابيين. غير أنها ( المحفظة بأوراقها ) كانت من الهشاشة الفيزيقية بحيث أنها امتلأت بالثقوب حين خرقتها الرصاصات المنطلقة إلى صدره.
لا أظن أن ذهني سيتحرر في أي يوم من هذه الصورة التراجيدية المؤلمة، والتي لها محمول رمزي صارخ ومثقلة بدلالات لا تُخفى. وأعتقد أنها تعد تعبيراً عن العلاقة الملتبسة بين المثقف ومحيطه الاجتماعي بما يختزن هذا المحيط من سلطات وآليات وممكنات قمع وإقصاء وتصفية جسدية. وطالما تساءلت ماذا كان مؤيد يخفي، يومها، في تلك الحقيبة، أيُّ كتاب ولأي مؤلف؟. ربما للجابري أو طرابيشي أو علي الوردي أو إدوارد سعيد أو محمد أركون أو أدونيس أو رولان بارت أو ميشيل فوكو أو أي أحد آخر من مفكري الحداثة العرب أو العالميين. أولئك الذين كنا نناقش أفكارهم في مكتبته. وأيضاً، ما زلت أتساءل؛ ماذا كتب في أوراقه من ملاحظات وأفكار وقصائد، هو الشاعر والباحث والناقد، تلك الأوراق التي تضرّجت بدمه النقي.
كان مؤيد مع مكتبته مؤسسة ثقافية لها دورها الذي لا ينكر في مدينته، وحتى المدن المحيطة بها، وكان هناك من يأتي من بغداد؛ أصدقاء يودون قضاء بعض الوقت الطيب والمثمر في صحبته.. كان رواد مكتبته من مختلف قطاعات المجتمع ( طلبة دراسات جامعية وعليا، أساتذة جامعيون، مدرسون، كتّاب وفنانون وصحافيون، باحثون مستقلون، قراء اعتياديون، رجال دين، سياسيون، رجال أمن، فضوليون، عشاق ثقافة، متبطلون، أنصاف معتوهين، الخ، الخ ). وقد صار مؤيد ومكتبته جزءاً من ذاكرة هؤلاء جميعاً، ناهيك عمّا تركه من كتابات ليست كثيرة لأنه كان يعتقد أن المتعة العظمى في هذا العالم تكمن في القراءة، في شكل الكتاب ورائحته، وثقله، في ما تنطوي عليه من كنوز وأسرار ومعارف.. نعم لقد صنع مؤيد تاريخه الخاص الذي نعرفه بوضوح أفكاره ومواقفه ودوره الثقافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرالهذا النص الجميل في رثاء الشخصيتين
اكاديمي مخضرم ( 2010 / 6 / 18 - 13:47 )
استاذ سعد انت دائما تكتب بابداع جميل اما هذه المره فقد رثيت الاكاديمي والكاتب المغربي الجابري بشكل بديع خارجا عن الانماط الكلاسيكيه المليئة بالمجاملات ولكنك وكانك لم تكن قاصدا ذالك عرفتنا وافجعتنا باستشهاد هذ ا
المعلم الثقافي العراقي العصامي مؤيد ورثيته كما لايستطيع ان يرثيه اخ
وباسلوب يتناسب ربما بمدينة البرتقال سابقا ومثقفيها سابقا ايضا
شكرا مرة ثانيه فقد قمت بهذا العمل الجليل نيابة عنا جميعا اهل العلم والثقاقة ومحبيهما في العراق


2 - تقليد أدبي
متسائل ( 2010 / 6 / 18 - 18:30 )
الاسم الأدبي بصيغته الكاملة جزء من شخصية الأديب أو الكاتب، وتجزئتها أو تغيير صيغتها يدخل في باب التهميش أو التعتيم. لم يترك المبدع الزاهد كتابات وكتب كثيرة ولكنه ترك إسما رائعا وجميلا، هو حري بالحياة والتبجيل. تمنيت لو أن الكاتب الفاضل وضع الاسم كاملا في العنوان، علما انه سبق نشر هذا الموضوع بدون نقصان الاسم.. مع الشكر والتقدير


3 - شكرا
سعد محمد رحيم ( 2010 / 6 / 20 - 16:48 )
أخي الأكاديمي المخضرم
شكرا لمشاعرك وثقتك، والحقيقة أنني كتبت مجموعة مقالات عن مؤيد سامي أرجو أن أضمها في كتاب بعد أن أكمل الفصول الأخرى وغايتي رسم صورة عن الحياة الثقافية في بعقوبة التسعينيات.
أخي المتسائل
أشكرك لتعليقك والحقيقة لم أفكر قط بتهميش اسم مؤيد سامي وكتبت الاسم مفردا في العنوان ربما لأني أحسه قريبا مني الى درجة وكأني أخاطبه ولا أدري ان كنت تعرف عمق علاقتي بالراحل الشهيد وهذه المادة لم تنشر سابقا بل هي جديدة كتبت بعد وفاة الجابري ونشرت فقط في جريدة المدى بحلقتين في ملحق أوراق ولم أكرر سوى وصف موقع المكتبة ولكن بصياغات أخرى
مع المحبة

اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت