الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان الأخير

ابراهيم هيبة

2010 / 6 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الإنسان خطأ من أخطاء الطبيعة . هذه قناعة توصلت إليها ذات يوم عندما كنت أتجول مع صديق لي في أحد السهوب المجاورة للقرية التي ولدت بها؛ ونحن نتبادل أطراف الحديث، أشار صديقي إلى واقع أن مجموعة من الأنواع الحيوانية، التي كانت تعيش هنا في هذه السهوب، قد انقرضت ولم يعد لها أي أثر. وتعليقا على ملاحظة صديقي، قلت له بأن كل ما يتحرك تحت الشمس سيختفي إلى غير رجعة، وسيأتي يوم سنتحدث فيه عن انقراض آخر ذبابة؛ فالإنسان حيوان مبيد ولديه نزعة مرضية لجعل هذا العالم عالما قبيحا. فهو لا يقطف إلا ما هو أخاذ وجميل، و لا يترك إلا ما هو شائك وقبيح، خالقا بذلك وجودا لا بقاء فيه إلا لما هو سيء وبشع.
كل المخلوقات تعيش في انسجام تام مع الطبيعة باستثناء الإنسان وحده. فعلى مرِّ التاريخ أثبت هذا الكائن بأنه حيوان شاذ ولا يملك موقعا مريحا بين مجموع الخلائق. إنه لا يكف، في أي نشاط من نشاطاته، عن تلويث البحار وقطع الأشجار و تشبيع الأجواء بشتى أنواع السموم و الغبار. عندما تشغِّل التلفاز أو تفتح جريدة أو مجلة لن تجد إلا ذلك التغني المبتذل بالحضارة الصناعية والتقدم التكنولوجي؛ وأنا أتساءل هنا، بأي حضارة وبأي تقدم هذا الذي يمكننا التغني به ونحن لم يعد بإمكاننا أكل السمك لأكثر من مرة في الأسبوع، لا لشيء إلا لأنه مشبع بالمعادن والسموم التي نرميها في بحارنا ومحيطاتنا؟ إنني لا أكاد أرى أي خير في كل هذه القرون التي قضاها الإنسان في التصنيع والتركيب. فإذا ما رغب أحدنا في رؤية زهرة برية، فعليه أن يتحمل مشقة الخروج من العمارة التي يسكنها لمسافة سبعين كيلومترا أو أكثر؛ أما إذا كان يرغب في مشاهدة قنفذ أو أرنب فعليه أن يتوجه إلى المنتزه الوطني بالعاصمة.
على إثر كل زيارة أقوم بها لمتحف أو حديقة حيوانات أستنتج بأن قسوة الإنسان لا حد لها. كل هذه الأسود والغزلان والتماسيح والطيور التي أراها الآن كانت تعيش حرة طليقة لملايين السنين، إلى أن جاء هذا الإنسان فطاردها بكل الوسائل والطرق، وجعل من كل نوع منها إما مصدرا لطعامه، أو مادة لكسوته، أو وسيلة تسلية له ولنسله. لقد لا حق الإنسان هذه المخلوقات في كل بقاع الأرض، وما وُجد عرين أو غار أو جحر إلا ووصل إليه. ولمَّا رأى هذا الإنسان بأن ما بقي من هذه المخلوقات يسير نحو الانقراض، وذلك بسبب ما ألحقه بها من أبشع أنواع التقتيل والتنكيل، وضعها في أقفاص كئيبة حيث تتغذى على أطعمة فاسدة ويتفرج عليها السياح والفضوليون. إنني أفهم جيدا أن يفترس حيوان ما حيوانا آخر، و لكنني لا أستطيع أن استوعب كيف يمكن لحيوان أن يجعل من حيوان آخر موضوع فرجة أو احتقار أو إذلال— وهذا بالضبط ما فعله الإنسان بباقي المخلوقات. ماذا أقول؟ الإنسان ديكتاتور الحيوانات.
لو كنت أتحكم في دواليب الكون، لكنت قد مسحت الإنسان من على وجه الأرض. فمنذ البدء أثبت هذا الكائن بأنه لا يحسن إلاَّ الانفصال. لقد أمره إلهه بأن يلزم المكان المخصص له في الجنة، وحذَّره من أنه ثمة حدود لا يجب عليه أن يتجاوزها؛ ولكن الإنسان، وكعادته، يهوى تجاوز الحدود وخرق العهود فأكل من الشجرة المحرمة وكان ذلك أول إنفصال له— إنفصاله عن إلهه. ولكن إنفصالات الإنسان لا تنتهي؛ فها نحن نشهد اليوم وفي كل ساعة وحين انفصاله عن الطبيعة وذلك بسبب ما يلحقه بها من خراب ودمار إلى درجة أنه ارتفعت أصوات تطالب بكتابة عقد طبيعي مع الأرض. الإنسان كائن مرفوض، إنه لا ينفك يُطرد من فردوس تلو الآخر— إنه كائن غير مرغوب فيه.
الإنسان حيوان أناني وجشع، وعندما يُطلق له العنان يتحول العالم إلى ورشة للشيطان. هذا بالضبط ما فعلته أغلب الأنساق الميتافيزيقية التي عرفها تاريخنا الفكري والتي عملت على تكريس غرور الإنسان و صلافته. وقد كانت المسيحية أول ميتافيزيقا أنذرت نفسها لهذه المهمة حيث عملت على التبشير بأن الإنسان خُلق على صورة الله؛ وبأن هذا الأخير قد تجسد فعلا، في يوم من الأيام، في صورة إنسان وعاش مع الإنسان ومات من أجل الإنسان. ثم جاءت الحركة الإنسية التي جعلت من الإنسان "مقياس كل شيء." وهكذا توالت الأوهام بين ميتافيزيقا تقول بأن الإنسان طيب في عمقه، وأخرى تقول بأنه خليفة الله في أرضه، وثالثة تقول لك "دعه يعمل، دعه يمر." والحق أنه مهما اختلفت هذه الأنساق الميتافيزيقية في مفاهيمها وزوايا نظرها، فإنها تلتقي عند النتيجة نفسها والتي تتمثل في أنها أنزلت الإنسان منزلة لا تتناسب وقدراته؛ بل ويمكنني القول بأن النجاح السياسي والهيمنة التاريخية لهذه الأنساق، بنوعيها أللائكي والإكليريكي، لا يعود إلى انسجام في مقولاتها ولا إلى قوة في أيديولوجياتها، ولا حتى إلى فكرة الجحيم أو فكرة الخلاص؛ بل نجاح كل ذلك يعود إلى شيء واحد ــ وهو أن هذه الأنساق قد تملقت الإنسان ودغدغت ميوله النرجسية.
منذ أن وجد الإنسان وهو لا يطمح إلا لشيء واحد: احتلال مركز الأشياء. والحق أن كل البشر يتصرفون كما لو أنهم آلهة، فيما هم مجرد حيوانات عليا يقتلون ويتقاتلون على ظهر هذا الكوكب السيء الحظ، والذي غالبا ما ينسون بأنه مجرد كرة معلقة في الفراغ الكوني المطلق. وحده داروين فهم ما يجري؛ لقد رأى في الإنسان مجرد قرد متطور يتربع، الآن، على قمة هرم المخلوقات. ولقد كان بإمكان هذا القرد الأعلى أن يعيش في سلام تام مع نفسه ومع الطبيعة، ولكنه حيوان مصاب بهوس التقدم؛ إنه لا يكاد يصل إلى وضع حضاري حتى تبدأ الرغبة تراوده في تجاوزه إلى وضع حضاري آخر. ومن إرادة التجاوز هاته وُلد الإنسان فتحول بذلك من كائن يعيش في الطبيعة إلى كائن يُنصِّب نفسه سيدا عليها. والحق أنه حيثما تولي وجهك لن ترى إلا هذا الكائن وهو يغزو الفضاءات و يكدس الأموال ويستنزف الثروات.
كل ما يصنعه الإنسان لا يلبث أن يرتدَّ ضده. إنه لا يستفيد من أشيائه إلا مؤقتا، أما على المدى البعيد فإن كل ما يخرج من بين يديه يصبح مصدر إزعاج أو خطر. لقد اخترع هذا الكائن السيارة ليختزل المسافات ويسابق الزمن، وها هي هذه السيارة قد أصبحت تشكِّل في مدنه عاملا يعرقل الحركة و مصدرا لشتى أنواع الضوضاء والغازات السامة. إنني لا أكاد استوعب كيف أنه بعد كل هذه القرون من الرياضيات العليا والميكانيكا المعقدة انتهى بنا الأمر إلى خلق حضارة ميْسمها الضجيج والقذارة. ولا اعرف أي تقدم هذا الذي أحرزناه وقد أصبح الواحد منا لا يعبر شارعا ثانويا إلا بعد أن تتوتر أعصابه و يتصبب عرقه؟ والحق أنه عندما أرى هذه الأجواء الملبَّدة بالدخان وهذه الوحوش الحديدية التي تجوب شوارع مدننا وتدهس، من حين لآخر، بعض الأرواح البريئة، لا أتحسر إلاَّ على شيء واحدــ كوني لم ُأولد قبل الثورة الصناعية.
