الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخرسان وقوة البيان

حامد كعيد الجبوري

2010 / 6 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



قبل ما ينيف على العشرة سنين تعرفت على كادح حلي به عاهة حبسة اللسان ، والرجل غير مكترث لهذه الحبسة اللسانية ، فهو يمارس عمله كبقال لبيع الفواكه والخضر ، مستفيدا من بعض أصدقاء عمله لتفسير ما عُجم على المتلقي من مفردات لا يفقهها ، واستطعت من خلال سني علاقتي معه فك رموز أكثر كلماته التي يحدثني بها ، ولأنه رجل كادح كما قلت أستطاع أن يتزوج وينجب أطفالا أدخلهم المدارس ليتعلموا ما حرم أبوهم من علوم هو بحاجة لها ، أراه مساءا بغير ملابس العمل يجلس مع بعض من رفاق عمله ليمارس لعبة الدومينو أو لعبة الطاولي ، ولأنه كادح كما قلنا أستطاع أن يجمع مبلغا من كد يده ليشتري خربة في أحد مناطق الحلة الشعبية ، هد بناءها القديم وأنشأ على أطلالها بويتاً صغيراً يسعه ويحتضن عائلته الصغيرة جدا ، مساحة هذه الدارة لا تزيد على الستين مترا مربعا أقتنع بها أيما قناعة أفرحته وأفرحت أهله ، فوجئ بحضور مبلغ من محكمة بداءة بابل ليعلمه بوجوب حضوره الدعوى المقامة ضده من قبل ورثة بائعة الدار المتوفاة بعد بيع دارها لصاحبنا البقال ، في الموعد المحدد للجلسة صحب معه زوجته كمترجمة لما يريد بيانه للحاكم ، عرف من مجرى الدعوى أن المدعين أفادوا أن والتهم لم تبع دارها ، وأن كل الوثائق المقدمة مزورة ، وأن الرجل مشتري دار والدتهم مجنون ، سأل القاضي صاحبنا ليتوثق من جنونه أولاً ، هل تحتاج لمحام يدافع عنك ؟ ، أجابه على الفور عن طريق مترجمته الزوجه ، شكرا سيادة القاضي فأنا أدافع عن حقي أفضل من أي محام يكفل ذلك ، قال القاضي متى تزوجت ؟ ، وما عدد أطفالك ؟ ، ولماذا أنت هنا ؟ ، وما هي هذه الدائرة ؟ ، بكل بساطة أجاب عن كل سؤال سؤل إياه وبإسهاب جميل كسب ود القاضي ، وأقنعه ببطلان الدعوى التي رفعت ضده ، لم يحسم القاضي الدعوى بل حرر كتاب من دائرته لدائرة العقار مستفسرا عن صحة إصدار البيانات التي قدمها له صاحبنا لينطق بالحكم ، وهنا تدخل قائموا الدعوى مصرون على أن صاحبنا إضافة لجنونه فهو لم يفهم والدتهم بائعة الدار الخربة بما أراد قوله لها وأنه أراد من والدتهم استئجار خربتها وليس بيعها كما يدعي هو ، قال القاضي لصاحبنا بماذا ترد عليهم ، أجاب الرجل أن ما أتى به هؤلاء غير معقول ، فكيف لي وأنا البسيط أن أستأجر بيتا ثم أهده وأبنيه ، وأنتم لم تروا ذلك وداركم لا يبعد سوى بضع خطوات عن الخربة التي أشتريتها من والدتكم ، وأن قلتم أني لم أفهم والدتكم بقولي فأنا أستعنت بزوجتي لنقل كل ما أريد قوله لها ، وأن أدعيتم أن ذلك غير جائز ، فأنا أقول لكم أن الله جل شأنه بعث لنبيه موسى (ع) أخيه هرون (ع) ردءا لموسى ، لأن موسى كان حبيس اللسان مثلي ، الى هنا أنهى القاضي الجلسة لتؤجل لموعد آخر للبت بالحكم بعد إجابة دائرة التسجيل العقاري بذلك ، بموعد الجلسة اللاحقة ورد الكتاب مؤيدا إصدار كافة الوثائق من دائرتهم وهكذا حسمت الدعوى لصالح صاحبنا ، في هذا الباب وأمثاله يروي صاحب كتاب المستظرف في كل فن مستظرف عن حادثة قد تشابه ما طرحناه ، وملخص ذلك أن غنيا يملك داران فارهان يقع بينهما خربة عائدة لعجوز تسكنه وتملكه ، أراد الغني الذي لا يشبع من الأطيان أن يشري تلك الخربة من صاحبتها العجوز ، أستأذنها بالدخول فأذنت له ، وقال لها أنه بحاجة لشراء دارها لكثرة عياله ونيته تزويج أولاده وداراه لا تسعان لهذه المهمة ، اعتذرت العجوز من بيع دارها وقالت له أن لها به ذكريات لا تنسى ، قال لها كم تعتقدين يساوي دارك من الدنانير ؟ ، أجابت لا علم لي بذلك ولا يهمني زاد المبلغ أو قل ، قال لها يا أمي أن دارك لا يساوي أكثر من عشرة دنانير وسأعطيك بدل ذلك مائة دينار ذهبية ، قالت له لا أبيع أيها الجار العزيز ، قال لها سأدفع لك ألف دينار ، قالت له لقد قلت لك رائي ولن أبيع داري ما حييت ، قال لها الرجل سأشكوك للقاضي ، قالت له أفعل ما تريد ، وفعلا استدعيت لقاضي المدينة صديق التاجر وسألها أن دارك لا يساوي عشرة دنانير وقد عرض عليك مبلغ ألف دينار فلماذا لا توافقين على البيع ، أجابت ياسيادة القاضي ، أن لي في هذه الدار ذكريات أعتز بها كثيرا ولا أرغب بالبيع ، لم يقتنع القاضي بهذا الجواب ، وقال لها إذن سأحجر عليك وأتهمك بالجنون لعدم موافقتك على هذا العرض المغري ، ضحكت العجوز بصوت عال وأجابت لا أدري من هو السفيه فيكما ، الرجل المشتري أم القاضي الغبي ، صرخ بوجهها ماذا تقولين يا شمطاء ، أجابت بكل ثقة أن عليك أيها القاضي غير المؤتمن أن تحجر صاحبك الذي يدفع مبلغ ألف دينار ببيت لا يساوي عشرة دنانير ،وهذا الجنون بعينه ، دار لا تساوي سوى عشرة دنانير يدفع به ألف دينار ، ألجمت القاضي بجوابها وخرجت تجر أذيال الانتصار أمام قاض مرتشي ، والعاقل يفتهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الثقة بين شيرين بيوتي و جلال عمارة ???? | Trust Me


.. حملة بايدن تعلن جمع 264 مليون دولار من المانحين في الربع الث




.. إسرائيل ترسل مدير الموساد فقط للدوحة بعد أن كانت أعلنت عزمها


.. بريطانيا.. كير ستارمر: التغيير يتطلب وقتا لكن عملية التغيير




.. تفاؤل حذر بشأن إحراز تقدم في المفاوضات بين إسرائيل وحماس للت