الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم في دار العداله

حامد حمودي عباس

2010 / 6 / 28
المجتمع المدني


كان الوقت يقترب من منتصف النهار ، حينما دخلت الى بناية المحكمه ، لأحصل على توكيل رسمي يحصل بموجبه احد اولادي على حق استلام راتبي التقاعدي .. ومنذ اللحظة الاولى ، كنت فيها اتقدم بخطاي المتثاقله ، صوب غرفة دلني عليها الحراس عند الباب الرئيسيه للبناية الداخليه ، داهمني إحساس بالخوف من مجهول لم اتمكن من تشخيصه .. لقد كانت حركة الموجودين داخل المحكمه ، وعبر ممراتها الضيقه ، توحي بمجملها بأن ثمة حساب سيجري بعد قليل للجميع وأنا منهم ، وخيل لي بان ذلك الزحام من البشر ، هو بانتظار صرخة سيطلقها أحدهم ، ليدخل الجميع الى قاعة كبيرة تتم فيها مرافعة من نوع خاص ، يحاكم بموجبها كل من سولت له نفسه بالتواجد حينذاك في ذلك المكان المهيب .
انتظر الى ان ننادي باسمك .. قالتها تلك التي استلمت وثائقي الشخصية ، ووجهها يحمل سحنة جافة رغم كونها كانت في مقتبل العمر .. تراجعت الى خارج الغرفه ، متخذا جدار الممر من خلفي سندا لي لألقي عليه بثقل جسدي ، مطلقا العنان كعادتي لعيوني ومخيلتي كي يزحفا الى ابعد من تلك النقطه .
لم يمهلني حب الاطلاع ، فرصة للانتظار في مكاني .. فتحركت منزلقا بجسدي خلال الممر دون قصد بعينه .. ثمة مقاعد خشبية تلتصق ببعضها تم رصفها على جانب الممر ، يجلس عليها من ينتظر قبالة الغرفة المعنية بالحالة التي جاء من اجلها .. وهناك عدد من الغرف ، ليس فيها ما يدل على اختصاصها ، سوى شرطي او ضابط يقف عند مدخل كل منها ، وهو يراقب بعينيه جموع الحاضرين ، يملأ محيطه القريب بدخان سيكارته على مهل .
توجهت بهدوء صوب ضجيج أكثر وقعا ، تتخلله صيحات منادي يستدعي اشخاص باسمائهم ، كان الرجل يرتدي الملابس العسكرية ، ومع هذا فهو حاسر الرأس متخليا عن ما يفرضه النظام العسكري ، في أن يكون الشرطي او الجندي مرتديا لغطاء الرأس حين مزاولة مهامه الرسميه ..
على المقاعد الخشبية المرصوفة هناك ، جلس صف من المتهمين بتهم مختلفة او متشابهة لا أدري ، وهم يتطلعون لأي شخص يمر من أمامهم ، وكأنهم يبحثون عن شيء مفقود ، من شأنه ان يعينهم في بلواهم ..
توالت صيحات المنادي ، يعقبها في كل مره نهوض أحد الجالسين ، ليقوم أحد الشرطة بفك وثاقه من حلقة حديدية تربط ذراعه بذراع صاحبه ، ويسحب الى غرفة القاضي كما كانت تدل يافطة صغيرة معلقة على احد الجوانب العلوية للباب .
كنت متشوقا لأن اجلس الى جانب احد منهم لمواساته بحديث افهم من خلاله اسباب وتفاصيل جرمه ، غير أن نظرات الشرطي لي بين الحين والآخر كانت تعيدني الى رشدي فانصرف عن نيتي تلك ..
رواح ومجيء ، واوراق محفوظة داخل سجلات ضخمه كتلك التي تتعامل بها دوائر السجل العقاري ، ينقلها رجال البعض منهم بملابس مدنيه ، والاخر بملابس الشرطه ، في حين انطلقت على حين غره ، وفي آخر الممر ، صيحة عالية من امرأة مسنه ، وهي تشتم رجلا وقف قبالتها يحمل بيده حقيبة سفر ، ويرتدي نظارات طبية تدلت على مؤخرة انفه ، وهو يردد ملوحا بيده في الهواء كلمات غير مفهومه .. دنوت قليلا لأفهم فحوى المشكله ، كانت رائحة الرجل النتنه قد دفعتني لأن احوم حوله ، لأكون في الجهة التي تقف عندها غريمته .. انها قضية تتعلق بايجار منزل على ما يبدو ، وليس فيها ما يثير الاهتمام .. توالت صيحات منادي المحكمه ، تتبعها فك قيود المتهمين وادخالهم الى غرفة القاضي .. وفجأة لمحت صبيا يسحبه اثنان من الشرطه ، لا يقوى على السير منفردا ، فبادر الشرطيان الى مسكه من تحت ابطيه ورفعه الى اعلى لينتصب جسده ، كان كجثة تتحرك ، لا شيء يدل فيه على الحياة سوى العيون المفتوحة عن اخرها ، وهي تقاوم الاستسلام للموت .. القي به غير بعيد عني ، فهالني أنه كان محملا بآثار الكي على رقبته وكتفيه العاريتين ، وتنتشر مواقع الكدمات على وجهه بشكل عشوائي مريع .. انحنيت من مكاني لاتطلع الى وجه الصبي .. لم تكن فيه معالم بعينها تشير الى تقاسيم بشر ، إنه عبارة عن مساحة ملونة بالوان تداخلت بينها لتصبح أشبه بقطعة مدهونة بسخام الرماد ، وتحيط بعينيه هالات زرقاء مشكلة دوائر غير منتظمه .. سرت القشعريرة في جسدي ، في حين كان الصبي ممدد على الارض بانتظار ان يقول القاضي كلمته فيه ، ولربما سبق لتلك الكلمة ان وردت اليه مسبقا ، وما عليه الا النطق بها ليعاد ( الجاني ) الى حيث كان ، محكوما عليه هذه المرة ، وليس معتقل على ذمة التحقيق .
انه من مدينة بابل ..هكذا قال احدهم وكان يقف قريبا منه ، فسارعت بالسؤال عن سبب اعتقاله ، وما إن سمع الرجل سؤالي حتى اختفى مباشرة من أمامي وسط الزحام ، لاختفي أنا في أثره فورا ، فوجدت نفسي الى جانب عربة لبيع الشاي في الساحة الخارجية للمحكمه . . ترى ما الداعي لأن احشر نفسي في عوالم لا قرار لها ولا حدود ، مالي وحال المظلومين والظالمين معا ؟ .. لماذا لا اسارع لإستلام اوراقي واغادر المكان على عجل ؟ .. لقد قالتها لي زوجتي يوما حينما وجدتني محشور بين طفل تمسك بي في عرض الشارع ، وبين امه الثائرة وهي تطارده لسبب ما ، قالت لي بأنني ساجد نفسي يوما في وضع اندم عليه إن لم أقلع عن الاهتمام بما حولي والى هذه الدرجة غير الطبيعيه ، لقد تمسك الطفل الصغير بساقي فمنعني عن الحركة تماما ، وامه التي هبطت من باب احد الفنادق ، حاملة قطعة من خشب ، تحاول النيل منه وترجوني ان اتركه لها .. شعرت ساعتها بانني أمام معركة لابد لي ان اخوضها ببساله ، فالمرأه كانت تبدو عليها علامات غير عادية توحي بانها إحدى بائعات الهوىممن يقمن في الفندق ، وكانت تزمجر وبشكل يتوعدني بالضرر ، إن لم استجب لطلبها في منحها ابنها لتقتص منه .. سلمت حقيبتي الى زوجتي وتحفزت اعضائي للقتال ، حملت الصغير لضمه الى صدري ، وقلت لها وبصوت حاولت ان افهمها من خلاله ، بانني لن اعيده اليها حتى تستكين ، وعليها ان تمنحني فرصة التحدث معها لينتهي الامر على خير .. صرخت بي زاعمة بانه ابنها وهي حرة فيه ، فاعدت الكرة بانني لن ادعها تؤذيه ، ولابد لها ان ترضخ لطلبي .. لقد كنت ارتعد في داخلي مخافة ان تقوم المرأة بفعل ما يجعل الغيارى من المتطوعين ( للدفاع ) عن كرامة النساء ، فتحدث المصيبة .. كنت كلما شعرت بالاقتراب من نقطة الاستسلام ، فتسترخي ذراعي من حول الطفل ، كان هو يضيق الخناق حول رقبتي ويطوي راسه الصغير على كتفي ليشعرني بقوة الدفاع عنه من جديد .
- اسمعيني جيدا ، ولا تفعلي اية حماقة تؤذيك وتؤذيني وتسبب لطفلك مشكلة ، دعيني ادخل معك الى الفندق للتفاهم هناك عسانا نصل الى اتفاق مفيد .
- ما شأنك انت وما يحصل لي ولابني يارجل ؟ .. هب انني اريد ذبحه بسكين ، ما دخلك انت في الموضوع ؟ .
- دخلي هو ان ابنك استجار بي وهو الان وديعة لدي ، وتأكدي بانني سوف لن اتخلى عنه ما استطعت .
لقد كنت حقا مستعد للدفاع عن الصغير والى الحدود التي استطيع ، ولم تثنني توسلات زوجتي بالتراجع عن ذلك .. كانت قطعة الخشب بيد والدته مدعاة لأن تحفز في داخلي احساسا بالقوة والاصرار .. كان فرحي كبيرا عندما القت المرأة ما بيدها ، وعادت ملامح الرحمة الى محياها .. مدت بيدها وبحنان ظاهر لتأخذ الطفل مني ، وبفطرة الطفولة ، استجاب لها الصغير حينما لمح فيها روح الام .. وبهذا تخلصت من ورطة تركت في نفسي أثرا لا زال يحفز في داخلي كراهية كل الاباء والامهات ، ممن يحملون في ايديهم وعقولهم لوحات من خشب ، ليخربوا بها اجساد ابنائهم وبناتهم الابرياء .

ايقضني فجأة صوت صفير سيارة للشرطه وهي تمر بالقرب مني مسرعة باتجاه ما ، فتذكرت بانني علي ان اسارع لاستلام اوراقي من الموظفة المعنيه .

في طريقي الى هناك ، وقبل ان اصل الى حيث الموظفة المختصة .. اعترضني جمع من الناس ، وقد تحلقوا حول فتاة تلطم وجهها وتصرخ لأن احدا سلبها ابنها وهما في اروقة دار العداله ، ترى من يكون هذا وكيف حدث ذلك ؟ .. وتوالت المعلومات .. انه زوجها ، جاء بها الى هنا بحجة تصديق عقد زواجهما القديم ، لتكون الغاية ليست كذلك ، إنه يريد منها التوقيع على تنازل عن دارها التي ورثته عن ابيها ، وحين اعترضت قام بتهديدها انه سياخذ ابنهما الى حيث لا تعلم ، الى ان ترضخ لطلبه .
- عيب يا امرأه .. غادري المحكمه فورا واستري نفسك ، زوجك قيم عليك وله فعل ما يشاء .
التفت الى المتحدث وكان قريب مني ، دنوت منه واجبته بهدوء –
- ولكن هذا ظلم بحق هذه المسكينه ، كيف يحق له ارغامها على التنازل عن ارثها وهو حق لها شرعا ؟ .
- ومن نصبك قاضيا لتفتي بالحق والباطل ؟ .
- ومن أباح لك ان تفتي بجواز ارغامها على فعل ما لا تحب ، متعذرا بقيمومة باطلة اصلا ؟ .
تراجع الرجل الى الخلف وصاح بعالي صوته –
- متى تغادروننا أيها الحمقى لنقرر كيف لنا ان نعيش ، المرأة هي المرأة والرجل هو الرجل .
- لا يوجد بيننا انا وانت على الاقل ، من هو أحمق سواك .. دع المرأة تحاول علها تجد من يساعدها في محنتها واذهب انت الى حيث اعمالك .
ساد هرج في المكان أضاع رده علي ، فتركته يقذفني بكلمات لم يصلني منها شيء ، وتوجهت الى حيث اوراقي ، فوجدت الغرفة مغلقه ، وعلمت بانني علي الحضور في اليوم التالي لاستلامها .. فايقنت بانني سأكون من جديد ، في مواجهة مجهول لا اعرف نتائجه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جمال القباحة في صورة الأوطان
الحكيم البابلي ( 2010 / 6 / 29 - 06:14 )
صديقي العزيز حامد
في الغربة ، وبعد كل هذه السنوات الطويلة ، لا يتذكر الإنسان الأمور الحياتية اليومية الصغيرة ، فقط يتذكر ما يعتقد عقله أنه كبير ويستحق الإهتمام
ولكن ... حين نقرأ مقالات تطرح الأمور اليومية العادية ، والتي تتشكل منها الأمور الكبيرة ، نبدأ بتذكر كل شيئ ، ذرات الغبار العالقة بزجاج السيارات المتربة ، بقايا البصاق الجاف على أرضية وحوائط الدوائر الحكومية ومرافق الحياة الإجتماعية ، روائح البعض الذي يغتسل من عيدٍ لآخر ، وحتى آلاف أعقاب السكائر المكملة للديكور الضارب في عمق الفوضى لصورة مجتمع شرقي فقد كل مستلزمات وجوده
كتاباتك دائماً تسحب ذاكرتي ببطيء شديد وتقسرها على تذكر أصغر التفاصيل في عالم نشتاق له رغم قباحته ولا ندري لماذا !؟ لعله إشتياق إنتماء الضفدع للمستنقع الذي تعوده حتى بات يفتقده وهو على ضفاف النهر النظيف الجاري
تذكرتُ درب الآلام الذي سلكته لمدة ثلاثة أشهر من أجل الحصول على ( بدل ضائع ) لدفتر خدمتي العسكرية ، حيث واجهتُ معاناة وإهانات وتهميشات وتعالي وعنجهيات ونذالات من موظفي الدولة كانت كافية لقتل قطيع من الفيلة
متى نستطيع أن ننسى جمال قباحة المستنقع ؟
تحياتي


2 - أخانا العزيز
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 6 / 30 - 15:42 )
ابتسمت مراراًُ وأنا أقرأ مقالك على المواقف التي وضعت نفسك فيها . في العراق وفي كل بلد عربي ستشاهد كثيراً وتسمع أكثر وتحزن بدون حدود وذكرتني كيف مرمطوني لتسجيل زواجي بأجنبي شهرين رايحة جاية حتى نكشني أحدهم وقال بقنينتين وسكي بيمشي كل أمرك ولما أتيناه بها رجّعها لي وقال جيبي لي الماركة كذا , بلادنا بيئة خصبة للخيال والأفكار وأسلوبك في الوصف خاصة مميز فعلاً شكراً لك

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | تعرّض مروحية رئيسي لهبوط صعب في أذربيجان الشرقي


.. إحباط محاولة انقلاب في الكونغو.. مقتل واعتقال عدد من المدبري




.. شاهد: -نعيش في ذل وتعب-.. معاناة دائمة للفلسطينيين النازحين


.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل




.. وزير الخارجية الأردني: نطالب بتحقيق دولي في جرائم الحرب في غ