الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبثية الإعلام الديني وغياب المنهج وتعدد المرجعيات

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2010 / 7 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حتى لا يذهب ظن الناس بي مذاهب فلي توضيح بسيط ألا وهو أني لست علمانيا ولا يساريا ولا قرآنيا ولا سلفيا ولا إخوانيا ولست من منكري السنة ولا أنتمي سوى للتفكير العلمي المجرد والمحايد الذي يقوم على المنهج العلمي في التفكير وإعادة قراء الدين بعقائده وتشريعاته وأحكامه وتراثه ونصوصه قراءة جديدة تتفق مع التفكير العلمي السليم، فأنا لست ضد الدين كما فهم كثير من الناس من كتاباتي، بل إنني لا أرى صلاحا للبلاد والعباد إلا بالدين، لكن ليس أي دين، إنما الدين الذي يعتمد في فهمه ومبادئه وغاياته على احترام آدمية الإنسان وتلبية احتياجاته أيا كان هذا الإنسان وأيا كان دينه أو معتقده أو فكره ويجعل منه المرجعية الوحيدة لفهم أحكام الدين وتشريعاته وعقائده.

وبالعودة لموضوع مقالنا أقول: نحن نعيش اليوم بسبب الإعلام الديني فوضى وعبثية فكرية دينية لم يسبق لها مثيل على الإطلاق، والجدير بالذكر أن هذه الفوضى وتلك العبثية ليست فكرية دينية وحسب بل فوضى وعبثية فكرية في كل شيء، والعامل المشترك الأكبر في هذه الفوضى والعبثية في كل شيء هو الجذور الدينية لكل أفكارنا غير الدينية، فقد سبق لي وأن قلت أننا شعوب تعتاش وتقتات على الدين في كل شئون حياتنا سواء كان فهمنا للدين فهما صحيحا أو سقيما، فمعتقداتنا وقناعاتنا الدينية تنعكس بشكل واضح لا غموض فيه على جميع أفكارنا الأخرى سواء كانت أفكارنا الأخرى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية أو عملية أو غيرها من الأفكار، وبما أن جذور أفكارنا الدينية الأم هي مجموعة من التناقضات والاضطرابات والخيالات والأهواء والاختلافات والاستقطابات الفكرية الدينية، فلابد وحتما أن تنعكس وتنضح في كافة أفكارنا وأفعالنا وسلوكياتنا الأخرى غير الدينية.

ويعود السبب الحقيقي في انتشار تلك الفوضى أو العبثية التي يمثلها الإعلام الديني الآن بكل تياراته وألوانه إلى غياب المنهج العلمي في التفكير الديني وفهم النص الديني والوقوف على المقاصد الحقيقية له، والمنهج العلمي هو مجموعة من الخطوات والضوابط والقواعد المنظمة فكريا وموضوعيا ويكون متفقا على سلامتها وكفاءتها لتحصيل المعرفة العلمية الحقيقية أو بعض منها، ولكن ما هو مشاهد الآن في الإعلام الديني بعيد كل البعد عن المنهجية العلمية في فهم وتناول النص الديني، وذلك يرجع لأننا تعودنا على قبول الموروث الفكري للدين دون تمحيص أو مراجعة أو مساءلة أو مناقشة أو تحليل، وكان المانع من كل ذلك هو صبغة القداسة والعصمة التي تم إضفاؤها على ذلك الموروث الفكري الديني وادعاء أن من سبقونا كانوا أكثر فهما ووعيا منا في معرفة مقاصد الدين والشريعة والأحكام وكانوا أكثر تقوى وإيمانا منا لقربهم من العهد النبوي، إلا أن شواهد التاريخ وحوادثه تكذب هذا الادعاء الباطل، لأن من سبقونا كانت لهم أخطاؤهم وخطاياهم بل وجرائمهم الفكرية والسلوكية ومن أراد أن يتثبت من الأمر فليعد إلى كتب التراث.

وكذلك من أهم أسباب غياب المنهج العلمي في فهم الدين ونصوصه هو الانغلاق على تيارات فكرية بعينها، حيث يظل ممنوعا ومحظورا على أتباعها مجرد الاقتراب من التفكير العلمي أو استخدام المنهج العلمي لمناقشة تلك الأفكار ومراجعتها وطرح الأسئلة عليها، لأن في استخدام التفكير أو المنهج العلمي الصحيح سوف تنهار كل تلك الأفكار من قواعدها وكأن زلزالا عنيفا ضربها فسواها بالأرض، فالغرض الحقيقي من هذا الانغلاق الفكري على تيار بعينه يعود بكل وضوح للطائفية الدينية والقبلية الدينية والعنصرية الدينية وكذلك للأهواء الشخصية والمصالح الفئوية والمكاسب المادية والتطلع للشهرة أو لنيل مكاسب سياسية سلطوية، ولا أعفي من هؤلاء من يسمون بالدعاة الجدد كعمر خالد ومصطفى حسني وخالد الجندي ومحمد هداية ومعتز مسعود وغيرهم وكل من يتكلم في الدين من الشباب الجدد عبر شاشات الفضائيات، وينضم إلى كل هؤلاء وفي مقدمتهم الأستاذ جمال البنا، لأن معظم ما يقدمه هؤلاء للناس في برامجهم هو عبارة سيرك ديني أو تهريج ديني لا يمت لحقيقة الدين بصلة، أو عبارة عن مجموعة أفكار من هنا وهنا منتقاة من بعض الروايات والمأثورات الدينية ومقتطفات من آيات القرآن الكريم لإثارة عواطف البسطاء والعوام واستدرار مشاعرهم نحو الدين، وهذه الأفكار تفسد أكثر مما تصلح وتفرق أكثر مما تجمع، بل عملت على تمييع الدين وتسطيحه وتحويله إلى دروشة أو إلى ما يشبه حواديت ما قبل النوم التي تحكى للأطفال. فغياب التفكير العلمي أو المنهج العلمي عن كل ما يقدم في الإعلام الديني الآن يجعل ما يقدمونه للناس الآن في كل البرامج الدينية من دون استثناء أشبه بالوجبات السامة التي سممت معتقدات الناس وأفكارهم وسلوكياتهم وأفسدت عليهم دينهم ودنياهم، والواقع خير شاهد.

كذلك لا يمكن للمتابع للإعلام الديني أن يقف على مرجعية واحدة وحيدة تجمع شتات ما يتم بثه الآن في الإعلام الديني بكل أشكاله وألوانه، فلكل قناة مرجعيتها الفكرية الخاصة بها، بل لكل مجموعة أشخاص مرجعيتهم الفكرية الخاصة بهم، بل يكاد يكون لكل داعية مرجعيته الخاصة به، أما الأغرب والأعجب أن من الدعاة الدينيين في الإعلام الديني ليس لديه أية مرجعية يمكن إرجاعه إليها، هذا الصنف من الدعاة عديم المرجعية نراهم يتحدثون في قضايا وأمور الدين هكذا بالبركة (وزي ما ترسي معاهم)، من أمثال هؤلاء (عمرو خالد، مصطفى حسني، خالد الجندي، محمد هداية، معتز مسعود، وغيرهم ممن يطلق عليهم الدعاة الجدد)، فهؤلاء لا منهج علمي لديهم ولا مرجعية فكرية علمية حقيقية ظاهرة واضحة صريحة يمكن أن تنسبهم إليها، سوى قولهم: نحن نمثل الإسلام الوسطي، أو وسطية الإسلام، أو الإسلام المستنير، هذه الشعارات كما لا يخفى على أحد هي شعارات فضفاضة لا تركن إلى شيء حقيقي يمكن الرجوع إليه، فهي شعارات أشبه ما تكون بجراب الحاوي الذي يخرج منه الحاوي ما يشاء متى شاء لمن يشاء، ويمنع منه ما يشاء متى شاء عمن يشاء، فهل يستطيع واحد من هؤلاء أن يبين لنا ما هي المرجعية أو المنهجية العلمية الفكرية لشعار وسطية الإسلام أو شعار الإسلام المستنير؟؟، أؤكد أن واحدا من هؤلاء ليس لديه جوابا على هذا السؤال، بل ربما لم يسمع من قبل عن المنهج العلمي في التفكير.

ومن المعلوم أن الإعلام الديني يجمع تيارات دينية أخرى، ولكل تيار ديني مجموعة من الأشخاص تمثله، فمنهم من يمثل التيار السلفي الذي تتمثل مرجعيته في التمسك بالكتاب والسنة الصحيحة (وفق شروطهم هم للصحة) أي يأخذون من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يصح لديهم وفق ما يشترطونه أو وفق ما يرونه هم من شروط لصحة الحديث عند قبولهم له، وهؤلاء ليست لديهم أية مرجعية فكرية تقوم على المنهج العلمي، وإنما تتمثل مرجعيتهم الفكرية في عدم أخذهم من الكتاب والسنة مباشرة من تلقاء أنفسهم، بل يقولون: نحن نفهم ديننا كما فهمه السلف الصالح من الأمة، والسلف الصالح يقصدون بهم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وحجتهم في ذلك ما نسب للنبي عليه الصلاة والسلام من قول جاء فيه: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فهم بذلك منغلقون على فهم القرون الأولى للإسلام ويعتبرون أي فهم للدين سوى فهم السلف الصالح فهما غير ملزم ومجانب للصواب، ولا يمكن اعتبار أن هذا الفكر أو هذا المنهج هو فكر علمي أو منهج علمي، بل هو فكر أو منهج طائفي عنصري منغلق لا يمت للعلم بصله.

أما الذي قد لا يعرفه معظم الناس عن التيار السلفي أنه ليس تيارا واحدا موحدا، بل هو عدة تيارات مختلفة ومتنافسة فيما بينها لا يجمعهم سوى اجتماعهم على فهم الدين طبقا لفهم السلف، إلا أنهم قد اختلفوا فيما بينهم حول فهم السلف للدين، بمعنى منهم من أيد فهم ابن عباس ومنهم من أيد فهم سفيان الثوري في بعض القضايا الفقهية، ومنهم من قال بصحة بعض الأحاديث في قضية ما ومنهم من ضعفها وقال بصحة غيرها في نفس القضية، لذلك نجد مثلا الشيخ محمد حسان والشيخ محمد الزغبي والشيخ أبو إسحاق الحويني رغم أن جميعهم ينتسبون للتيار السلفي في فهم الدين إلا أنهم مختلفون فيما بينهم حول بعض القضايا وبعض الأحكام الفقهية، ولذلك نجد لكل منهم أتباعه وأشياعه الذين يؤيدونه ويناصرونه في آرائه في القضايا والأحكام الفقهية التي يختلف فيها مع غيره ممن ذكرنا من المشايخ.

ومن التيارات الدينية الأخرى التي يزخر بها الإعلام الديني، تيار الإخوان المسلمون، ومرجعيته لا تختلف كثيرا عن مرجعية التيار السلفي، إلا أنهم أكثر انفتاحا وحركية من التيار السلفي خدمة لتوجهاتهم السياسية الدينية المعلنة، التي تتمثل في نشاطهم السياسي عبر دخولهم كل الانتخابات تحت شعار (الإسلام هو الحل) لجذب البسطاء والعوام للوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع ومن ثم يستطيعون تطبيق الشريعة الإسلامية ويقيمون الدولة الإسلامية، وكما لا يخفى على أحد أن هذا التيار لا يملك أية منهجية علمية لفهم الدين حتى وإن كان له مرجعية دينية إلا أنها بالقطع مرجعية لا تمت للعلم بصلة.

أما الأستاذ جمال البنا (مفتي البوس وشرب السجائر في الصيام) فلا يملك أية مرجعية أو تفكير علمي حقيقي على الإطلاق، إنما يمكن القول أنه يعتمد ويتبنى فكرة تحديث الفهم الديني عبر الاعتماد على القرآن الكريم وحده باعتباره المصدر الوحيد والصحيح للإٍسلام، في حين نراه يتعامل مع السنة والتراث بمراوغة ومزاجية وانتقائية محضة، حيث يقول نأخذ من السنة ما يوافق القرآن وفي نفس الوقت يستشهد في كل لقاءاته بالسنة، وكذلك التراث، ففتوى إباحة التدخين في الصيام لم يأت بها الشيخ جمال البنا من بنات أفكاره إنما اعتمد في فتواه على ما قاله الإمام ابن حزم الأندلسي في مصنفه (المحلى) في باب (ما يفطر الصائم) منذ ما يزيد على ألف عام حين قال ابن حزم أن الأدخنة والبخور والأتربة إذا استنشقها الصائم متعمدا أو غير متعمد لا يعد مفطرا بذلك، فالشيخ جمال البنا قام بالقياس على كلام ابن حزم ولم يخترع العجلة، والجدير بالذكر أن هذه الفتوى كانت قد أثيرت داخل السجون المصرية منذ سنوات طويلة وقد سمعت بها أول مرة حين كنت معتقلا في (ليمان طرة) عام 1992م. حتى موضوع (القبلات بين الشباب) التي أعدها الشيخ جمال البنا من (اللمم) وصغائر الذنوب قام باقتباسها من كتب التفاسير للقرطبي وابن كثير وغيرهما، وهكذا في كل فتاواه التي قام باقتباسها من كتب التراث وقام بصياغتها في ثوب عصري جديد، ولو سألنا الشيخ جمال البنا ما هو الجديد الذي قدمه للناس في عالم الفكر الديني الإصلاحي وما هي المرجعية الفكرية العلمية أو المنهجية العلمية لفهمه للقرآن والسنة؟؟، فأنا أؤكد أن الرجل لا يملك جوابا وربما لا يعرف عنها شيئا على الإطلاق.

وهكذا تكون العبثية وبعثرة عقائد الناس وتشتيت دينهم وتمزيق أفكارهم من أجل مصالح وغايات القائمين على الإعلام الديني في مصر والعالم العربي. وأكاد أجزم بأن هناك قوى تقف خلف هذه التيارات لإلهاء الناس وتشتيتهم دينيا كي يحافظوا هم على مصالحهم وإبقائها آمنة مستقرة.

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر_ أسيوط
موبايل/ 0164355385_ 002
إيميل: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحيادية بين الوهم والحقيقة
أبو عبد الله الجوهري رضا ( 2011 / 2 / 24 - 04:53 )
تقول (بل إنني لا أرى صلاحا للبلاد والعباد إلا بالدين، لكن ليس أي دين، إنما الدين الذي يعتمد في فهمه ومبادئه وغاياته على احترام آدمية الإنسان وتلبية احتياجاته أيا كان هذا الإنسان وأيا كان دينه أو معتقده أو فكره ويجعل منه المرجعية الوحيدة لفهم أحكام الدين وتشريعاته وعقائده .)

وهذا يقدح بالحيادية المدعاة
وكان أنفع للقارئ أن تبين له ما معني الحيادية عندك كما هي مفهومة بالبحث العلمي

وأيضا ينسحب علي الحيادية ما ينسحب علي قولكم
إنما الدين الذي يعتمد في فهمه ومبادئه وغاياته على احترام آدمية الإنسان
فمن أين لك تلك القناعة وما مصدرها
هل مصدرها الدين؟ هل مصدرها العقل والمنطق ؟وأي عقل؟ هل الفطرة؟ وفطرة من؟
بالنهاية هناك اساس سوف تؤسس عليه الحيادية
فلا فرق إذن بين الحيادية وغيرها في كون كل منهم له قواعد ينطلق منها
وعلي ذلك العبرة ليست بالمصطلحات والمهم أن يتفق الجميع علي القواعد المشتركة التي علي أساسها تقبل نتائج مناهج التفكير ومناهج البحث العلمي
وبد ذلك فليختلف الناس ضمن
من خالفني بالدليل (المنهج) فقد وافقني
نرجوا أن تتكرموا بالبحث بالفكرة بإعتبارها قاعدة المناهج
يتبع

اخر الافلام

.. أفكار محمد باقر الصدر وعلاقته بحركات الإسلام السياسي السني


.. مشروع علم وتاريخ الحضارات للدكتور خزعل الماجدي : حوار معه كم




.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran