الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نعم للدين .... لا للدولة الدينية

محمد نبيل الشيمي

2010 / 6 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يقع كثير من الناس في خلط شديد بين مفهومي الدين والدولة الدينية وقد أدى هذا الخلط والذي يبدو لنا أنه متعمداً يقصد منه استخدام الدين لتبرير الاستبداد والطغيان والظلم من خلال سلطة ترتدي وشاح الدين والدين منها براء وهنا يثور التساؤل عن الفرق بين الدين والدولة الدينية ؟ ... وكيف تحكم الشعوب من خلال دولة مدنية ..الدين أحد مرجعياتها وثوابتها ؟ ولعل طرح ماهية الدين ومفهومه تعد نقطة البدء في الولوج داخل هذه الإشكالية التي شغلت وستظل تشغل فكر قطاع واسع من رجال الفكر والثقافة وعلماء الاجتماع والمنشغلين بقضايا الأديان .
أولا في مفهوم الدين أو تعريفه :-
يرى د. أحمد بن سيف الدين تركستاني أن الدين يعني الطاعة والانقياد وتأسيس منهج الحياة على مثل عليا يلتزم بها الإنسان (1) في حين أن الموسوعة الحرة ويكيبديا تشير إلى أن مصطلح الدين مثير للجدل ولا يوجد تعريف واضح وثابت له يرضي كل الناس وكل تعريف يخضع لإيمان ورؤية واضحة فهناك من يعرفه من منطق إيماني أو الحادي فضلاً عن ذلك فإن نظرة العلماء إلى الدين تختلف عادة باختلاف تخصصاتهم وكما جاء بالموسوعة فإن علماء الاجتماع يرون في الدين مجموعة من القيم والمثل والخبرات لا يمكن اختصارها في مجموعة من المظاهر الاجتماعية والثقافية والتي هي لا تخرج عن كونها عن مظاهر ناتجة عن الدين وليست الدين أساساً ... وعليه فأنهم يرون في الدين الوعي والإدراك للمقدس وهو الإحساس بأن الوجود والعالم تم إيجاده بشكل غير طبيعي عن طريق ذات تعلو فوق الطبيعة (الإله الخالق) ... ويشير احمد بن سيف الدين تركستاني إلى التعريف الذي وضعه الأستاذ / محمد فريد وجدي " الدين اسم لجميع ما يعبد به الله والمله ومثله الديانة) ... في حين أن من المسلمين من يرون أن الدين يعني الاستسلام لأمر الله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك واتباع الرسول المعصوم وأن يكون الاستسلام والاتباع عقيدة وشريعة ومنهاج حياة شامل(2)
وفي دراسة نشرت بمجلة العلوم الاجتماعية الكويتية تحت عنوان ( مفهوم الدين ونظريته وأنواعه ) أنه يتعثر العثور على تعريف اصطلاحي موحد للكلمة دين إلا أن الدراسة طرحت عدة تعريفات لعلماء مسلمين أوردت منها ثلاث تعريفات /
-إن الدين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول .
-أنه القيام لله بما أمر به .
-أنه أمر يضاف إلى الله تعالى ... هو وضع إلهي يسوق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم فإن الوضع الإلهي هو الإحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء (3).
... ومن ثم فإن ذلك يعني أن الدين إيمان وفعل فأما الإيمان فيقضي التسليم والاعتقاد الجازم بوجود قوة هائلة جبارة أعلى من طبيعة الإنسان العقلية وهذه القوة هي التي تؤثر في تصرفات وسلوكياته أما الفعل فهو الالتزام بكل الفرائض التي طرحتها الأديان أيا كانت (سماوية / وضعية أرضية من وضع البشر) .
... وتختلف رؤية فلاسفة الغرب حول مفهوم الدين فإن كان المسلمون يحددون الدين فيما تضمنته تعاليم الأديان السماوية فإن الغربيين دمجوا بين ما هو منزل من السماء وما هو موضوع من قبل البشر (الدين الأرضي) وفي هذه الرؤية فإن المسلمين يرون أن كل دين لم ينزل من السماء دين باطل وفاسد زائف وعلى الرغم من ذلك فأننا نرى من بعض الفلاسفة الغربيين تعريفاً للدين أقرب ما يكون للرؤية الإسلامية فهذا هريرت سبنسر الفيلسوف الإنجليزي يقول أن "الدين هو الإيمان بقوة لا يمكن تصور ماهيتها الزمانية والمكانية" .
ولكن لم يكن مفكرو الغرب على وفاق تام مع الدين فمنهم الكثير ممن هاجموا الدين وأرى أن مونتيسيكو وفولتير كانا من أشد المناهضين للدين واكثرهم نقداً وكانت الأحداث التي عرفاها وعاصرا بعضها ذات تأثيرات على فكرهما حيث كانت هناك كل صور العنف والتدمير وإزهاق أرواح الناس وذلك خلال القرن السادس عشر وتحت أعين وبمباركة رجال الدين وأمراء الكنيسة وكانت المذبحة الشهيرة (سان بارتلمي) التي نفذها كاثوليك فرنسا ضد البروتستانت عام 1572 بعد اوامر من شارل التاسع وبمباركة والدته كاترين من أهم الأساب التي دفعت بعض المفكرين ومنهم مونتيسيكو لمعارضة ومهاجمة الدين .
يرى مونتيسيكو (1689-1755) في الدين مجرد تزيين جميل وكابح اجتماعي وكان يتصدى للكهنوت (من المعروف أن الكهنوت يعني الوساطة بين الله وخلقه من خلال الكهنة ) .
أما فولتير (1694-1778) فقد كان الدين بالنسبة له تخريف وتعصب وكان لا يطيق مجرد ذكر اسم الدين أمامه وقد كان احساسه بالضيق الشديد راجعاً تحديداً إلى ذكرياته الأليمة عن مذبحة بارتلمي كان عندما يتذكر تلك المذبحة وفقاً لقوله يحس بأعراض الحمى التي تضطره إلى الذهاب إلى الفراش لقد عارض فولتير بكل شدة وحماس الكهنوتية وأكد على ضرورة الفصل بين الكهنة والدين فهم في تصوره صورة مشينة للدين ويقول في ذلك (يجب أن يكون لنا دين والا نؤمن بالكهنة) .