مع ولادة كل إنسان جديد يزداد الشر قليلا في العالم. وإذا كان هناك من شيء أتأسف لحاله فهو هذا الكوكب الأزرق الذي يحمل على ظهره كل هذه الملايير من بني البشر؛ والذين لا يختلفون عن بعضهم البعض إلا بقدْر ما يفرز كل واحد منهم من الخراب والكارثة. لقد توصلت إلى قناعة مفادها أنه علينا أن نعمل على تكريس حركة إنسية معكوسة تتمثل في إهانة الإنسان وتمريغ كبريائه في التراب. إنه لمن الضروري أن نُفهم هذا الكائن بأنه مجرد ترتيب حيوي في المنظومة الطبيعية للأشياء. وبأنه ملزم، إن أراد الاستمرار، بأن يتخلى عن أخلاق السوبرمان ويتبنى، عوضا عن ذلك، أخلاقا مغايرة تستمد جوهرها من تواضع الحشرات الأرض و عفوية العشب— على هذا الكائن أن يفهم بأنه ليس ابن السماء، بل ابن الأرض. والحق أنه رغم ما قد ينطوي عليه هذا الإذلال، الذي ندعو إليه، من مضاعفات جانبية، فإن مخاطره ستكون أقل بكثير من المخاطر التي قد تنجم عن تمجيد الإنسان أو عبادته؛ فالإنسان حيوان مغرور ومصاب بخيلاء لا علاج لها: فقط انظر إلى التكوين المورفولوجي للحيوانات؛ فكلها تتحرك على ظهر هذا الكوكب إما زاحفة أو ماشية على أربع— حتى الديناصورات ورغم ضخامتها وقوتها تبدو منحنية و محتشمة؛ لكن وحده الإنسان يملك وضعا مورفولوجيا عموديا.
إذا كانت اليوتوبيا لاتزال تعني لي شيئا، فإنها تعني أن تستولي قلة من المثقفين على الحكم في هذا العالم، فتؤسس بذلك دكتاتورية تقوم بالسهر على حماية الطبيعة ولجم اندفاعات الإنسان. والحق أنه أصبح من المُلح علينا، وأكثر من أي زمن مضى، بأن نُدمِّر هذا العجل الذهبي الذي يعبده معاصرونا والذي يتمثل في مجتمع الوفرة— إننا ملزمون بأن نعود إلى قيمنا البدائية، وبأن يتم إرجاع مستويات العيش إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى. كما انه من الضروري العمل على تحويل التناسل عند البشر من إمكان طبيعي مفتوح إلى إمتياز حضاري لا يمنح إلاَّ للأذكياء والمتفوقين. فمن يطَّلع على المعدلات الديمغرافية لبني البشر– خصوصا تلك المتعلقة بالبؤساء والأغبياء منهم– لا يمكنه إلاَّ أن يستنتج بأن الإنسان سرطان ينتشر.
فيما يخصني، لا أملك إلاَّ أن أقول بأنني قد أقلعت منذ زمن طويل عن الافتخار بانتمائي للنوع الإنساني؛ ذلك أنني نزلت إلى العمق الأخير لروح هذا الكائن فما وجدت إلا الأنانية والخبث وميول شيطانية أخرى. و لست أبالغ إن قلت بأنه لا يفتخر أحدنا بكونه إنسانا إلا إذا كان ساذجا أو مثاليا— أي إما جاهلا بطبيعة الإنسان أو انه لا يريد أن يرى سقوطه المدوي عبر كل الأزمنة والأمكنة. إنني اليوم لم أعد أتعجب إلا لشيء واحد— وهو كيف يتحمل كل واحد منا، لمدة سبعين أو ثمانين عاما، كل هذا العبء الذي يسمَّى بالإنسان؟ والحق أنه ما من معنى آخر للحياة سوى أن يرزح كل واحد منا، مند البداية وإلى النهاية، تحت هذا العبء المتمثل في رغبات متضاربة، ومشاعر متوترة تنضوي كلها تحت اسم أو لقب مكلَّل بالتباهي والنرجسية.
لا شيء يفتقر إليه الإنسان المعاصر مثل افتقاره للوعي بالزمن؛ ذلك أنه لو قام هذا الإنسان بتأمل الامتداد الزمني لِمَا قبل وجوده وما بعده، لكان بإمكانه أن يرى حجم العدم الذي يتوارى خلفه أو ينبسط أمامه. وربما كان بإمكانه أيضا أن يستخلص من ذلك بأن وجوده ليس سوى صرخة خاطفة في فضاء من الزمن الأبدي. ولكن الإنسان، وعبر تاريخه الفكري، قلَّما تمكّن من استبصارات ميتافيزيقية كهذه؛ فلقد اثبت هذا الكائن من خلال تاريخه السياسي والاقتصادي، وبما لا يدع مجالا للشك، بأن لديه نزعة للتأله والسيطرة. والحق أنه لو كانت لهذا الكائن صورة واضحة عن الطابع العرَضي لوجوده ومقدار الضرر الذي ينجم عن مشاريعه وأفكاره، لكان قد فقد الكثير من حماسه، و لربما كان قد دفعه ذلك إلى وضع كل أسلحته والتخلي عن كل خططه.
بالنسبة إلي، لا يكون الإنسان خيِّرا إلا إذا أحجم عن كل فعل. بمجرد ما يشرع هذا الكائن في التصرف تبدأ المشاكل في التداعي ويحصل الخراب. إن مشكلة الإنسان مع الوجود تكمن فيما يميزه: حريته. فكل الحيوانات، وباعتبارها كائنات لا تتحرك إلا وفق إملاءات الطبيعة، تعيش في انسجام تام مع وسطها؛ وحده الإنسان يبدو بأن الأوضاع تستشكل عليه، و يبدو أيضا بأنه يبحث عن نمط حضاري و وجودي لا قِبَلَ للطبيعة به. والحق أن جذور كل مشاكل الإنسان تعود إلى شيء واحد: و هو كون الإنسان كائنا غير متساوق. إنه حيوان حر— أي خليط ضار من الاندفاعات البهيمية و الميول الإلهية. إنه باختصار كمِّير (Chimera) الأزمنة الحديثة؛ وبالتالي لا تتوقعن منه شيئا آخر غير إفراز الكارثة.
من وجهة نظري لا يكون الشيء فعالا وذا قيمة إلا بقدر ما يؤدي إلى السعادة. وفي ما يخص الحرية، فهي بالضبط ما يؤدي إلى شقاء الإنسان وبؤسه. فهذا الكائن لم يكن مسالما إلا في العصور التي كان فيها مثال الحرية مثالا مغمورا أو شبه منعدم؛ فالحرية إمكان أونطولوجي لا يتلاءم و الاختلالات النفسية للإنسان. إنها هاوية لا قِبَلَ له بها. وإذن من الأفضل له أن يتراجع وأن يكفَّ– بقدر ما يستطيع– عن النظر إلى نفسه ككائن يعيش لأجل الحرية.
وحده لاوتسو شخَّص مرض الإنسان. لقد رأى في هذا الأخير كائنا مصابا بداء الحركة، وأن كل أفعاله لا ينتج عنها إلا بلبلة وعرقلة التدفق الطبيعي لمكونات الطاو (Tao). إن الإنسان في نظر لاوتسو لا يكون رائعا إلا عندما يحجم عن كل فعل ويكف عن التدخل في شؤون الكون؛ ورغم أن لاوتسو قد عاش في مجتمع ما قبل صناعي، فإن ذلك لم يفوِّت عليه فرصة التنبه إلى بذور الفساد في النفس البشرية؛ ولذلك اقترح فلسفة اللاَّفعل (wu wei)، ولكن ماذا يعرف معاصرونا عن هذه الفلسفة التي تحثنا على التعلم من الماء— أي أن نذعن لجغرافية الوجود و ننساب بين الأشياء في رقة وهدوء ؟ ! ومن أين لنا أن نفهم فلسفة كهاته ونحن نعيش في "حضارة" ترتكز على عبادة الجهد والعمل والديناميكية وتمجيد الحركة والتغيير؟ ! وفي الحقيقة، مهما اختلفت تصوراتنا بخصوص الإنسان، و سواء كنا نؤمن بأنه ملاك ساقط أو قرد تخلَّص للتو من زغبه، فإن ما هو يقيني وأكيد هو أن هذا الكائن متورط في مغامرة مجهولة العواقب؛ وبأنه عوضا عن أن يموت– على غرار أسلافه البدائيين– موتا هادئا على سريره، سيموت يوما ما ممزقا نفسه في حادثة ما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب