الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انغلاق الإعلام الديني وجنايته على الدين والناس

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2010 / 7 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن ما يقوم بتقديمه الإعلام الديني للناس الآن من صيغ تحمل في طياتها مادة دينية يعد جناية على المجتمع بأسره وإفساد لكل مناحي الحياة فيه، لا أقصد بهذا تعريف الناس بالأحكام الدينية والتشريعات الدينية والقيم الدينية التي تربط الإنسان بربه وتجعل منه فردا صالحا مصلحا في مجتمعه ينفع الناس وينتفع به الناس كما أراد الله لنا من خلال دينه وأحكامه وتشريعاته، إنما أقصد بذلك الأحكام والتشريعات والقيم الدينية المنغلقة على فهم ديني فئوي طائفي فرزي يحرص على تقديمه جميع دعاة الدين في الإعلامي الديني اليوم، ذلك الانغلاق الذي يقول للناس هذا هو الحق وما عداه هو الباطل، هذا هو الهدى وما عداه هو الضلال، هذا هو الإيمان وما عداه هو الكفر والفسوق والعصيان. إن تقديم الدين للناس بهذه الصيغة الانغلاقية هو الجناية بعينها على الدين وعلى الناس وهو الإفساد الحقيقي لكل مناحي الحياة، وذلك لأن استخدام هذه الصيغة في تقديم الدين للناس تغلق في وجوههم كل أمل أو مخرج حين يحدث التصادم بين ما هو واقعي وما هو ديني فتَسْوَد الدنيا في عيون الناس وتنسد أمامهم كل السبل. هذا وناهيك عن تحول الانغلاق الديني ذاته إلى عقيدة تستشري وتنتشر لتشمل كل مناحي الحياة غير الدينية الأخرى.

إن الانغلاق الديني بأوضح صوره والذي يمثله الإعلام الديني الآن بكل وسائله هو انكفاء مجموعة من الناس على فهم معين ومحدد للنص الديني والإبقاء على ذلك الفهم أبد الدهر، ويعملون على مصادرة حق أي شخص آخر من المساس بفهمهم هذا أو مراجعته أو مناقشته أو حتى إعادة فهم النص من جديد. هذا الانغلاق يعود لأسباب عدة، منها: الخلط المقصود أو غير المقصود بين النص الديني الإلهي في ذاته وبين فهم النص وكيفية تطبيقه وآليات وإمكانيات تطبيقه. ومن أسباب الانغلاق الديني كذلك إضفاء القدسية الإلهية على فهم النص الديني حيث أصبح فهم هؤلاء المجموعة من الدعاة الدينيين للنص له قداسة كالقداسة الإلهية التي يتمتع بها النص الديني ذاته، فيتم المساواة بين كلام الله وبين كلام البشر الذين يقومون على فهم النص الديني، فحين يتكلمون في الدين يوهمون الجماهير أن كلامهم هذا هو كلام الله وأن فهمهم هذا هو مقصد الله وعين ما يريده الله حتى ولو كان ما فهمه هؤلاء ليس صوابا، وبالتالي يصبح من يريد أو من يطالب بمراجعة فهم النص الديني التقليدي أو مناقشته أو إعادة فهمه من جديد كمن يريد مناقشة ومراجعة النص الديني ذاته. فيًتَّهم من يريد فعل ذلك أو من يطالب به أو من يقوم على فعله يتهم بأنه يطعن في النص الإلهي ذاته وأنه يريد أن يعدل كلام الله أو يغير كلام الله أو يراجع كلام الله، وهي تهمة تَسِمُ من يُتَّهَم بها بالكفر والردة والمروق من الدين.

وأضرب مثلا لتقريب الفهم بحكم إباحة الكفر في حال الإكراه، ففي سورة النحل آية تقول: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (106_ النحل) هذا النص يبيح للمًكْرَه بضم الميم وفتح الراء في حال أكره على قول الكفر أو فعل الكفر أن يقول الكفر أو يفعل الكفر طالما أنه في حال الإكراه، وقد وردت أقوال كثيرة للفقهاء تعبر عن مدى اختلاف فهمهم لهذا النص، فمنهم من قال لا يعد الإكراه إكراها إلا إذا كان تهديداً بالقتل، ومنهم من قال بل الإكراه يكون بالضرب دون القتل، ومنهم من قال الإكراه يكون بمجرد التخويف، وغيرها من الأقوال، ومنهم من قال الإكراه يكون على قول الكفر فقط ولا إكراه في فعل الكفر، بمعنى من تم تهديده بالقتل على قول الكفر فليقل الكفر وينجو من القتل، أما من أكره على فعل الكفر كأن يكره على السجود لصنم مثلا فلا يسجد حتى ولو قتلوه، إذ لا إكراه في فعل الكفر حسب فهم بعض الفقهاء، وغيرها كثير وكثير من الأقوال التي قيلت في تفسير ماهية الإكراه وتفسير ماهية الكفر الذي يكون فيه الإكراه، فنجد التيارات الدينية المختلفة يقف كل تيار منها عند فهم بعينه من هذه المفاهيم المختلفة لهذا النص وينغلق عليه وينعزل بنفسه وأتباعه عن التيارات الأخرى ويكون له مبادئه الخاصة به وفهمه الخاص به ويعد كل من يخالفه في فهمه للدين عاصيا أو مبتدعا أو كافرا خارجا عن دائرة الدين، ثم يقوم كل تيار من تلك التيارات بإضفاء صفة القدسية الإلهية على فهمه هو أو ما اختاره من فهم للدين، بحيث يوهم الجموع والجماهير من السذج وعديمي الفكر والثقافة الدينية بأن فهم هذا التيار للدين هو الدين الحق والصواب بعينه ومخالفته وعدم الالتزام بذلك الفهم هو مخالفة للدين ذاته وخروج على الدين ذاته ثم يُرْمَى بالكفر والزندقة.

وللقارئ أيا كان دينه أو معتقده أن يقيس هذا المثل الذي سقته على كل نصوص الدين وأحكامه وتشريعاته، فلكل نص ديني ولكل حكم ديني ولكل تشريع ديني العديد من المفاهيم التي تخالف بعضها بعضا، وهذا لا يعني أن النص الديني ليس له فهم محدد أو أن النص من العسير الوقوف على مقصده الحقيقي، بل للوصول إلى ذلك لابد من اتباع المنهج العلمي في البحث والتفكير والمشاركة الجماعية لكل التيارات وعدم الانغلاق على فهم بعينه حتى لا يتحول الدين إلى جناية على الناس وإفساد لحياتهم.

كذلك من أكبر وأخطر أسباب الانغلاق الديني هو الهوى، أي المصالح الشخصية والمزاجية والفئوية والطائفية الضيقة، هذا الهوى الشخصي والمصالحي والطائفي هو ما ندد به الحق سبحانه في كثير من آيات القرآن الكريم حين قال: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) (29_ الروم). وحين قال: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (14_ محمد). وحين قال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (104_ المائدة). وحين قال: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) (78_ يونس).

إنه لمن السذاجة أن نعتبر كل تيار ديني وكل صاحب فكر ديني ينغلق على نفسه وأتباعه وفهمه للدين هو غيرة منه على الدين أو حرصا منه على الدين أو خوفا منه على الدين، بل إن الانغلاق الديني يدل وبكل وضوح أن هناك مصالح ما وراء هذا الانغلاق، قد تكون مصالح مالية أو نجومية أو سلطوية أو قيادية في انغلاقه هذا، فخروج أي تيار ديني أو أي داعية ديني من هذا الانغلاق وانفتاحه على مفاهيم أخرى قد تكون أقرب للصواب يعد تهديدا مباشرا لمصدر رزقه ونجوميته أو مصداقيته أو مركزه أو مكانته أو قيادته، فبالتالي نراه يقاتل في سبيل انغلاقه ذلك حتى الرمق الأخير، لا لشيء سوى للحفاظ على المكاسب والمصالح الشخصية الضيقة.

والمصيبة العظمى أن ذلك الانغلاق الديني الذي يبث سمومه الإعلام الديني ونشاهده في كل مكان وفي كل شيء من حولنا هو المرجع الوحيد والمنبع الأصيل لكل انغلاق سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وفكري تعاني منه مجتمعاتنا وشعوبنا العربية الآن، فكل حزب سياسي أو طائفة عرقية أو دينية أو قومية نراها منغلقة على نفسها بفكرة ما أو رؤية سياسية ما أو اقتصادية ما أو ثقافية ما لأنه قد تم صبغها بصبغة القداسة التي تشبه في قداستها القداسة الإلهية للدين، وصبغ السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة بهذه الصبغة المقدسة يصبح من العسير مراجعتها أو نقدها أو مناقشتها أو تعديلها أو النزول عنها، وليس كذلك وحسب، بل أصبح من العسير الانفتاح على ما قد يكون إكمالا للفكرة أو إضافة لها أو إصلاحا لها أو حتى مجرد المشاركة فيها، وكل من تسول له نفسه مراجعة سياسة ما أو فكرة ما أو رؤية ما تُلًصَق به شتى التهم والأوصاف، لكن ليست تهما بالتكفير والمعصية والخروج من الدين، بل تهما مشابهة لها ولا تقل في وزنها وثقلها وحجمها عن تهم التكفير والإخراج من الدين كتهم الخيانة والعمالة والمأجورية والعداء للوطن وتهديد أمنه واستقراره.

فما الفرق إذاً بين الجماعات والتيارات الدينية المنغلقة على نفسها وتابعيها وأفكارها وبين التيارات السياسية والحزبية والقومية والفكرية غير الدينية؟؟، لا فرق على الإطلاق، فالداء هو الداء، والطائفية هي الطائفية، والعصبية هي العصبية، والحمية هي الحمية، والانغلاق والانكفاء على فهم واحد وفكر واحد هو هو، والتهم هي هي، وهذا الانغلاق وذلك الانكفاء سواء كان دينيا أو غير ديني أسبابه هي هي لا غيرها وتكمن في المصالح الشخصية والتطلعات الفردية والاستئثار بالقيادة والمكانة والسلطة سواء كانت دينية أو غير دينية.

فإذا أردنا حلا أو إصلاحا أو علاجا لكل مشاكل مجتمعاتنا فلا بد من تنظيف وتطهير معتقداتنا الدينية وإعلامنا الديني من ثقافة وعقيدة الانغلاق على فكرة بعينها أو فهم بعينه ولابد من التخلص من ثقافة تقديس المفاهيم والأفكار وتأليهها حتى تنظف وتطهر حياتنا ومعيشتنا. فمعتقداتنا الدينية الفاسدة هي التربة الخصبة التي نبتت فيها كل ألوان الفساد الأخرى.

إن القناعة الشخصية بأي فكرة دينية أو غير دينية والانكفاء عليها لهو حق خالص من حقوق أي إنسان حين يتعلق الأمر بالالتزام الشخصي بهذه الفكرة أو تلك، أما حين يتعلق الأمر بحياة الناس العامة وشئون عيشهم ومصائرهم فلابد من الانفتاح على كافة الأفكار وكافة الاحتمالات وكافة التوجهات الأخرى، فالانفتاح على الأفكار والمفاهيم الأخرى هو انفتاح على التكامل والتجديد والإضافة والمعرفة والعلم، أما الانغلاق فيما يخص الشئون العامة لجموع الناس لهي الجناية على جموع الناس حتى ولو كان الأمر يتعلق بالدين.

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر_ أسيوط
موبايل/ 0164355385_ 002
إيميل: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
سيمون خوري ( 2010 / 7 / 14 - 02:11 )
أخي الكاتب المحترم نهرو ، تحية لك على جهدك ، وأعتقد وهذه وجهة نظري ان الدين يحترم عندما يحترم حق الإنسان في الإختيار . فلا معنى لصلاة يساق اصحابها عنوة الى مسجد . ولا معنى لإيمان بقوة السوط أو القتل . الإيمان مسألة عقلانية ، وإختيار فردي قائم على الحرية العقلية . أخي نهرو تحية لك


2 - مهما قدمت من تنازلات فلن يرضوا عنك
حسين عادل احمد ( 2010 / 7 / 14 - 08:55 )

صدقني يا دكتور نهرو مهما قدمت لهم من تنازلات من دينك لن يرضوا عنك الا ان تتبع ملتهم اما حكاية الاكراه فقد حسمها الرسول الكريم بقوله لصاحبي تحت التعذيب وان عادوا فعد اي ان ارغموك على التفوه بعبارة كفرية فعد اليها او كماقال صلى الله عليه وسلم ان الاسلام معني بالحفاظ على الذات

اخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما وراءك قال شر يارسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال كيف تجد قلبك قال مطمئنا بالايمان قال ان عادوا فعد

اخر الافلام

.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran


.. 72-Ali-Imran




.. 73-Ali-Imran