قال "اسحقوا الكريه (قاصداً الدين) وأدين الدين باعتباره خيالاً ولا معقولاً أو اسطورة أو وهماً او افيونا او معرفة تجاوزها العلم فقد تكون الظروف التي عاصرها والتي شهدت صراعاً محتدماً بين الكنيسة والدولة حيث كانت الكنيسة تشرف على السلطة السياسية ونتحكم فيها وتقوم بتنصيب الملوك ومنحهم مشروعية الحكم أحد أهم أسباب التحول في حياته الفكرية كانت الكنيسة من خلال رجال الدين تستغل الناس وحتى تظل الأوضاع على جمودها عمل رجال الدين على بذر الأحقاد والضغائن مما أثر سلباً على نسيج المجتمع ومن هذا ربط بين المسألة السياسية والمسألة الدينية وهما في نظره مظهران لمشكلة واحدة تستلزم أبعاد الخوف والحقد مقابل إقراارا العقل وتقديمه على كل القيم الأخرى من خلال تخليص الدين من معجزاته والسماح بحرية الاعتقاد بغير النصوص الجامدة .
أما سبينوزا فقد انطلق من خلال فكره نقد منهجي للدين تمثل في نقده النصوص التي تضمنها الكتاب المقدس فيما يتعلق بالمعجزات والنبؤات التي يشير إليها فيرى ان الكتاب المقدس عمل إنساني يحمل كثيراً من التناقضات ويؤكد على الطلاق المطلق بين اللاهوت والفلسفة وبين الإيمان والعقل ويرى ان الفلسفة غاية وهي الحقيقة في حين أن غاية الإيمان تكمن في الطاعة والتقوى لا غير فاللدين مجاله وللعقل مجاله وهو بذلك حرر الفلسفة من تبعية اللاهوت الذي كان مسيطراً عليها وبشكل أعمى .
رأى أن رجال الدين يلعبون على المشاعر الإنسانية لتشجيع أتباعهم من خلال حكايات غير علمية وكان على يقين تام أن قصص المعجزات تؤثر على مخيلة الناس العاديين واجباً رهم على الطاعة وظل على قناعة تامة بأن الاعتقاد في الخرافات هو العدو اللدود لمعرفة الحقيقة ويعود إلى جهل الإنسان للأسباب الحقيقية للظاهرة ومن ثم في تشكيل رأيه (4).
وإذا القينا الضوء على الدين عند كارل ماركس لرأينا أنه كان يرى في الدين نقيضاً للتنوير وبشكل غشاوة على حواس الإنسان فهو كالمخدرات ومن هذا التصور قال الماركسيون أن الدين أفيون الشعوب فالدين يحقق للإنسان سعادة وهمية وهذا الاعتقاد جازم لدى ماركس لأنه رأى في استخدام الدين كأيديولوجية هدفاً لأحداث حالة من الرضاء من جانب الفقراء على الرغم مما يواجهونه من أهوال وأعباء وإن كان في ذات الوقت يؤكد على العيب يمكن فيما يفعله الناس باسم الدين وليس في الدين نفسه يقول ماركس أن الدين آهه الخليقة المضطهدة هو قلب عالم لا قلب له مثلما هو روح وضع بلا روح أنه مخدر الشعوب ... لماذا ؟ لأنه يخلق وهمية الأوهام لدى الفقراء ... الدين مخدر تم تصنيعه من خلال الطبقة الحاكمة للإبقاء على حالة السعادة عند الجماهير من خلال /
-العزاء الوهمي والسعادة المزيفة التي يوفرها الدين لطبقة ما بما يعني انه سبب ظهور الوعي الزائف ووقوع الناس في الاغتراب .
-تعويض خيالي وجزاء معنوي عن شقاء واقعي انه مجرد أذعان وسبب للركوع والخنوع وتعبير عن العجز وتبرير للبؤس والشقاء ... ويصرف الناس عن تغيير واقعهم .
أن الدين في معظمة أيديولوجيا تخفي مطالب ومصالح ورغبات قوى اجتماعية انتجته في عقل وكينونة البشر بأن هناك تعويضاً سوف ينالوه فيما بعد ويرى ماركس اهمية خلع السحر (الدين) عن البشر كي يفكرون ويبدعون عندما يخلعون عن انفسهم قداسة وتأثير الدين (5)
... قد نختلف كثيراً مع رؤية ماركس عن الدين ولكن من الإنصاف أن نشير إلى أن ماركس عندما نظر إلى الدين هذه النظرة السلبية فإنما كانت من وجهة نظر البعض تمثل نقداً للدين كايديولوجيا وكوسيلة اتخذتها فئة من الناس لتبرر فرض سيطرتها ورؤيتها على الطبقات الأخرى في المجتمع .
... وفي ذات السياق فإن ماركس رأى أن الدين من جانب آخر محفزاً للثورات وفاعل إيجابي ومحفز ودافع لقوي للثورة ورفضها للأوضاع الظالمة .
ماركس لم يكن كافراً بالمطلق ولكن كان يريد الارتقاء بالوعي وتطهير الأفكار من الوهم والخرافات والغيبيات التي صاغها رجال الدين لصالح إحلال الوعي العلمي والاهتمام بالنزعة الدنيوية وترسيخها في ثقافة الإنسان وحياته اليومية ولم يكن اعتراض ماركس على الدين إنكاراً له ولكن كان اعتراضاً على التوظيف السيء له ... نعم التوظيف السيىء له الناتج عن تدخل رجال الدين ومؤسساته في مجمل الحياة الاجتماعية من خلال أفكار استغلالية يبشرون بها ويعملون على إقراراها ويضنون عليها ثوب القداسة .
اما فيورباخ (1804-1872) فمن المعروف أنه كان يهدف إلى تحرير الإنسان مما سماه الوعي الديني .. ويرى أن أصل تطور الأديان في الماهية البشرية ينبع مع ماهيته اللانهائية ... ويرى فيورباخ أن للدين نتائج سلبية /
-الإيمان بالإله يؤدي إلى نفي عالم البشرية الأرضي ويقود إلى عدم الاهتمام بالحياة والتطور .
-الإيمان بالإله يعرقل العلم والتقدم والحرية وهذا يعني أنه يعارض التقدم والعمل من أجل حياة أفضل .
-الإيمان بالإله يؤدي إلى عدم التسامح مع الذين لا يؤمنون بالإله ذاته وهذا يعني أن عدم التسامح نتيجة حتمية (6) .
... والحقيقة المؤكده ان الدين قوة ايجابية تدعو إلى الفضيلة والعدل والإنصاف وعدم الظلم ونبذ الاستبداد وكراهية الطغيان والدين فطره خلق عليها الإنسان تقوم على أساس رغبة الإنسان في معرفة خالقه والتقرب إليه والخشية منه وكما يقول د. حسن حنفي" مازال الدين في مجتمعاتنا الإسلامية محركاً للشعب يساهم في التقدم والنهضة لو جابه التحديات الرئيسية للأوطان في الاحتلال والقهر والتخلف والتجزئة والتغريب والاستكانة والاستسلام" .
إن إذدراء بعض الشعوب أو نفر من الناس للدين ليس لعيب في الدين ولكن العيب فيمن يستخدمونه استخداماً سيئاً يبررون من خلاله أفعالهم التي تتعارض مع حقيقة وسمو أهدافه .
... كانت أفعال الكنيسة في أوروبا وسيطرة رجال الكهنوت على مقدرات الناس وشيوع المظالم (محاكم التفتيش مثلا) تحت اسم الدين سبباً رئيسياً في ظهور الأفكار المناوئة للدين ولم يخل الإسلام من هذه الظاهرة فتحت عباءة الدين استبد بعض الحكام حتى أنه وفقاً لرؤية د. إمام عبد الفتاح (الطاغيةـ دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي) صـ200(7) ان بني أمية استقروا على النظرية التي حكموا على أساسها ودعموا بها ملكهم الاستبدادي وهي أن الله اختارهم للخلافة وأتاهم الملك وهم يحكمون بإرادته ويتصرفون بمشيئته وأحاطوا خلافتهم بهالة من القداسة واسبغوا على أنفسهم كثيراً من الألقاب الدينية ... وكانوا يؤكدون على أنهم وصلوا إلى السلطة من خلال الله وليس للناس فيها رأي او مشورة ... حكموا وفقا لنظرية التفويض الإلهي ... وهي النظرية التي تأكدت بوضوح تام عند العباسيين فيما بعد (المصدر ذاته) ... هنا نرى أن المستبدين كانوا يجدون في الدين الغاية والمبرر الذي يبقون على أساسه على سده السلطة وبالدين يبررون افعالهم حتى أن هناك من رآى أنه لا يجوز الخروج على الحاكم ولو كان ظالما فهو ظل الله على الأرض وهذه الرؤية لإستخدام الدين وصولاً للدولة الدينية كانت مظهراً للحكم منذ فجر البشرية وشهدتها مصر الفرعونية وبلاد بابل وفارس والصين (الطاغية ـ مصدر سبق ذكره) واستمر الوضع ... الحكام يحكمون باسم الدين وتحت مبدأ التفويض الإلهي وإضفاء القداسة على الحكام .. ويبقى السؤال لماذا نرفض الدولة الدينية ؟
... ابتداءً فإن التاريخ يذكر أن اليهود هم أول من حاول إقامة الدولة الدينية بالنسبة للديانات السماوية وهم اول من صاغ مصطلح الثيوقراطية وذلك لأسباب خاصة بهم منها اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار المميز عن الأمم الأخرى ... وقد كانت محاولات الملوك خلال العصور الوسطى ارتداء عباءة الذين أو الإدعاء بأنهم يستمدون سلطاتهم من الله تبريراً لسلطتهم المطلقة إنما هي في الواقع محاولة إحياء الدولة اليهودية .. وقد استمر هذا الاتجاه في العهد المسيحي حيث استغل بعض الملوك الدين "كل سلطة فهي مستمدة من الله" وذلك تبريراً للطاعة المطلقة والاستسلام الكامل للطاغية اينما وجد ( لمزيد من المعرفة يمكن الرجوع إلى المصدر السابق ذكره ) ... ما المقصود بالدولة الثيوقراطية (الدينة) ؟
كان اول من صاغ مصطلح ثيوقراطية جوزيفوس فلافيوس في القرن الأول الميلادي لوصف الحكومة القائمة عند اليهود والثيوقراطية كلمة اصلها يوناني وتعني حكومة الكهنة أو الحكومة الدينية وتتكون كلمة ثيوقراطية من كلمتين ثية وتعني الدين وقراط وتعني الحكم ومن ثم فإن الثيوثراطية تعني نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة او رجال الدين الذي لا يجوز مراجعتهم أو محاسبتهم "فالثيوقراطية" هي ذلك النظام من الحكم الذي يجعل من الدين والتفويض الإلهي مصدراً للسلطة السياسية ويدعى القائمون عليها أنهم مفوضون من الله ،وأنهم ناطقون باسم السماء ويجب الإذعان لجميع قراراتهم والرضا بها دون مراجعة او اعتراض لأن الاعتراض عليها يكون اعتراضاً على الله الذي يتحدثون باسمه ، وهم وكلاؤه على الناس ...(8) .
أي أن الدولة الثيوقراطية دولة قائمة على نظرية الحق الإلهي ، يقدس فيها الملوك والحكام باعتبارهم نوايا عن الله وممثلين له في الأرض فآراؤهم مقدسة وأقوالهم وأفعالهم معصومة وقد عرفت أوروبا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطى بناء على ما يدعون أنه مأثور عن السيد المسيح عليه السلام ( ما تحلونه في الأرض يكون محلولاً في السماء وما تربطونه في الأرض يكون مربوطاً في السماء ) فمارس الحكام الاستبداد والقهر على شعوبهم باسم الدين واحتكرت الكنيسة المعرفة.
ويرى د. يوسف القرضاوي أن الدولة الدينية الثيوقراطية التي عرفها الغرب في العصور الوسطى والتي يحكمها رجال الدين الذين يتحكمون في رقاب الناس ـ وضمائرهم أيضاً ـ باسم ( الحق الإلهي فما حلوه في الأرض فهو محلول في السماء وما ربطوه في الأرض فهو مربوط في السماء ) فهي مرفوضة في الإسلام وليس في الإسلام رجال دين بالمعنى الكهنوتي انما فيه علماء دين يستطيع كل واحد أن يكون منهم بالتعليم والدراسة وليس لهم سلطان على ضمائر الناس ودخائل قلوبهم ، وهم لا يزيدون عن غيرهم من الناس في الحقوق بل كثيراً ما يهضمون ويظلمون ويقول د. القرضاوي نعم للدولة الإسلامية ، ولا ثم لا للدولة الدينية الثيوقراطية ويضيف د. القرضاوي أن الدولة في الإسلام هي كما جاء بها الإسلام وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مدنية تقوم السلطة بها عني البيعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو اجير لها ومن حق الأمة ـ ممثلة في أهل الحل والعقد فيها ـ أن تحاسبه وتراقبه وتأمره وتنهاه وتقومه أن أعوج وإلا عزلته ومن حق كل مسلم بل كل مواطن أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكراً أو ضيع معروفاً بل على الشعب أن يعلن الثورة عليه إذا رأى كفراً بواحاً عنده من الله برهان" (9)
ان تاريخ الدولة الإسلامية يشهد بأنها لم تكن دولة ثيوقراطية دينية بالمعنى الذي عرفته أوروبا وهو حكم رجال الدين وسلطتهم المطلقة في الأمور المدنية والدينية فالدين الإسلامي ليس فيه كهنوت ولا رجال دين وإنما فيه علماء وهؤلاء العلماء ليسوا أوصياء من الله على خلقه كما لم يكن هناك احتكار للمعرفة ولكن هذا لا ينفي أن الدولة في الإسلام تقوم على حراسة الدين وتصطبغ بهويته ، وتعمل على إقامة احكامه والدعوة إليه (10) ... وهذا يختلف جذرياً مع الحكم بالتفويض الإلهي كما كان يحدث في أوروبا خلال عصور الظلام والتي ما زالت ملامحها بادية في بعض أنظمة الحكم في بعض الدول العربية والإسلامية على الرغم من الإسلام حدد مهام الحاكم في تنفيذ ما يوكل إليه من تكليفات من خلال سلطات محددة لا يمكن تجاوزها منها الدفاع عن الدين وحدود البلاد وجمع الضرائب وتوزيعها واختبار حكام الأقاليم (الولاة) ... الخ وهكذا يؤكد على أن الحاكم في الإسلام لا يحكم بتفويض إلهي ولكن يخضع كغيره من الناس لما يقرره الله ووفقاً لمصلحة الرعية ... وهكذا يتضح أن الدولة في الإسلام دولة مدنية أحد ثوابتها الدين يقوم على أساس البيعة والاختيار (أرى أن ذلك يعني حق المواطنين في اختيار من يحكمهم بحرية وبدون تزوير أو تدخل من جانب الحكومات) والشورى أي الأخذ بما يراه الناس من صحيح في إدارة الحكم (رؤية د. القرضاوي وقد سبق الإشارة إليه) .
... نعم لا خلاف على أهمية الدين كمرتكز لكل مقومات إقامة الدولة ولا مناص عن دوره ولكن أن يصبح مطية في إيدي حكام مستبدين يحاربون الديموقراطية باسمه ويحاصرون الحريات الشخصية أيضاً بإسمه وذلك من خلال دولة دينية أمر يتنافى وحقوق الإنسان ..... نعم للدين الذي يجعل الناس سواسية ولا يعظم بعضاً على بعض من خلال قداسة أو استعلاء ... ولا للدولة الدينية التي تبغي وتتحيز باسم الدين والدين منها براء ونعم للدولة المدنية القائمة على التعددية والنابذة للتعصب المذهبي تلك الدولة التي لا توظف ولا تسخر الدين لغايات سياسية ... نعم للدولة المدنية التي تحترم حقوق الإنسان بغض النظر عن دينه وجنسة بعيداً عن العقول المتزمنة غير المتجاوبة مع قيم العصر ومع التسليم الكامل بأن الدين لا يتناقض مع مفاهيم العدل والمساواه ونبذ الظلم والاستبداد فإن استخدامه من قبل النظم الحاكمة جعل منه قيداً على الحرية والفكر نتيجة جمود بعض التفسيرات التي لم يستطع بعد علماء الدين من وضعها في سياقها الزماني ومما لا شك فيه أن هناك من الأحكام التي اختلفت باختلاف الزمان نتيجة لتغير العرف ولو أن هذه الأحكام ظلت باقية لا حدثت في الناس مشقة وضرر وهي بذلك تكون مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية التي تؤكد على ضرورة التخفيف ورفع الضرر ومن الملاحظ أن المرجعية في الدولة الدينية تعود إلى أحكام وقواعد بعضها خارج عن النطاق البشري والتي يتم تفسيرها حسب أمزجة وإرادة الحكام أما المرجعية في الدولة المدنية فهي تقوم على أساس ومصالح الناس وتتوافق مع التطور التاريخي للمجتمعات وهي على النقيض من الدولة الدينية تعلي من مبدأ المواطنة بعيداً عن التميز العرقي والطائفي ولدينا مثال على ذلك يما يتعلق بالدولة الدينية فهناك اليهود يعلون من وضع الإنسان اليهودي على كل الملل والنحل باعتبارهم شعب الله المختار انطلاقاً من مفهوم الدين لديهم ... والتاريخ يشير إلى أن الدولة الإسلامية خاصة في الفترة التي اعقبت وفاة الرسول (ص) وفترتي حكم الخليفتين وأبو بكر وعمر شهدت كثير من الأحداث التي سببت صدعاً في بنيان الدولة الإسلامية فكان كما سبق ونوهنا عنه يتم تصفيه المعارضين تحت شعار الدين وكم من رموز الفكر سقطوا صرعى رؤية دينية متحجرة متبلدة فقتل الإمام الحسين لأنه عارض استبداد بني أمية ومثله عبدالله بن الزبير .. وقتل المنصور ابن المفقع بمجرد ان عارضه في سياساته المبنية على مرجعية دينية محرفة لا تستند أساساً على صحيح الدين ولعلنا لا ننسي الدور الذي لعبه الفقهاء ضد الفيلسوف العقلاني ابن رشد عندما دسوا عليه لدي الخليفة المنصور الذي نفاه وضيق عليه لمجرد انه كان ضد الافكار الجامدة واستخدام الدين في تبرير ما كان سائداً من رؤيً لا تتناسب مع حقائق العلم ولا ثوابت الدين والتي كان يروج لها هؤلاء الفقهاء وبذلك خسر الفكر الانساني كثيراً بما حدث لهذا الفيلسوف المفكر .
إن من مثالب الدولة الدينية أن من الحكام من يرى في الفكر والثقافة شروراً يجب القضاء عليها وأذكر فيما تفعله الطالبان في افغانستان عندما دكوا بالمدافع تماثيل بوذا وحرموا على النساء العمل والتعليم ومنعوا الإرسال التليفزيوني وما تقوم به ما تسمي بجماعات المجاهدين في الصومال من قتل ونهب وتدمير للبني الاساسية للدولة تحت اسم الدين في حين ان الدوافع الاساسية هي الاستئثار بالسلطة واقصاء الاخرين .
وغالباً تقوم الدولة الدينية على عدد من التجاوزات التي يبررها رجال الدين وهي تناقض في الأصل ثوابت الأديان فلم تكن الشرائع السماوية بالمؤيدة للطغاه والمستبدين ويبقى توظيف الدين لصالح السياسة سبباً في انتشار الفساد واستخدامه في تدعيم الشرعية السياسية غير المقبولة شعبياً واستخدامه أيضاً في تبرير الخطاب السياسي للنخب الحاكمة ودعم سياساتها الاجتماعية وما تتخذه من قرارات في مجال السياسة الاقتصادية تتعارض مع مصالح الشعوب .
الدولة الدينية تستخدم الدين في حشد الجماهير وكسب ود وتعاطف الرأي العام من خلال استغلال الظاهرة الفطرية لدى الناس والمتمثلة في احترامهم للدين ـ بل ويبرز من خطورة الأمر أن القوى الدينية كثيراً ما يطلق شعارات تلهب مشاعر الناس فالأخوات المسلمون في مصر وهم من خلال كبار قادتهم لا يخفون رغبتهم في إقامة دولة دينية يرددون شعارات (الإسلام هو الحل ) أو ( القرآن دستورنا ) دون أن يقدموا برنامج علمي للتنفيذ وهم لا يخفون معارضتهم لتولي مسيحي سده الحكم في البلاد العربية ولهم آرائهم في دور المرأة المجتمعي أيضاً لهم رؤيتهم في المشكلات الاقتصادية وهي غالباً تتعارض ومقتضيات العصر ـ والمرجعية الدينية المسيحية ليست أكثر مرونة من جماعة الأخوان ويشير أ. نبيل عبد الفتاح في مقاله المنشور بالأهرام في 17/6/2010 تحت عنوان ما وراء حالة التضاغط السياسي في مصر الأمة (12) إلى رفض الكنيسة القبطية الأرذوكسية تطبيق الأحكام القضائية فيما يتعلق بالزواج الثاني ... يقول نبيل عبد الفتاح في موقف الكنيسة (السلطة الدينية) موقف ديني / لاهوتي وتاويلي ، يتم تعبئة الجمهور المسيحي الأرثوذكسي وراء السلطة / الكنيسة وذلك لرفض صريح للقانون الساري الذي ولم يتم تغييره منذ فترة وتطبقه المحاكم في كافة الأقضية التي ترفع لها طالبة التطليق ويضيف الكاتب"هنا نحن إزاء سلطة دينية" ـ مع كل الاحترام لها تقف رافضة لقانون الدولة بغض النظر عن الرأي فيما جاء به من قواعد قانونية ومدى اتفاقها أو تناقصها مع موقف البطريرك والمجمع المقدس منذ 1971 وحتى اللحظة الراهنة السلطة القضائية والمحاكم تطبق القوانين المعمول بها على المنازعات التي ترفع إليها ولا تعمل القواعد او المبادىء أو العقائد التي يراها أطراف الخصومة القضائية ولهذا السبب ألغت المحاكم الاستئنافية ـ الجنح المستأنفة ـ بعض الأحكام التي أصدرها بعض القضاه في عقد الثمانينات من القرن الماضي بتطبيق أحكام الحدود (في بعض جرائم السرقة وتناول الخمور إعمالا لنص المادة الثانية من الدستور ) ... ويستطرد نبيل عبد الفتاح إلى إلغاء الأحكام السابقة الذكر لأن نص المادة سالفة الذكر لا يتوجه به المشرع الدستوري إلى القاضي أو المواطنين وإنما إلى السلطة الشارعة كي تأخذ بالمبادىء العامة والكلية للشريعة أثناء وضع التشريعات وهو الأمر الذي حفظ للنظام القانوني المصري الحديث استمرارية أصوله ومبادئه المؤسسة ومرجعياته على اختلافها ومن ثم تبدو أحكام القضاء بالتطليق واجبة النفاذ إلى حين تغيير القانون والأخذ بما يراه البطريرك والمجمع المقدس والمواطنون الأقباط وينتهي نبيل عبد الفتاح إلى القول أن الخوف الذي سيطر على بعض أبناء النخبة المصرية تمثل في إظهار بعضهم أن بعض أطراف وفواعل رئيسة في المجال الديني بمقدورها تعطيل سلطة من سلطات الدولة القضاء ودون والقانون الرسمي وفق موقفها الرافض لهذا القانون ودون اللجوء إلى الطرق المقررة دستورياً وهو طرح مشروع قانون بديل من خلال الحكأو بعض أعضاء البرلمان بما فيه مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين المصريين أيا كان رأي بعض العلمانيين الأرثوذكس ، والانجيليين، من ضرورة وضع نظام للزواج المدني إلى جانب القانون الكنسي يلجأإليه من يشاء خارج الزواج الديني.
البعض يرى أن المشكلة هنا تتمثل في مسألة شرعية وتقاليد الدولة الحديثة وسلطاتها ومؤسساتها وقانونها واجب الاحترام من الجميع والذي يمكن تغييره وتعديله وفق القواعد والإجراءات المنصوص عليها دستورياً بعضهم يرى أننا إزاء ظاهرة سياسية اجتماعية ودينية بالغة الخطورة تتمثل في رفض تنفيذ الأحكام القضائية النهائية التي تصدر من قبل جهات المحاكم ودرجاتها على اختلافها بكل تبعات ذلك الخطيرة .
يسأل بعض المتابعين للظاهرة ما دلالة عدم تنفيذ الأحكام طالما ظلت سارية ولم يوقف تنفيذها أمر يراه البعض بالغ الخطورة ألا وهو تعطيل إحدى سلطات الدولة الحديثة والتشكيك في النظم القانونية للدولة أي تعطيل فعلي للسلطتين التشريعية والقضائية ومن ثم يمكن لبعض رجال الدين وجماعاته وذوي السلطة والنفوذ والقوة والثروة أن يعطلوا الدولة سلطاتها وأجهزتها عن العمل في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ومن ثم وقف إشاعة الأمن في العلاقات بين المواطنين وبعضهم بعضاً وفي حماية الحقوق والحريات الشخصية والعامة والأخطر الخلل في علاقة المواطن بالدولة وبين السلطات والأجهزة وبعضها بعض ... إلخ .
يقول د. جابر عصفور في دراسته "مخاطر الدولة الدينية" (13)
الدولة الدينية دولة بشرية لو أمكن قيامها تحكمها مجموعة من البشر تتحدث باسم الدين وتنوب عنه ، وتحتكر تأويله وتفسيره وإدعاء معرفته ، ومن ثم تقيم تطابقاً تخييليا بينها وبينه فتصبح هي إياه أو يصبح هو إياها على سبيل التخيل لا التحقيق أقصد إلى أن شرع الله ليس هو الذي يحكم في حالة الدولة الدينية ، وإنما مجموعة البشر التي تدعى الإنابة عنه واحتكار المعرفة به رافضة أن يشاركها غيرها في الإنابة أو الحكم أو المعرفة .
ولذلك فهي المصدر الوحيد لتفسير النصوص المقدسة للدين والناطق الأوحد لمقاصدها وقولها أو حكمها هو الحق وما عداه الباطل ما ظلت محافظة على هذا التطابق التخيلي بينها وبين نصوص الدين التي تدعي احتكار الفهم لها ، ولذلك ينبني خطابها على نوع من الوثوقية والجزم والحسم في اقترانه بأنواع الأمر والنهي والتحريم أو الإباحة التي يؤديها هذا الخطاب الذي لا يخلو من عناصر القمع الخاصة به ، خصوصاً حين يتوعد المخالفين بعذاب الدنيا والآخرة ويسن خطابهم المضاد بالبدعة المقترنة بالضلالة المفضية إلى النار ويضيف د. جابر عصفور أن الاختلاف مع خطاب هذه المجموعة يعنى الكفر والخروج على الثابت المعلوم من أمر الدين الذي تحدده هي ولا يحدده غيرها والذي تغدو إياه في علاقتها بالآخرين الذين لها عليهم حق السمع والطاعة والتصديق وعدم المساءلة ومن ثم الإذعان والاستجابة إلى كل ما يقال مهما كان هذا الذي يقال وبقدر ما تتحول العلاقة بين هذه المجموعة وغيرها إلى علاقة أعلى بأدنى قامع بمقموع آمر بمأمور ينتفي حضور حق الاختلاف الذي يغدو معصية ولا مجال للاجتهاد المغاوير الذي يغدو خطيئة ، ولا سبيل إلى المجادلة بالتي هي أحسن ما بين هذه المجموعة (الأعلى على نحو مطلق ) وغيرها ( الأدنى على نحو مطلق) فالمجادلة بالتي هي أقمع هي الأصل الملازم لاحتكار المعرفة الدينية والناتج عن التطابق التخيلي بين الدين والمجموعة التي توهم الآخرين أنها تنوب عنه أو تتحد معه كأنها اياه ولا ينفصل عن نتائج ذلك إلغاء الاجتهاد الذي يحل محله الاتباع وإحلال النقل محل العقل ، والتقليد محل الابتكار ، وسيطرة التراتب (البطريركية) بدلا من المساواة ، التعصب بدلاً من التسامح فيحل التمييز محل التكافؤ ، ونخبوية المعرفة الدينية بدلا من تعميمها الذي يؤكد حق الجميع فيها أو الوصول إليها بطرائق مغايرة فتتحول المعرفة بوجه عام إلى معرفة مضنون بها على غير القلة التي تحتكرها أو النخبة التي بيدها مفاتيح المعرفة المحرمة على غيرها ، ولا يؤدي ذلك إلى التضاد بين علم القلة بوجه عام وجهالة الكثرة فحسب بل يضيف إليه انحطاط معارف الكثرة (بإطلاقها) بالقياس إلى علو مقام معارف القلة المضنون بها على غير أهلها في كل الأحوال والنتيجة هي كثرة المحرمات المعرفية الموازية لشيوع التراتب ومنطق الاحتكار وإلغاء المغايرة ... ويستطرد الكاتب قائلاً وإذا نقلنا هذا المبدأ من المعرفة بوجه عام والدينية بوجه خاص إلى الممارسة السياسية كانت النتيجة متماثلة فإلغاء حق الاختلاف يبدأ من المعرفة وينتهي بالسياسة التي لن تعرف في حالة الدولة الدينية تعددية الأحزاب أو تنوع قوى المعارضة وحريتها بل تعرف الصوت الواحد الأحد الذي لا يطلب سوى الإجماع ويحارب التنوع والتعدد وحق الاختلاف من حيث هي نقائض لحتمية الإجماع الذي يقترن بالطاعة الواجبة (دون مساءلة) لقمة الهرم المتراتب دينياً ومعرفياً وسياسياً واجتماعياً حيث تهبط الأوامر المنزلة (كأنها الوحي ) من إمام المجموعة إلى النخبة المحيطة به بوصفها أدنى بالضرورة كي تنقلها إلى غيرها الأدنى منها وهكذا إلى سفح الهرم السياسي الاجتماعي المعرفي مستعينة على ذلك بعمليات تخييل أيديولوجي يبرر احتكار النخبة ورأسها الأعلى لكل شيء من ناحية ويشيع أفكارها ومبادئها بما يقنع بسلامتها من ناحية موازية وذلك في حجاج أيديولوجي يقسم المجتمع إلى فرق متعددة كلها في النار ما عدا فرقة واحدة ناجية مالها الجنة والسعادة في الدارين هي فرقة النخبة الحاكمة التي يخلع عليها رأسها ما تخلعه هي على غيرها من صكوك الإيمان والرضوان والبركة والغفران في أحوال الإيجاب أو صكوك الكفران أو اللعنة الأبدية في أحوال السلب فالفرق الضالة مضلة هالكة مواعدة بعذاب الدارين واستئصال أفرادها واجب وجوب استئصال الزوان من الحنطة فيما يقول متطرفو الحنابلة المتأخرون .
ويري د.جابر عصفور أن النتيجة هي شيوع العنف مقرونا بالقمع في المجتمع وتغدو الأجهزة الأيديولوجية الدينية ودعاتها في علاقتها بالمواطنين الذين يتحولون إلى رعايا ، أدوات إرسال ذات بعد واحد يتجه من الأعلى إلى الأدنى دائماً أو من المركز القامع إلى الهوامش المقموعة فارضاً السمع والطاعة والتصديق والإذعان في كل الأحوال هادفاً إلىتحقيق الإجماع الذي يتم استئصال الخارج عليه أو النظر إليه بوصفه الشاه الضالة التي خطفها الشيطان وسكنها وعندما يصل القمع إلى ذروة ممارساته يتحول إلى عدوى تحيل المقموعين إلى قامعين بدورهم أو مقتولين قتلة أعني أن المقموعين الواقع عليهم القمع يعكسونه كماتعكس المرايا ما يقع عليها وتسقطه على غيرها الذي يسقطه على غيره بدوره وذلك في دورة جهنمية لا يكف فيها القمع عن توليد القمع ويتبادل فيها المقموع والقامع الوضع والمكان خصوصاً حين يتحول المقموع إلى قامع يمارس فعل القمع على غيره الذي يمكن أن يقع تحت سطوته فيتحول المجتمع كله إلى قامعين مقموعين في زمن لا يمضي إلى الإمام بل يعود إلى الخلف وجماعة لا تتطلع إلى مستقبل واعد بل إلى ماض تخييلي تسجنها أوهامه ... ويلقي د.جابر عصفور في دراسته الضوء علي الخطر الجسيم للدولة الدينية حيث يري ان مخاطر الدولة الدينية لا تقتصر على إلغاء الحريات بكل لوازمها فحسب وإنما يمتد الخطر إلى إلغاء معنى المواطنة ، وتحويل الانتماء من الوطن إلى المعتقد ومن ثم الانتقال من روح التسامح ومبدأ المساواه الذي يمايز بين الطوائف الدينية والفئات الاجتماعية والتيارات السياسية في معنى المواطنة المقترن بحق الاختلاف وطبيعته الحتمية إلى مبدأ التعصب الذي يؤكد التمايز والانقسام الحدي وعندئذ لن يصبح الدين لله والوطن والجميع بل يصبح الوطن من حق فئة بعينها بالدرجة الأولى تغدو هي الفئة الأعلى والأرقى وغيرها الأدنى والأقل في حقوق مواطنته الأمر الذي يؤدي إلى الاحتقان في العلاقة بين أبناء الديانات المتعددة في الوطن الواحد وتحل العصبية البغيضة محل التسامح الرحب فيتحول الاحتقان إلى صراع وتنافر ومن ثم إلى فتنة طائفية لا تبقى ولا تذر .
أما تاثيرات الدولة الدينية ومخاطرها من المنظور السياسي وحده لم نجدها قرينة الاستبداد والتسلط فحسب بل قرينة عدم وجود أسلوب واضح أو محدد لوصول الحاكم إلى الحكم ولا يوجد في هذه الدولة مؤسسات متمايزة مستقلة وهو الأمر الذي يتيح المجال واسعا لاستبداد الحاكم وإلغاء الديموقراطية بلوازمها من دستور وقوانين أو وضعها في مؤخرة الاهتمام بشرط أن تكون على أساس من مرجعية دينية هي مرجعية فئوية أو طائفية في الأغلب الأعم ولن يوجد مفهوم للمواطنة بمعناه القائم على المساواه في الحقوق والواجبات ( لمزيد من الاطلاع الرجوع إلي الدراسة المنشورة تحت عنوان مخاطر الدولة الدينية – منتديات معراج القلم – شبكة الانترنت ) .
نعود إلى الوضع من خلال رؤية الاوضاع بعد وفاة الرسول (ص) وانتهاء حكم الخلفاء الراشدين مع بداية حكم الأمويين تزايد دور الخليفة وأجهزة الدولة فوق الدين وتهميشه من الجانب الروحاني لحساب الجانب الدنيوي الذي تمثل في استخدام كل الأدوات لصالح النظم الحاكمة ـ ويقول سالم المساهلي في مقالته "في تاريخ العلاقة بنية الدين والسلطة " شبكة الإعلام العربية (14)
إن أبرز الأبعاد المستخلصة من الفتنة الكبرى ـ كنموذج للمعارك السياسية ـ هي أن السياسة مسألة مفوضة لنظر العقل والاجتهاد ومن أجل ذلك برز العامل السياسي وتفوق في مواقف معاوية وعمرو بن العاص وفي أدائهما أثناء المعركة مع جيش على بن ابي طالب تلك الحرب الأهلية بين المسلمين كان لابد منها لتوضيح الخط الفاصل بين نهجين مختلفين ورؤيتين متناقضتين : توظيف الدين لخدمة السياسة أو توظيف السياسة لخدمة الدين ولاغرو ان معاوية عند مطالبته بدم عثمان ورفعه للمصاحف على أسنة الرماح ودعوته للتحكيم والتفاوض كان يوظف الدين لمصلحة خطة سياسية تقوده للانفراد بالخلافة ومنذ تلك الفترة بل وما قبلها كان الفكر الإسلامي بحاجة إلى تركيز رؤية عقلية وواقعية للممارسة السياسية باعتبارها الآله الضرورية لتنظيم المجتمع واستقراره وإنهاء حاللة الاقتتال التاريخي والخلط المنهجي بين الدين والسياسة أي بين الوحي والتاريخ وبسبب غياب هذا التنظيم المفهومي والفكري بقي الموضوع ذا حساسية وحرج وقلق دائم كل ذلك رغم ان السياسة أو الأمانة وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيء منه التكفير على حد تعبير الغزالي ، بل أنها ليست من أركان الإسلام الخمسة ولا من أركان الإحسان الستة برأي ابن تيمية ولكنها كما يرى ابن خلدون من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق .
ومما هو جدير بالذكر أن تاريخ الدولة الدينية هو تاريخ حكم الشعوب تحت وصاية الدين من خلال أوضاع (كهنة ، رؤساء /طوائف دينية / فقهاء) وإنما ما يجعلون من أنفسهم وكلاء على الناس وفي أطر محددة بعضها يمكن تجاوزه وهذه الأطر تستند إلى عقيدة شمولية أحد مصادرها الذي يساعد تفسيره وتأويله هذه العقيدة تأبى التعددية وهي في غالب الأحيان منغلقة تسهم في خلق التعصب والجمود ...
ولدينا كما سبق ونوهنا في تجربة افغانستان والصومال واليمن والسودان أمثلة حية على دور الأنظمة الحاكمة باسم الدين في شل حركة المجتمع وتصاعد وتيرة الصراعات والثورة على الأوضاع الظالمة ... هل يعقل أم يقبل المواطن العاقل برؤية بعض المنادين بالدولة الدينية بأن الإمام الظلوم الغشوم خير من فتنة تدوم ... ولا شك أن المؤيدين للدولة الدينية يرجعون ذلك إلى أن الدولة المدنية نتاج بشري لا يقدر على وضع نظام أمثل للبشرية .. هذا مردود عليه فيما ورد على لسان النبي (ص) بأن المسلمين أدرى بشئون دنياهم .. أعود للتأكيد على أن الدين سيظل باقيا ما بقي الإنسان مصدر وأساس التسامي الروحي والأخلاقي وهو لا يحارب المعرفة والتعدية فالدين عندما شرعه الله انما هو لخدمة البشرية وتحريرها من نظم الوصاية والقمع ... وعندما يستعيد دوره الطليعي في المجتمع لتعزيز المطالب المشروعة للناس والوقوف في وجه البؤس والفاقة والبطالة ويعبىء الطاقات ضد استغلال الاحتكار يكون وسيلة لإعلاء قيم السلام الاجتماعي والإنساني فإنما يؤكد على أن الخيار الأمثل دولة مدنية .. تسودها قيم الدين .. لا دولة دينية تستخدم الدين في توظيف طموحات الحكام وأتباعهم من رجال المؤسسة الدينية التي جاءت وريث في ظل الجمود التعاقدي ومن خلال مناخ استبدادي يحكم في ظله الطغاه باسم الدين.
هوامش
1.أحمد بن سيف الدين تركستاني ـ تعريف الدين ـ شبكة الانترنت .
2.ويكيبديا ـ الموسوعة الحرة ـ دين . شبكة الإنترنت .
3.مجلة العلوم الاجتماعية الكويتية مفهوم الدين ونظريته وأنواعه .
4.جاك توشار وآخرون تاريخ الفكر السياسي .
5.زهير الخويلدي ـ العامل الديني عند ماركس ـواقع الانعكاس ونقد الاغتراب ـ العرب أون لاين – شبكة الانترنت .
6.وصال العرب ـ أوراق الفكر والفلسفية ـ فيورباخ والدين .
7. د. إمام عبد الفتاح ـ الطاغية دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي / عالم المعرفة .
8.هاشم الإمام محيى الدين ـ حول كتاب الدكتور موسى الباشا "الدولة الدينية الإسلامية في النظرية والتطبيق .
9. د. يوسف القرضاوي .. الدولة المدنية والدولة الدينية .. تجديد مفاهيم .. موقع القرضاوي .
10.هاشم الإمام محيى الدين .. مصدر سبق ذكره .
11.المصدر السابق .
12.نبيل عبد الفتاح ـ الدولة والنظام ما وراء حالة التضاغط السياسي في مصر الآن الأهرام 17/6/2010 .
13.د.جابر عصفور ـ مخاطر الدولة الدينية – منتديات معراج القلم .
14.سالم المساهلي ( في تاريخية العلاقة بين الدين والسلطة ) شبكة الإعلام العربية .
----------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با


.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط




.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-