الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعوة لتغيير كلمات العزاء

نارت اسماعيل

2010 / 7 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 استشهد طبيب فلسطيني كان متطوعآ في إحدى المنظمات الفلسطينية العاملة في لبنان
قصة استشهاده كانت مأثرة من مآثر البطولة والفداء، فهذا الشاب كان شيوعيآ مثل كل أفراد أسرته وكان متفانيآ في أداء مهامه التي تطوع من أجلها، وكان يزحف مسافات طويلة في أرض المعركة وتحت القصف الشديد ولا يلتفت لتحذيرات زملائه وذلك ليقوم باسعاف الجرحى أو يحاول سحبهم إلى منطقة آمنة إلى أن استشهد أثناء إحدى تلك المحاولات الجريئة
أخوه كان صديقآ لي وكان هو الآخر طبيبآ ويتدرب معي في قسم العيون
شكلنا وفدآ من أطباء الدراسات العليا وتوجهنا إلى بيتهم لتقديم واجب العزاء، كنا مجموعة مؤلفة من سنّة ومسيحيين ودروز ( كم أكره هذا التقسيم ولكنني مضطر له لخدمة الغرض من المقالة) وكنا طوال الطريق إلى بيتهم نتساءل حول أفضل كلمات العزاء التي سنقولها لهم بسبب الظرف الخاص كونهم شيوعيون لا دينيون وأيضآ بسبب ظروف الوفاة غير الاعتيادية والتي حدثت نتيجة استبسال وشجاعة فائقة
احترنا كثيرآ ولم نستطع الاتفاق على الكلمات التي سنقولها، فكلنا وعلى مختلف مذاهبنا نستعمل تعابير ذات دلالات دينية مثل: عظّم الله أجركم، الله يرحمه، جعل الله مثواه الجنة....
اقتربنا من منزلهم ولم نتفق بعد فتركنا الأمور تجري بدون اتفاق وحسب مقتضى الحالة
كنا نتخيل أننا سنجد الأب حزينآ منهكآ، والأم باكية تنتحب لنتفاجأ باستقبالهم لنا وهم بأجمل ملابسهم مبتسمين لا يبدو عليهم أي حزن، أخذونا إلى غرفته وعرضوا علينا صوره بمختلف مراحل حياته، وعرضوا أيضآ أشياءه ودفاتره ولوحاته فقد كان رسامآ بارعآ أيضآ، وصار الأب يشرح لنا بحماس شديد كيف استشهد وكيف كان مغوارآ مقدامآ لايهاب الموت وأنه كانت عنده رسالة في الحياة وهي تحرير وطنه والدفاع عنه، وصارت الأم تحكي لنا عن ابنها وصفاته الجميلة وكيف كان يحبها ويحن عليها ودائم الاتصال بها من لبنان
بعد ذلك قدموا لنا الحلوى والعصير وكانوا يظهرون لنا كل الحفاوة والسرور بزيارتنا لهم، وصرنا نحن أعضاء الوفد ننظر لبعضنا البعض محتارين مذهولين لا نعرف ماذا نقول لهم، كلما حاولت أن أقول شيئآ أجد نفسي سأنطق بكلمة لها دلالة دينية فأتوقف عن المحاولة
أليس من العيب أن نجرح مشاعر هؤلاء الناس الذين وهبوا ابنهم وقدموا كل هذه التضحية من أجل الوطن؟ والذي يظهرون كل هذه الوطنية والاخلاص لقضيتهم ومبادئهم؟
أليس من واجبنا أن نحترم معتقداتهم وقناعاتهم؟
الأب كان مسيطرآ بشكل واضح على نفسه، ولكن العين الفاحصة كانت تستطيع تبيّن الصراع الذي كانت تعيشه الأم المنكوبة والتي كانت تصارع مشاعر متناقضة، مشاعر الحزن البالغ على فقدانها فلذة كبدها من جهة، ومشاعر الفخر والاعتزاز الذي جلبه لهم استشهاد ابنها والمأثرة التي سطّّرها، توازن هش كانت تعيشه تلك الأم العظيمة، لم يكن هناك مجال للإخلال بهذا التوازن بكلمة خاطئة أو جملة غير مناسبة نقولها لهم
تناولنا الحلوى والعصير ثم وقفنا وعانقنا الأب والأم بكل ما نستطيع من حرارة وقوة ونحن نغالب دموعنا، لم نقل أية كلمة، لم نجد أية كلمة مناسبة، كان الموقف أكبر من كل الكلمات، عبّرنا عن مشاعرنا بعناقنا لهم والشدّ على أيديهم بحرارة
كانوا مسرورين بزيارتنا لأنها سمحت لهم أن يظهروا كل ما عندهم من حب وفخر واعتزاز بإبنهم، ولكني قبل أن ننصرف وجدت شيئآ أقوله، تلفت إليهم وقلت: شكرآ لأنكم أنجبتم هذا البطل، ثم أشحت بوجهي بسرعة حتى لا يلاحظوا اضطرابي
في طريق عودتنا، قال لي زملائي: شكرآ يا نارت، لقد أنقذتنا، والله لم نجد شيئآ نقوله لهم، كنا سنخرج من عندهم بدون أن نقول ولو كلمة واحدة!
علينا أن نعلم أولادنا كلمات أخرى للعزاء غير تلك التي مازلنا نستعملها
هل من اللائق أن نقول لأم الشهيد: الله يرزقه الجنة؟
هل من المعقول أن نحول الشهادة دفاعآ عن الوطن إلى مقايضة وتجارة؟ ويا ليتها تجارة مربحة، فما قيمة الجنة وأشجارها وأنهارها وحورياتها أمام مبادئ إنسان عظيم؟
علينا أن نحسن العزاء فليس من اللائق أن نعزّي بشهيد مثلما نعزّي بإنسان مات من تخمته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصحيح خطأ
يطرس بيو ( 2010 / 7 / 30 - 11:38 )
أعتذر من القاء الكرام عن الخطأ الحاصل في تاريخ تفجير البنايتين في نيويورك الذي يجب ان يكون 11 أيلول و ليس 9


2 - أخانا الكريم
ليندا كبرييل ( 2010 / 7 / 30 - 16:00 )
صدقني عنوان المقال لوحده يدفعنا للتفكير , حقاً يا عزيزنا كل انسان يستطيع الكتابة بهذا القدر أو بآخر لكن ليس كل انسان قادر على اختيار الموضوع الحساس , هناك كلمات لكثرة تردادها فقدت معناها , وكلمات العزاء منها , فكر بها سترى سخافتها وكيف تقال أوتوماتيكيا بدون وعي , انظر إليهم كيف يجلسون صامتين ولا كلمة كأنهم معاقبون في العزاء , أبو عشر دقائق زمان , شربنا القهوة ومشينا , يللا قدمنا الواجب , نعم هي مشاركة انسانية لكنها واجب مفروض على الانسان وعليه القيام به وإلا عتبوا عليه , كم كانت زيارتكم جميلة وانسانية الطابع بورك ذلك البطل وشكراً لإشراكنا بالحدث


3 - تحيّة للكاتب
رعد الحافظ ( 2010 / 7 / 30 - 16:41 )
موضوع رائع ومفيد وواقعي
علمياً تقريباً إنتفى وجود الجنّة وحورها العين
يبقى عملياً علينا التعزية بكلام يناسب الواقع ويقلل من مُصاب ذوي الميّت ومعاناتهم النفسية
تحياتي للكاتب الأنيق


4 - ياخسارتك
ناصر سعيد الشهابي ( 2010 / 7 / 30 - 16:42 )

ياخسارة شاب بهذه الجسارة يجب ان يكون مسلما


5 - ردود
نارت اسماعيل ( 2010 / 7 / 30 - 19:07 )
الأخت ليندا،صحيح كلامك فنحن لانعرف كيف نعزّي بشكل لائق، بعض الناس يأتون ويجلسون يدخنون ويثرثرون ثم ينصرفون بدون أن يلتفتوا بأية كلمة رقيقة مناسبة لأقرباء الميت، شكرآ لمرورك الجميل دائمآ

الأخ رعد، هذا ما قصدته من مقالي، نعم، يجب أن تكون التعزية متناسبة مع الواقع، شكرآ لك وتقبل أجمل تحياتي


6 - ملاحظة
تينا ابزاك ( 2010 / 7 / 30 - 21:20 )
اولا لم افهم استاذ نارت ماذا افاد النص ذكر التقسيمات الطائفية التي ذكرتها لانها لم ارى رابط لها ,
اكيد كان الاهل مفتخرين ببطولات ابنهم واية كلمة يسمعونها هي مواساو اكانت لها صبغة دينية ام لا ولا اظن ان الانسان سيرفض سماع الله يرحمه ويتضايق... اذا كان الانسان شرقي لانها كلمات المواساة المتداولة هناك ولا اظن ان الانسان يعير لهذه الجمل ا الاهمية حرفيا لان المصيبة اكبر من تللك الكلمات الذي يجب تغيره هو احترام اهل الميت واعطائهم الوقت ليحزنوا بطريقتهم وفي الشرق للاسف الحضور الكبير للمعذين يتجاوز المعقول واهل الميت لايتركون بمفردهم قليلا وكثير من القيل والقال يكثر ووووو كثير من الاشياء الغير معقولة
تحياتي


7 - السيدة تانيا
نارت اسماعيل ( 2010 / 7 / 31 - 00:30 )
اضطررت لذكر طوائف الوفد الذي ذهب للتعزية حتى أوضح بأننا وعلى اختلاف مذاهبنا فإننا نستعمل أثناء التعزية تعابير ذات دلالات دينية
بالنسبة لبقية تعليقك، التعزية إذا لم تكن لائقة فإنها تكون مصدر إزعاج شديد لأهل المتوفي، إما أن نعزي بشكل لائق أو نبقى في بيوتنا
حتى نعزي بشكل لائق علينا أن نحترم خصوصية المتوفي وأهله ونحترم معتقداتهم ومبادئهم
نحن أمام شهيد بطل فدائي شيوعي لاديني، فكيف نقول لأهله: الله يرزقه الجنة؟ وهم لا يؤمنون بالجنة، وهم أيضآ عندما قدموا هذه التضحية لم يقدموها لكي يحصل إبنهم على جنة تشبه ملاهي أطفال ومصممة على مزاج بدو كانوا يعيشون قبل 1400 سنة، هم قدموا تلك التضحية بسبب مبادئهم وحبهم لوطنهم ولأنهم يؤمنون برسالة في حياتهم
علينا أن نقول لهم أشياء أخرى مثل الجملة التي قلتها لهم أنا قبل انصرافي من عندهم
تحياتي لك


8 - طوبى للمساكين الذين لن يرثوا أي شيئ
الحكيم البابلي ( 2010 / 7 / 31 - 08:17 )
الصديق الودود نارت اسماعيل
منذ فترة طويلة وأنا لم يعد لي أي إحساس بكلمات مثل : بطولة ، شهيد ، إستشهاد ، فداء ، وطن ، شعب ، مبادئ ، وطنية ، إخلاص ، تحرير ، و.... الخ القائمة من الكلمات التي بهتت معانيها وأُفرغت من محتواها الأصلي ، وأصبحت تُثير السخرية عند التعامل بها ومعها رغم إصرارنا على إستهلاكها من خلال المسيرة التراثية البائسة التي لا أحد يريد السباحة ضدها لأن لا أحد يريد أن يصعد على خشبة الصليب دون ثمن
عندما تجد حولك كل تلك الشعوب المُسيرة بفكر المقبورين ، وترى أن الوطن أضحى مفردة قاموسية وجواز مرور لكل دناءات العالم
أعطى الناس الأشراف كل ما يملكون لأوطانهم ، وجاء حارقي البخور فلملموا كل العطاء وخزنوه من أجل يومهم الأسود
إبتسم الشهيد وبكى وتحسر وقال : يا ليتني لم
أخي نارت ...... ربما مصابٌ باليأس أنا اليوم ، وربما أعود لطبيعتي غداً ، ولكني سأبقى أحسد الغبي على سعادته ، وأبكي للودعاء الذين قال عنهم إبن البشر بأنهم سيرثون ملكوت السماوات ، أبكي لهم وعليهم لأنهم تم إستغفالهم مرتين
تحياتي


9 - أخي العزيز الحكيم البابلي
نارت اسماعيل ( 2010 / 7 / 31 - 13:01 )
ما هزني بهؤلاء الناس الذين ذهبت لتعزيتهم هو أنهم لم تبهت عندهم تلك المعاني الجميلة مثل الوطن، الفداء، الشهادة، أناس لايعتبرون الحياة تجارة يسعون للفوز بحوريات وغلمان، بل الحياة بالنسبة لهم رسالة ومبادئ، ولاتنسى أننا نتكلم عن الثمانينات من القرن الماضي حيث كان ما يزال هناك بقايا خير في الناس، ربما انقرض الآن ذلك النوع من البشر
تحياتي الحارة لك


10 - تأييد
ماريان إسماعيل ( 2010 / 8 / 1 - 12:12 )
مرحبا نارت، المقال كتير إنساني و حلو ، و يوجد فرق شاسع بين الانسان الذي يستشهد لأن الجنان و الحوريات و الخلود بانتظاره و بين الانسان الذي يدفع عمره و حياته ثمناً لأفكاره و مبادئه ، ثمناً للوطن و لأبنائه، ثمناً للحرية و الكرامة وهو يعلم أن لا ينتظره سوى الفناء، بالتأكيد الموت مسألة صعبة و مؤلمة لجميع العوائل بغض النظر عن الأديان و المعتقدات و الطوائف .


11 - ماريان
نارت اسماعيل ( 2010 / 8 / 1 - 16:12 )
شكرآ ماريان على تعليقك وتفهمك لمغزى المقال ونحن فعلآ نحتاج لتعابير أخرى لاستعمالها في العزاء بما يتلاءم مع خصوصيات كل حالة، تحياتي لك


12 - لا ادري
رجل في زمن العولمه ( 2010 / 12 / 26 - 10:41 )
مررت علي هذا الموضوع صدفه ولاكن لا ادري هذا هو شعوري اتجاهكم اهملكم ام اعلمكم وانا لست اكثر منكم علما اينعم حاصل علي اعلي الدرجات العلميه وشاب مثلكم ولاكن لست خيرا منكم كل ما رايته هاهنا هو ضياع واحباط وسامحوني غباء وكأنكم تعيشون في عالم غير الذي نعيش فيه لأن العالم الذي نعيش فيه توصل اخيرا في كل مجالاته العلميه لحقيقه علميه مؤكده وهي ان هذه الدنيا قامت بفعل فاعل ومستمره بحفظه بل ومسيره بقوانينه وأنتم يامن لا تساوون عنده جناح بعوضه وهو الرؤوف بكم والحليم الرحيم تجابهونه وتتحدونه في ملكه وتقولون اشياء من قبيل متمدنيين وعلمانيين وملحديين وشيوعيين فهل ستنقذكم تلك المذاهب من عقابه يوم يبعث عباده لا والله انه الحق وهو احق وهوخالق الحق القوي في عوالمه الحكيم في حكمه والعادل في قضائه والله والله لأنه هو الحق والله والله سنتقابل يوم الحشر وسأسألكم الم ابين لكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكذبون هداكم الله للحق وابعدكم عن الضلال وشكرا

اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب