الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة المحرمة

أحمد دلباني

2010 / 7 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


1

من المؤكد أن المفكر العربي الراحل نصر حامد أبو زيد (1943- 2010) مثل – إلى جانب طائفة من المفكرين النقديين العرب – وجها بارزا من وجوه طليعة نقدية حاولت اختراق أسوار الممنوع والتابو العقلي والثقافي في حياتنا. إنه مفكر جابه الانغلاق الفكري وسلطة المقدس والموروث منفتحا على أكثر الأسئلة ارتباطا بالمرحلة الراهنة التي عرفت وتعرف انتعاشا غير مسبوق للمخيال الديني وسطوة التقليد. لقد أراد أن يجابه بالعدة المعرفية والنقدية / الإبستيمولوجية الحديثة جبروت الماضي المعاد إنتاجه بوصفه قوة هيمنة رمزية / إيديولوجية أراد أصحابها إعادة تنشيط عقلية الوصاية والهيمنة على المجتمع العربي في لحظة عرفت انتكاسا وتراجعا لمشاريع التحديث والتقدم الاجتماعي والسياسي.

يمكن أن نتبين جيدا أن مشروع الراحل يرتكز على جانبين أساسيين يمثلان لحظتين إبستيمولوجيتين: فهناك، من جهة أولى، لحظة التعامل النقدي مع التراث ولحظة مجابهة المقدس الديني بأدوات التحليل النقدي / التاريخي الذي يجتهد في الكشف عن الزمني والتاريخي والسوسيو- ثقافي في كل ما خلعت عليه الذهنية التقليدية وسلطة المرجعية اللاهوتية جبة التعالي واللاتاريخية. وهناك، من جهة ثانية، لحظة الالتفات إلى الراهن الذي يعرف انفجارا للأصولية الدينية وانكماشا للعقل النقدي على قاعدة التاريخ العربي المنتكس على كافة المستويات منذ لحظات هزائمنا المعروفة، وعلى خلفية فشل الدولة الوطنية العربية في إنتاج لحظة التحديث المتوازن والخروج من بنية المجتمع البطريركي الموروث. هذا ما جعل نصر حامد أبو زيد ينخرط في فضاء الأسئلة الحارقة المتعلقة بضرورة قراءة ما يحدث قراءة لا تستسلم للجاهز المعرفي ولا للتأويلات السائدة التي تبارك الوضع وتحاول فرض حقائقها السوسيولوجية التي تنهل من انتعاش المقدس والمخيال الخلاصي الديني. إن ما يريده المثقف النقدي – خلافا لذلك – هو النضال الدائم الذي يبتغي هزيمة اللامعقول في الفضاء السوسيو- سياسي من خلال اشتغاله النقدي / التفكيكي الدائم على خطابات الأسطرة التي تمثل انسحابا من العالم ووعيا إيديولوجيا يرهن إمكانات التغيير لصالح الرغبة في المحافظة والقوى الاجتماعية التي تمثلها.

2

يمثل مشروع نصر حامد أبو زيد، بالتالي، وجها من أوجه المشاريع الفكرية العربية التي حملت على عاتقها هم العقلنة والعلمنة والرغبة في تقليص الحضور الطاغي لثقافة الأسطرة واللاعقل في الفضاء العام للمجتمعات العربية والإسلامية؛ كما يمثل مجابهة جسورة ومناطحة علمية / نقدية للمسكوت عنه في ثقافتنا الموروثة التي عانت طويلا من التحنيط في زمن المطلق بعيدا عن الانفتاح على التاريخ وانفجار المعرفة النقدية التي كانت في أساس مشروع الحداثة الضخم. هذا ما جعل من مشروعه صوتا جهيرا في وجه يباس حياتنا العقلية وأوضاعنا السوسيو- سياسية التي لم يعد بإمكانها الاستمرار. لقد اجتهد في مجال محاط بالألغام من كل جانب، وتنطح للتابو المرتبط بالمقدس الديني في تجلياته الخطابية والمؤسسية كاشفا عن مآزق الخطاب الديني السائد وعن تهافته الإبستيمولوجي، وفاضحا دور المؤسسة الدينية التي استعادت دور الإكليروس في جبة إسلامية. إن صاحب " نقد الخطاب الديني " أراد إيقاظ الوعي الإسلامي المعاصر من سباته الذي طال في حضن الارتهان للغيب وسطوة الماضي المقدس بوصفه مرجعية متعالية ليقذف به في آفاق النقد المحرر من زمن الثبات والتعالي إلى زمن التاريخ، تمهيدا لتحرير الفاعلية العربية - الإسلامية من بطالتها الحضارية واحتضان وجيب العصر وإشكالاته بشجاعة ودون القفز عليها أو حجبها. كما كان للمفكر الراحل دوره النضالي الهام بوصفه مثقفا ملتزما بالدفاع عن حقوق العقل النقدي في اجتراح آفاق الحقيقة المتخلصة من رغبة الهيمنة من جهة أولى؛ وكان، من جهة ثانية، ملتزما بالدفاع عن مشروعية خطاب النقد التنويري الحالم بمجتمع متحرر من الوصاية التي تستند إلى شرعية الماضي كما تعيد إنتاجه قوى سوسيولوجية تبتغي مراقبة التاريخ وكبح سيرورته وفرض المعنى الذي تراه مناسبا لمشروعها.

من هنا نفهم شراسة الاضطهاد الذي تعرض له مفكرنا منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي؛ ونفهم فداحة الثمن الذي يجب على المثقف النقدي العربي دفعه لقاء الجهر بالحقيقة والنبش في الممنوع والمسكوت عنه ومجابهة التابو الراسخ في الوعي الجمعي. هذا يشير إلى بقاء المجتمع العربي – في بنيته العميقة – مؤسسة اضطهاد واستبعاد ونبذ للمختلف؛ ويشير، كذلك، إلى تواطؤ المؤسسة الرسمية مع المد الأصولي المتعاظم منذ عشريات حفاظا على شرعيتها التي نخرتها تاريخية هوجاء أتت على مشاريع التحديث العرجاء. انطلاقا من ذلك نرى أن مأساة نصر حامد أبو زيد تكشف عن وجه آخر من مآسينا التي لا تنتهي، عنيت بذلك بقاء الفضاء العام رهينة لسلطة الحساسية الدينية وبقاء الدولة العربية بمؤسساتها عاجزة عن إحداث القطيعة الإبستيمولوجية والسياسية مع مرجعية الوصاية على الضمائر. كأن الراحل كان يخوض المعركة ضد وضع سياسي ما زال يعيش زمن الادعاء القروسطي الشهير: الحديث باسم الحقيقة المطلقة والدفاع عنها. هذا ما يجعل من كل مفكر تنويري عربي فدائيا يتأهب للصعود إلى جلجلة الحرية. فإذا كان عالم النهضة الأوروبية غاليلي ( 1564- 1642 ) الذي أسهم في ميلاد العلم الحديث وفي إسدال الستار على رؤية العالم القديمة يمثل ذكرى بعيدة في الوعي الغربي، ترتبط بالرقابة الدينية وسلطة الإكليروس والحجر على البحث العقلي / التجريبي وإدانة الفكر الحر، فإن غاليلي العربي لم يدخل، بعد، التاريخ بوصفه ذكرى وإنما ما زال يعيش بيننا مجابها سلطة التقليد ومؤسسات التكفير التي تنتعش اليوم أكثر مما مضى. نعتقد أن في هذا الأمر مؤشرا بالغ الدلالة على تردي الأوضاع عندنا وعلى انتكاسة التحديث الذي لم يكن إلا استهلاكا وتزيينا شكليا لحياتنا لم يعرف الثورات العقلية ولا التغيرات السوسيولوجية البنيوية الضرورية للإجهاز على الطابع البطريركي لمجتمعاتنا فكريا واجتماعيا وسياسيا. إن غاليلي العربي – بكل تأكيد - هو أطول البشر عمرا.

3

إن أهمية المفكر الراحل، برأينا، لا تتأتى من منجزه الفكري فحسب بل، وبدرجة أكبر، من حضوره بوصفه مثقفا مناضلا استطاع أن يستثمر العدة المعرفية والنقدية المعاصرة في عمله من أجل أن يتدخل في الشأن العام من موقعه كمفكر مبشر بالعقلانية وقيم الحرية الفكرية والنظر الحر المتخلص من هيمنة السائد المستمر بفعل التقليد ودوام مؤسسة المجتمع القائم على الوصاية. إنني أرى شخصيا أن الراحل ليس أكثر المفكرين جذرية في حقل نقد الفكر الديني ومحاولة ترسيخ الرؤية التاريخية / النقدية في قلب ثقافة ظلت تعيش على مرجعية السلف والحساسية القروسطية التقديسية للأشياء. فهناك، كما نعرف، مفكرون ذهبوا أبعد مما ذهب إليه أبو زيد في آفاق النقد والمراجعة؛ ولكنه – على ما نرى- أصبح رمزا للبطولة العقلية وأخلاقية المثقف الذي لا يهادن ويحاول دوما أن يحتفظ باستقلاليته بعيدا عن التواطؤ مع الوضع السائد ومؤسساته التدجينية. إنه – من هذه الزاوية – يمثل في ثقافتنا العربية المعاصرة فولتير لا كانط. أعني أن عمله لا يشكل بذاته فتحا معرفيا غير مسبوق وإنما استثمارا جيدا وشجاعا لأدوات عصره النقدية من أجل فضح ألاعيب المؤسسة الدينية القائمة والكشف عن مضمرات خطابها الذي ظل يمثل ينبوعا ثرا للنبذ والتكفير والاستبعاد من دائرة الخلاص الديني والدنيوي معا. هذا ما يفسره شيوع النبرة السجالية في معظم مقالاته النقدية التي تضمنتها مؤلفاته الكثيرة والتي أرادها انخراطا محموما في قضايا عصره ومشكلات مجتمعه؛ حيث يبدو فيها مناضلا من أجل ترسيخ قيم العقلانية والانفتاح على منجزات العصر المعرفية والسياقات التاريخية للمعنى بعيدا عن الانغلاق المذهبي والطائفي وبعيدا عن الركون إلى سلطة القدماء؛ وهذا نشدانا لفكر إسلامي جديد يتأسس على الاجتهاد بوصفه تأويلا لا ينتهي واستقصاء للدلالة يبتعد عن الحرفية النصية ويجعل التاريخ مهادا للمعنى.

4

هذه هي الخطوط العريضة لمشروع فكري تبلورت معالمه الرئيسة عند مفكرنا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وشكلت مهدا لنتاج قدر له أن يحدث ضجة إعلامية كبيرة وردود أفعال مؤسسية عنيفة كان من نتائجها الفاجعة وقوع الراحل تحت طائلة التكفير والاتهام بالردة والحكم بالفصل بينه وبين زوجته كما يعلم الجميع. هذا ما جعل منه مثقفا مناضلا يواجه المؤسسة الدينية وممارسات القمع الفكري والوصاية على شاكلة المفكرين الأحرار في أوروبا الوسيطة. ربما هذا ما يدعونا إلى أن نتأمل قليلا – كما أسلفنا القول - في أوضاعنا وفي تخلفنا الواضح عبر امتداد العالم العربي - الإسلامي على مستوى ضمان حقوق المواطنة والحريات الأساسية وفي مقدمتها حرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير. ما زال المثقف النقدي عندنا يجابه الوصاية الدينية المؤسسية وما زال الفضاء السوسيو- ثقافي خاضعا لسلطة المخيال الديني والرمزانية الخلاصية التي تمثل " قلب عالم بدون قلب" كما كان يعبر ماركس بشأن الدين. من هنا نفهم كيف أن المثقف النقدي عندنا ما زال شهيدا بالقوة لا شريكا في الحوار العام أو استبصار الحقيقة ومقاربتها بعيدا عن ألاعيب الهيمنة وعن ضغط الوصاية الرسمية المستندة في شرعيتها إلى واقع سوسيولوجي خائب وملتهب. هذا، ربما، ما يجعل التفكير عندنا – وفي أوضاعنا الحالية - مخاطرة فعلية وجريمة تعادل خطيئة مد اليد إلى ثمار الشجرة المحرمة. ولكن متى كان الفكر الحقيقي غير ذلك؟

أحمد دلباني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ابو زيد ضحية المراكسة المصريين الانتهازيين
القوصي مصطفى ( 2010 / 7 / 13 - 03:17 )
اما ابو زيد الذي لم يغزو عقر الديكتاتورية المصرية ولم ينطق ازاءها بربع حرف فهو ماركسي الثقافة والهوية ولذلك لا تستغرب اذا ما تجرأ ماركسي على المقدسات ان التفسير الماركسي للتاريخ والاديان مرفوض تماما
وهؤلاء المراكسة زمرة ميكروسكوبية انتهازية لا قيمة لها ولا تملاء حتى عربه كارو في
مصر
وهم الذين صنعوا معاناة الدكتور ابوزيد عندما استخدموه من اجل مهاجمة خصومهم
فبدل ان يذهب كاي باحث على بحثه ملاحظات فيعدلها ويعود الى اللجنة ركب رأسه بعد ان نفخ شياطين الماركسية المصرية التعبانه الانتهازية
معركتنا الاساسية ليست مع الاسلام ولكن المعركة الاساسية هي مع الاستبداد العسكري او الحزبي او العائلي ومع الفساد بكل صنوفه وهذا ما يهرب منه المثقف المصري ويستسهل هجاء الاسلام والمسلمين

اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال