الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة افتراق الأمة بين التاريخ والسياسة (2-2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2010 / 7 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من الناحية التاريخية لم يكن عدد الفرق المتراوحة ما بين السبعين والثلاث والسبعين سوى الحصيلة المجردة لكمية الصراعات والفرق المنشقة في الأمة الإسلامية. وهو واقع أدركه علم الملل والنحل، على الأقل في محاولاته كشف الأسباب القائمة وراء الفرقة وبواعث الاختلافات والانقسام. ومن الممكن أن نتخذ من مقتل عثمان بن عفان (ت ـ 35) بداية أولية لتثوير نوعية الانقسام الفكري في تاريخ الخلافة. وذلك بفعل تأثيرها الاجتماعي ـ السياسي الخاص بهذا الصدد. فقد أعطى مقتله للانقسام السياسي شرعيته اللاحقة، التي حصلت على صيغتها الفعالة في فكرة "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ولم تعن هذه الفكرة من حيث مضمونها العلمي والعملي، سوى تبرير وتقديس الانشقاق الدائم باسم المبدأ المطلق، الذي كان يتطابق في بعض جوانبه مع فكرة الفرقة الناجية. وهو مبدأ عمم انقسامات الأمة، لكنه شأن كل مبدأ كبير أثار نقيضه القائل بضرورة "طاعة الإمام كان ما كان فاضلا أم فاجرا".
وأدى ذلك بمجمله إلى تحفيز فعالية البحث عن شمولية أوسع في ميادين البحث المختلفة. بحيث شق لنفسه الطريق في الفقه والكلام والحديث والتفسير والفلسفة والتصوف، أي في الميادين ذات الصلة بعوالم التجريد المتعمق في مجرى الممارسة الاجتماعية. وهو الأمر الذي تكشف عنه ظاهرة تباين واختلاف صيغ الحديث. ففي الوقت الذي شدد الحديث على ظاهرة الانقسام الفعلية في الأمة الإسلامية، فإنه تضمن أيضا رؤية مثيلها في الماضي. وليس اعتباطا أن تدخل اليهودية والنصرانية أولا والمجوسية لاحقا في أفق الرؤية التاريخية والتقييمية لانقسامات الأمة الإسلامية، أي أنه تضمن درجات المقارنة والإدانة الأولية. وفي مجرى هذه العملية أخذت تتبلور عناصر البديل الأيديولوجي ـ الفكري.
فقد مرت هذه العملية بمرحلة طويلة من الصراع السياسي استمرت ما يقارب المائة سنة، وتتوجت بسقوط الخلافة الأموية وظهور العباسية كاستمرار "شرعي" ونفي ضروري لها. فقد عمقت الخلافة الأموية الصراع الفكري على أسس سياسية، بينما عمقت الخلافة العباسية الصراع السياسي على أسس فكرية. ولم تكن هذه المعادلة مجرد انقلاب للموازين والمعايير في وعي وممارسة القوى الاجتماعية والفكرية من جانب السلطة والمعارضة، بقدر ما أنها عكست طبيعة الوحدة المتناقضة في التطور الحضاري نفسه. وذلك لان مقاييس الوعي السياسي هي منظوميته الفكرية. ولا تظهر هذه المنظومية في البداية إلا على شكل رد فعل مباشر، وذلك لعدم تكامل الدولة في قوة مغتربة فوق الجميع ومع الجميع، بالضد منهم ومعهم. لاسيما وان هذه الجوانب المتناقضة في صيرورة الدولة ومؤسساتها بوصفها عملية طبيعية هي التي تفرز في وعي القوى المتصارعة ضرورة البرهنة عليها. إذ لم تكن الدولة الأموية بهذا المعنى سوى المقدمة التاريخية في حركتها الأولى. وفي هذا يكمن خصوصية إفرازها لوعيها الذاتي. فهي لم تبدع أسلوب الدفاع عن نفسها في ميدان الشعر والأدب فحسب، بل وفي قوة القمع السياسي وتحريضية الفكرة الجبرية. لهذا كان من الصعب ظهور فكرة انقسام الأمة إلى نيف وسبعين فرقة. لأنه كان يستلزم على الأقل ظهور كمية كبيرة واضحة للعيان وجلية، بحيث يصبح الإقرار والاعتراف برقم محدد أمرا مقبولا لا يثير الشك والجدل.
مما لا شك فيه أن المرحلة الأموية أفرزت من حيث تشعب الفرق أكثر من هذا العدد، وأقل منه من حيث استتبابها التنظيمي والفكري. كما عمقت المرحلة الأموية الطابع العقائدي للصراع المذهبي دون أن توفر له إمكانية التكامل. ولم يكن ذلك مربوطا فقط بالصراع السياسي الداخلي فقط، بل وبسرعة الانتصارات العسكرية التي أسكرت العاطفة وأبعدت العقل عن تأمل ما يجري ووحدته. فقد كانت النظرة السائدة للتاريخ آنذاك تقوم في تأييد ما يجري فيه على انه برهان لا يمكن دحضه على قوة الإسلام ووحدته.
وحال هذا الواقع دون حصول فكرة انقسام الأمة على استقلالها الذاتي. لهذا السبب لم تطفو آنذاك إلى السطح مثالية السلف الاجتماعية ولا قوتهم المعرفية. أي لم يجر بعد "تقنين" موقعهم المتميز في الذاكرة التاريخية، وقيمتهم المعرفية بوصفهم حاملي اليقين الأخلاقي. فقد اشترك في غمار المعارك من كان بالأمس سلفا. لهذا اصبح ممكنا قتل الصحابة والتابعين كمناهضين معاصرين، أو خارجين مارقين أو فاسقين كفار، كما هو الحال في كل مراحل الصراع السياسي في التاريخ. كما كان من الصعب بالنسبة للسلطة الأموية أن ترفع شعار السنة والجماعة، لأنها لم تكن بحاجة إليهما. ولكنها ساهمت في تركيز الاحتجاج الفكري من خلال إفرازه سياسيا.
أما الدولة العباسية فقد عمقت الاحتجاج الفكري على أساس تهميشه السياسي. وذلك لأنها استطاعت أن تصنع وحدة سياسية ـ اقتصادية جديدة وقوية أعطت للفكر إمكانية التعبير عن الاختلاف والحوار والتضاد. مما أدى بدوره إلى ظهور فكرة الجماعة ضمن الافتراق والسنة المستقيمة ضمن الانحراف، كما نعثر على تعبيره الخاص في الحديث الثالث والرابع.
فمن بين المؤرخين المسلمين الأوائل للفرق وأفكارها، الذين أشاروا إلى الطابع الأيديولوجي لفكرة الجماعة والسنة هو الحسن بن موسى النوبختي (ت ـ حوالي 320). فبعد أن استعرض آراء فرق عديدة من غير الشيعة، أكد على أن كل هذه الصنوف "من أهل الأرجاء والخوارج وغيرهم مختلفون بينهم، ويؤثمون بعضهم بعضا في الإمامة والأحكام والفتوى والتوحيد وجميع فنون الدين. ينكر بعضهم من بعض ويكفر بعضهم بعضا. أكثر ما عندهم أن سموا أنفسهم على اختلاف مذاهبهم الجماعة، يعنون بذلك أنهم مجتمعون على ولاية من وليهم من الولاة برا كان أو فاجرا. فتسموا بالجماعة على غير معنى الاجتماع على دين، بل صحيح معناهم معنى الافتراق" . ولو تأملنا كتابات القرنين الثاني ـ الثالث، التي أرخت بهذا القدر أو ذاك للاختلاف في الأمة، فإننا سنلاحظ غياب فكرة الانقسام وحتميته، دع عنك مسألة تحديد الفرق وعددها. فابن هشام (ت ـ 213) في خاتمة (السيرة النبوية) يفرد مقطعا صغيرا بعنوان (افتتان المسلين بعد موت النبي محمد)، لا نعثر فيه إلا على ترديد لكلمات عائشة القائلة، بأنه لما توفي النبي ارتد العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية . ذلك يعني إننا نعثر هنا على العناصر الأولية التي سوف يجري صياغتها ودمجها في فكرة الحديث الآنف الذكر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكلمات المنسوبة إلى عائشة، إنما تعكس ما جرى تاريخيا، حتى في حالة افتراض الدافع "السني" لتبرير خلافة أبي بكر. من هنا، فان حديث انقسام الفرق، لم يستند بالضرورة إلى العناصر الواردة في الكلمات المنسوبة لعائشة، بقدر ما أنهما كليهما يعكسان ويعبران عن عملية طويلة من إعادة النظر في التاريخ المنصرم في مجرى صراع القوى المتحاربة. فقد جرى في هذا الصراع إعادة النظر بالتاريخ السالف والبحث فيه عن عناصر التأييد "الروحية" للقوى المتحاربة. إذ عادة ما يستثير الصراع في المراحل التاريخية المتأزمة فكرة الرجوع للماضي. ومع أن الرجوع للماضي ليس نتاجا لعمق الذاكرة التاريخية، إلا انه يتمثل أسلوب العلاقة الخفية بين الثابت والمتحول، الحاضر والماضي، المطلق والنسبي في الوجود الاجتماعي والوعي. وتعطي مراحل الأزمات لهذا الرجوع أبعادا ومظاهرا إيديولوجية. إلا أن ذلك لا يعني تطابق العلم والأيديولوجية والسياسة في تعبيرهم عن المعارك في هذه المراحل. وذلك لاختلافاتها الفعلية. فإذا كان للسياسة والأيديولوجية مبرراتهما وأسلوبهما وأهدافهما الخاصة في الرجوع، لأنه مادة ووسيلة الصراع العملي، فان مادة ووسيلة العلم تضمحلان في استمرار الإبداع الفكري. غير أن ذلك لا يعني تضادهما التام، بقدر ما يشير إلى واقع الخلاف، وفي نفس الوقت إلى إمكانية التأثير المتبادل بينهما.
إن التباين الداخلي لهذه العملية المعقدة مرتبط بتباين القوى الاجتماعية وتقاليدها الفكرية والأهداف الآنية والبعيدة المدى لمقالاتها. وهو أمر لا يعيق إمكانية انطلاق الفرق المختلفة جميعها من مقدمة فكرية واحدة، ولتكن مختلقة وموضوعة، مازالت تتضمن على إمكانية التأويل المتحزب (الأيديولوجي). ولعل حديث انقسام الأمة والفرقة الناجية، هو من بين أكثرها نموذجية بهذا الصد.
فقد جعل دخوله ميدان الأيديولوجية قوة سياسية كامنة تحولت لاحقا إلى قوة سياسية فعالة بعد أن أخذت تتعمق فيه عناصر الكلام اللاهوتية، التي شكلت آنذاك عناصر واقعية في ثقافة المرحلة. بحيث نعثر عليه بما في ذلك في تصورات المعتزلة وموقفها من الحديث. إذ لم تمنع النزعة الجبرية في الحديث مؤرخيها ومتكلميها الكبار مثل القاضي عبد الجبار (ت ـ 415) وابن المرتضى (ت ـ 840) من الإقرار بالحديث واستعماله "المنهجي" أحيانا.
وهو واقع يكشف عن توسع عملية انتقال الدين إلى الوعي الإيديولوجي ومنه إلى الوعي السياسي، الذي يجعل منه بالضرورة قوة سياسية. وتحولت هذه القوة السياسية في مجرى تطورها إلى مقدمة نظرية وبديهية فكرية. ولم يكن ذلك معزولا عن كيفية توظيف هذا المؤرخ أو ذاك من أئمة علم الملل والنحل المسلمين لها في منظومته التصنيفية والتقييمية. كما كشفت هذه الظاهرة أيضا عن تمايز وتطور الحديث من جهة، واستعماله من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى، نتعامل مع ظاهرة فكرية ـ سياسية تتضمن عناصر التقييم الأولية، وفي الحالة الثانية نتعامل مع منظومة تقييمية تتضمن عناصر الفكر الاجتماعي ـ الفلسفي واللاهوتي والسياسي.
فقد أخذت الفعالية النظرية للحديث تبرز بعد أن استحوذ على قيمة فكرية مستقلة. وظهر ذلك للمرة الأولى في استعماله الدائم كلما جرى التعامل مع واقع الانقسامات الفعلية في المدارس والاتجاهات الإسلامية. وحوله هذا الاستعمال في ميدان الاتهام السياسي والفكري إلى بديهية سياسية ـ فكرية تحولت لاحقا إلى عقيدة طافية فوق جدل الفرق، بل وأصبحت حقيقة معترف بها، مع انه لا إجماع حولها. إلا أن ذلك لم يعق استعمال هذا الحديث، كما هو الحال عند ابن حزم (ت ـ 456 )، الذي لم يعترف بصحته. ذلك يعني أن فعاليته ظلت قائمة في تحديد وتصنيف الفرق على أساس ما أسماه بالقرب والبعد عن السنة.
طبعا لم يكن هذا الاستعمال معزولا عن التأثير الخفي لتقليدية الوعي وتقاليد السياسة. وهو تأثير ارتبط أيضا بما للقرآن والسنة من طابع مصدري في الوعي الاجتماعي لثقافة الخلافة وصراعاتها الفكرية السياسية. بعبارة أخرى، أن تفحص المادة في جوانبها ومستوياتها العديدة يوصلنا إلى إدراك طبيعة الصراعات الفكرية السياسية والمذهبية، التي بلغت ذروتها في وحدة العناصر اللاهوتية والمذهبية والسياسية. وفي هذه الوحدة كانت تكمن القوة الفكرية والسياسية والتاريخية للحديث وعناصر الثبات فيه. وتضمن ذلك بحد ذاته على تناقضات فعالة بالنسبة لتثوير الوعي الاجتماعي والسياسي، وتعميق عناصر التقييم في علم الملل والنحل، ولكنه كبح في الوقت نفسه من جماحه العقلي بسبب تقنينه للحدود الصارمة.
*** *** ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يسعى لتخطي صعوبات حملته الانتخابية بعد أدائه -الكارثي-


.. أوربان يجري محادثات مع بوتين بموسكو ندد بها واحتج عليها الات




.. القناةُ الثانيةَ عشْرةَ الإسرائيلية: أحد ضباط الوحدة 8200 أر


.. تعديلات حماس لتحريك المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي عبر الوسط




.. عبارات على جدران مركز ثقافي بريطاني في تونس تندد بالحرب الإس