الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعلام الديني وخطيئة احتكار الدين

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2010 / 7 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تظن الغالبية العظمى من الناس أن الإعلام الديني قاصر وحسب على القنوات الدينية الفضائية المتخصصة التي تقدم المادة الدينية في كل برامجها، وأن البرنامج الديني هو البرنامج الذي يقوم بتقديمه شيخ من شيوخ المؤسسات الدينية الرسمية، كالأزهر ووزارة الأوقاف، أو متخصص في علوم الدين من خارج المؤسسات الدينية الرسمية. إلا إنني أرى أن الإعلام الديني لا يقتصر وحسب على القنوات التلفزيونية ذات الصبغة الدينية ولا البرامج الدينية في القنوات غير الدينية كالقنوات الرسمية والخاصة (المستقلة)، سواء كانت قنوات منوعات أو أخبار أو اقتصاد أو غيرها، فالإعلام الديني هو: كل وسيلة إعلامية مرئية أو مسموعة أو مقروءة تحوي مادتها الكاملة أو بعضها على الدين، وكذلك كل برنامج أو مقال مرئي أو مسموع أو مقروء سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو فكري أو ترفيهي يحوي في بعض مادته أي إشارة بالإرشاد والتوجيه إلى أي فكرة أو عقيدة أو حكم أو شريعة أو نسك ديني، حتى ولو في جملة واحدة سواء بالنقد أو التأييد أو الاعتراض أو التحليل أو المناقشة فهو إعلام ديني.

وكذلك الإعلام الديني ليس قاصرا في تقديمه على المتخصصين دينيا كشيوخ المؤسسات الدينية الرسمية، إنما يشمل كل شخص يقوم بتقديم مادة إعلامية دينية مرئية أو مسموعة أو مقروءة، حتى ولو كان من خارج المؤسسات الدينية الرسمية، فالدين تحديدا يمتاز عن غيره من الموضوعات باهتمام بالغ من جميع أفراد المجتمعات البشرية، لما له من هيبة وقدسية في قلوب الناس، كل الناس، وكذلك لأن الدين هو المصدر الوحيد الذي يجد فيه الإنسان الإجابة على كثير من التساؤلات القديمة الجديدة، التي لم يتصدى للجواب عنها حتى الآن سواه وحده، كالعلاقة بين الإنسان وبين هذا الكون الذي يعيش فيه حينا من الدهر ثم يتركه إلى عالم الغيب والمجهول.

فوجود الإنسان في هذه الحياة ومجيئه إليها وخروجه منها يثير لديه العديد من التساؤلات المزمنة والملحة حول ما الغاية من وجوده في هذه الدنيا؟؟، وما كيفية مجيئه إليها؟؟، ومن أتى به؟؟، ولماذا أتى؟؟ وماذا بعد الموت؟؟، كل هذه الأسئلة المزمنة والملحة تخالج كل نفس بشرية واعية مدركة على مدار التاريخ الإنساني كله، وإن كان بعضنا لا يبوح بهذا، فكان الدين هو المجيب الأول والوحيد عليها حتى هذه اللحظة، فكل الأديان سواء ما تسمى بالوضعية أو ما تسمى بالسماوية، حملت بين طيات نصوصها إجابات شبه موحدة على هذه الأسئلة، مهما اختلفت تصورات هذه الديانات أو تلك للحقيقة الإلهية، إلا أن جميعها اجتمعت على إجابة واحدة، تلخصت تلك الإجابة في أن هناك قوة قاهرة هي التي أوجدت هذا الكون وأوجدتنا فيه لاختبارنا، وأننا مهما عملنا من خير أو شر سنجازى عليه بعد الموت في الدار الآخرة.

لقد شغل الدين البشرية وانشغلت به طوال تاريخها الطويل، ولا تزال تنشغل به حتى هذه اللحظة, بل ظل يشغل حتى المناوئين له، فمناوئة الدين ونبذه والتحريض عليه من أكبر البراهين على مدى أثر المعتقدات الدينية وثورتها في نفوس هؤلاء المناوئين للدين. وأرى أن هؤلاء لا يعانون سوى أرقا مضنيا واضطرابا مقلقا في فهم المعتقدات الدينية بشكل صحيح مما يشعل بداخلهم توترا نفسيا صارخا أو حيرة حارة تأخذ شكل الثورة على الدين والعداء له. بل إنني أرى أن هؤلاء من أكثر الناس إيمانا وولعا بالدين وانشغالا به لولا الفهم الديني الخاطئ المضطرب المتناقض المشوه لحقيقة الدين الذي رسخه مرتزقة الأديان من رجال الدين الحمقى غير الأمناء في نفوس الناس منذ نعومة أظفارهم.

فقد لازم الدين كل المجتمعات البشرية منذ وجود الإنسان على ظهر هذا الكوكب, وسيظل يلازمها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فما من جماعة بشرية وجدت في التاريخ إلا وكان لها دين ما من الأديان، له صورة ما من الصور، رغم اختلاف الجماعات البشرية في ألسنتها وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية ونظمها السياسية والاقتصادية وتباعد مواقعها الجغرافية، وسيظل الدين يحتل مكانة مركزية ومحورية بين كل الجماعات البشرية إلى النفس الأخير لآخر أدمي يغادر هذه الدنيا. فهل بعد إدراك هذه الأهمية الكبرى للدين ومكانته ومركزيته في حياة الناس أفرادا وجماعات هل يمكن قصر وحصر القيام به والقيام عليه على فئة بعينها أو شخص بعينه من دون الناس جميعا؟؟

أقول: نظرا لأهمية الدين عند بني الإنسان سواء كانوا أفرادا أو جماعات، أصبح من العسير بل ومن الخطير في الوقت ذاته قصر وحصر القيام بالدين والقيام على الدين على طائفة بعينها، أو شخص بعينه، لما ينطوي عليه ذلك الاحتكار من أخطاء وخطايا بل وجرائم ليس في حق الدين وحسب، بل وفي حق الجماهير كذلك، حيث يقوم الإعلام الديني اليوم بكل أشكاله ومرجعياته الفكرية، حتى التابع منه للمؤسسات الرسمية كالأزهر والكنيسة عن طريق التكرار والإلحاح على مسامع الناس أن فهم الدين قاصر وحسب على طائفة أو فئة بعينها من دون الناس جميعا، فقاموا بإطلاق الألقاب ذات القداسة والصبغة الدينية الاحتكارية على بعض الأشخاص ليرسخوا في نفوس الناس مشروعية ودينية احتكار الدين واحتكار فهمه والتحدث باسمه وفرض الوصاية الفكرية والدينية عليهم من خلال تلك الألقاب، وهي: (أسقف، شيخ، عالم، فقيه، راهب، مفتي، إمام، بابا، كاهن، داعية، مرجع، آية الله، حجة الله)، مما رسخ في وعي الناس وثبت في قناعاتهم أن من لم يحظ بموافقة ومباركة نيل أي من هذه الألقاب من قبل هذه الفئة فليس له الحق في فهم الدين أو التحدث فيه أو عنه.

وكفى بهذه الخطيئة من جرم في حق الناس، إذ في احتكار الدين واحتكار فهمه والتحدث فيه وعنه هو عملية سلب مقصودة لحق الجماهير في التفكير في أهم وأقدس وأخطر خصوصية تهم إنسانيتهم في حياتهم وبعد مماتهم وهي خصوصية الدين، بل والأشنع هو إخراج الجماهير من الخطاب الإلهي الذي خاطب به الناس جميعا، وكأن الله لم يخاطب بدينه ورسالاته سوى فئة بعينها من الناس، أما بقية الجماهير فما هم إلا قطعان من الغنم يسوقهم الرعاة، وكذلك حرمانهم من أقدس حقوقهم الدينية والإنسانية على الإطلاق، وهي المسئولية الفردية للشخص المؤمن عن معتقداته وأفعاله وسلوكياته واختياراته وطريقة عيشه أيا كان دينه، وأنه هو وحده دون غيره المسئول بمفرده عن كل قناعاته الإيمانية وكل سلوكياته الدينية والدنيوية، وأنه هو وحده وبمفرده من سيقع عليه تبعة قناعاته تلك وكذلك تبعة سلوكياته الدينية والدنيوية أمام الله يوم يقوم الناس لرب العالمين. فكيف يمارس الإنسان هذا الحق الفردي وهذا التكليف الذاتي وكيف يستشعر هذه المسئولية الفردية وقد حرمته منها فئة بعينها قامت باحتكار وسلب واغتصاب أقدس وأخص حقوقه بل وإعفائه منها. وتحويله إلى شاة يقودها راع ينعق بها لتسير حيث يريد هو منها لا حيث تريد هي أن تسير.

ويمكن القول إن الاحتكار الديني هو الأب الروحي والشرعي الذي فرخ كل ألوان الاحتكارات الأخرى، فالاحتكار الديني الذي عشش وفرخ في رؤوس الناس منذ طفولتهم تسبب في ميلاد احتكارات أخرى لا تقل بشاعة عن الاحتكار الديني، فالاحتكار الديني قد أدى إلى احتكار فئات بعينها لجميع مناحي وشئون الحياة الأخرى، وهو ما نعاني منه جميعا الآن، فما احتكار الحقيقة السياسية والحقيقة الاقتصادية والحقيقة الفكرية والحقيقة الإعلامية وحق التفرد بالسلطة والوظيفة والمنصب وحق التفرد بالصلاحية القيادية إلا إفراز للاحتكار الديني، فنحن شئنا أم أبينا مجتمعات تعتاش وتقتات على الدين، والدين هو إكسير حياتنا، سواء كان دينا حقيقيا أم توليفة عطار، والغالب الأعم أن من نراهم اليوم في الإعلام الديني لأي دين ليسوا بدعاة دين ولا رجال دين بل هم مجموعة عطارين يرتزقون من آلام الناس وأوجاعهم وجهالاتهم وحماقاتهم.

فثقافة الاحتكار الديني التي يبثها القائمون على الإعلام الديني اليوم بكافة توجهاتهم الفكرية والدينية على مسامع الناس ليل نهار وأنهم هم وحدهم ملاك الحقيقة الدينية وهم وحدهم ملاك الفهم الحق للدين من دون الناس جميعا قد أدى وبشكل واقعي وحقيقي أليم إلى فقدان الجماهير الثقة في ذواتهم وفي عقولهم وفي أفكارهم وفي دينهم بل وفي ربهم و في إمكانية تحملهم للمسئولية الفردية عن أي شيء، بل كادوا أن يصلوا إلى فقدانهم الثقة في صلاحيتهم للحياة، مما جعل من يحتكرون حقائق الأشياء لا يجدون كثير عناء في استغفال الجماهير واستحمارهم وامتطاء ظهورهم، مع أن عظمة الدين أي دين وخاصة الدين الإسلامي وقمة عدالته وواقعيته أن نوه وأكد في عشرات المواضع من القرآن الكريم على أهمية مسئولية الفرد وحده ليس فقط عن أعماله وسلوكياته واختياراته بل حتى عن فهمه وفكره ومعتقداته وأكد هذه الحقيقة في عدد من المواضع قائلا: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (38- المدثر). (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ). (26- الفجر). (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا). (164- الأنعام). (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا). (111- النحل). (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً). (48- البقرة). (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). (34: 37- عبس).
فخطيئة الاحتكار الديني للدين وقصر فهمه والتحدث باسمه على فئة بعينها أو أشخاص بعينهم يجعل هذه النصوص هي والعبث سواء.


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر_ أسيوط
موبايل/ 0164355385_ 002
إيميل: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نفسية رجل الدين
Amir Baky ( 2010 / 7 / 4 - 19:25 )
يشعر رجل الدين الذى يجد التبجيل من المحيطين أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وبصراحة هو لا يخادع نفسة فشعوره أنه حامى الإيمان يجعله يتصرف بإستعلاء على الآخرين حيث يشعر بالتميز فى هذه النقطة. فالموضوع تحول إلى حق الله و ليس حقه الشخصى. ولن يساورة لحظة شك أن رأيه يمكن أن يكون خطأ أو به نسبة من الخطأ هذا الشعور لا ينتاب رجال الدين نهائيا ومن هنا تكمن الكارثة. لقد أصبحوا فوق مستوى البشر .لذلك تجد الخلاف فى وجهة النظر الدينية بين رجال الدين تصبح معركة كبيرة يجب أن يكون بها منتصر و الطرف الآخر كافر


2 - نظام حقد ليس الا
مصطفى ( 2010 / 7 / 4 - 19:42 )

يبدو ان هذا التدوين بسبب الغيرة والحسد وانفضاض الناس من حولكم واقبالهم على السادة المشايخ

اخر الافلام

.. انقطاع الكهرباء في مصر: -الكنائس والمساجد والمقاهي- ملاذ لطل


.. أزمة تجنيد المتدينين اليهود تتصدر العناوين الرئيسية في وسائل




.. 134-An-Nisa


.. المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم اليهود المتدينين بأداء الخدم




.. عبد الباسط حمودة: ثورة 30 يونيو هدية من الله للخلاص من كابوس