الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كائنات خفية

ماريو أنور

2010 / 8 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كلها كائنات خفية ... لعبت دوراً بارزاً فى السيطرة على خيال الجماهير المقهورة ... وتعليلها للأحداث التى تفلت من سيطرتها و التى يستعصى عليها تفسيرها ... كما أنها قد استخدمت ... ومازالت .... بكثرة لتبرير ما يود الإنسان التستر عليه من فضيحة ... أو عيب ... أو تقصير بزعم الوقوع تحت تأثير الجن ... مما يساعده على الحفاظ على سمعته ...
هذه الكائنات الخفية تسقط عليها صورة إنسانية ... وتقوم مجموعة من الخرافات حول علاقتها ببنى الإنسان ... فهى تسكن الأرض السفلى نهاراً لتخرج منها ليلاً ... فتعيث فساداً و غواية .... وقد تصاحب بعض الناس أو تقوم بينه و بينها علاقات عاطفية ... وعلاقات حب تصل أحياناً حد الزواج أو الإرغام عليه : زواج أنسى من جنية أغرمت به ... وأرغمته على اللحاق بها لإلى الأرض السفلى ... أو هى تأتى لتزوره ليلاً منافسة بذلك زوجته .... وموقعه بينه و بينها فى الحالتين الذى يصل حد الطلاق .... وكذلك زواج أنسية من أحد رجال الجان .... ويتم الأمر فى الحالتين على شكل غواية و إرغام .... ويثير دوماً مصاعب و مصائب حياتية لمن ابتلى به من بنى الإنسان ... ولذلك فهى تثير الخوف دوماً ... كما تثير الشك و الحذر ...
كما قد تقوم بينها و بين بعض بنى الإنسان علاقات تحالف ضد أعداء معينين ... وهى إلى ذلك تقيم فى مناطق لا يجوز الاقتراب منها أوالمساس بها ... لأنها تظهر على صاحب المحاولة ليلاً فتثير الذعر فى نفسه أو تؤذيه إذا حاول الاعتداء على مقرها ... ويشيع الكثير من حالات الهلوسة الهذيانية ( البصرية السمعية ) حول رؤية الجان و اللقاء بهم و سماعهم فى أفراحهم و أحزانهم .... وما كل ذاك سوى إسقاط لكنونات النفس اللاواعية و تجسيد لها على شكل كائنات خفية .... إنها إسقاط لرغباته الدفينة ... والتى تعرضت لقمع اجتماعى شديد ( رفبة فى الطلاق مثلاً و الزواج من قرين يتمشى مع الشخص المرغوب فيه جنسياً ... تسقط على الجنية مصدر الغواية التى لا تقاوم ) .... أو هى إسقاط لمخاوف تعتمل فى لاوعى المرء ... يخشى بروزها إلى حيز الوعى أيما خشية .... نظراً لما تتضمنه من تهديد لمكانته أو سمعته أو توازنه ... فلا يجد أفضل من تجسيدها من خلال كائن خفى تعترف به الجماعة .... ومن الخصائص الهامة لهذا التجسيد تبرئة النفس من كل لوم اجتماعى أو ذاتى على ما رغبت فيه أو خشيته ... فالمرء فى هذه الحالة مجرد ضحية ... و لا يملك من أمره شيئاً .... تلكم هى خاصية من خصائص إسقاط الأزمات ز الصراعات النفسية فى العالم المتخلف ... الذى يمارس أقصى درجات القهر و يفرض أقصى حالات الجهل على بنيه .... فكل رغبة أو خوف يقمعان بشدة لما يتضمانه من إدانة ... فلا يبقى أمام المرء سوى مجال التعبير من خلال التجسيد الخرافى ..
و أبرز مثل على حالة التجسيد الذى ينفى المسؤولية الذاتية ... كما يحفظ السمعة .... حالة التلبس أو الخبطة التى تفسر من خلالها بعض الاضطرابات النفسية ذات الطابع الهستيرى أو الصرعى ... إنها أكثر التفسيرات شيوعاً فى البيئات المتخلفة ... فهى تعلل و توضح ما تعجز عنه التحلل السلوكى الذى يبديه المريض ... تحلل هو فى حقيقته انفجار لنزوات مكبوتة و إفلاتها من سيطرة الإرادة ... وتحكمها فى السلوك لتحقيق رغبات مورست عليها أشد درجات القمع ... وهى أخيراً تغطى مسؤولية الأسرة و الجماعة فى مرض الفرد و تتستر عليه ... فما أسهل القول إن فلاناً نخبوط أو ممسوس ... أو متلبس ... كوسيلة للتستر على مسؤولية الجماعة ... يحدثنا (( طه حسين )) فى كتابه (( شجرة البؤس )) بوضوح عن هذه الحالة ... الزوجة القبيحة التى أرغم زوجها على الاقتران بها .... نتيجة لرغبة الوالدين و بأمر من شيخ القرية ... وبشكل اعتباطى لم يراع رغبة ...الزوج ولا رأيه ... فكان أن دبت الكراهية فى نفسه تجاه زوجته المفرطة القبح ... بعد ان كبتت سنين طوالاً إرضاء للوالدين و للشيخ ... وكان أن هجرها بصراحة و اخذ يسىء إليها فى كبريائها الذاتية فى أمر لا تستطيع له تغييراً ... ولم تلبث هذه الزوجة الضحية أن أصيبت بأغراض هستيرية اهتياجية سوداوية نتيجة لما تعرضت له من مهانة و هجر ... وما صب عليها من حقد دون أن تملك القدرة على الرد أو الحق فى الداع عن نفسها ....و سرعان ما وجد الزوج و الأسرة التى تآمرت عليه و على زوجته ... حين فرضت عليها هذا القران .... تفسيراً ولا أسهل لهذه النوبة من خلال التلبس بالجن .... وصورت أنها ضحية إحدى النساء اللواتن يقمن صلات مع الجن ... حين روت هذه الأخيرة حكايات مرعبة عن التلبس ....
هذا التفسير يفضحه المؤلف فى الصفحات التالية حين يبين أنه ليس سوى تستر على مسؤولية الأسرة تجاه المريضة ... و أن مرض هذه الأخيرة ليس سوى نتيجة لما تعرضت له من استغلال و تحك بمصيرها ... دون أن تملك حق الاختيار فى البداية ... ثم ما تعرضت له على يد الأصرة من نبذ و تحقير فيما بعد ... دون أن تتمكن من رد الأذى عنها ... لن المطلوب منها هو أن تذعن مستسلمة لإرادة تلك الأسرة ..
كم من حالات مرضية ... وكم من صراعات زوجية ... وكم من ازمات بين الأبناء و الآباء فى العالم المتخلف ... الذى يقمع كل حرية تعبير و كل إرادة اختيار عند أفراده ... تفسر من خلال هذا التبرير السهل ... وتلقى مسؤوليته على الجن و العفاريت ... بشكل يحفظ النظام القائم و يمنع كل تساؤل حوله و كل تشكيك فيه ... وبدل أن ينظر القائمون على أمر المريض ... الذى هو فى الحقيقة ضحية اضطراباتهم و مآزقهم العلائقية ... والمعبر عن رغباتهم المريضة ... فى الأسباب الحقيقية للمرض ... والتى لابد أن تضعهم أمام مسؤولياتهم الفعلية .... نراهم يذهبون للبحث عن العلة فى جان أو عفريت قد تلبسه ... إثر حادثة يخلقونها أو يتخيلونها ....
ثم هناك مشكلة تحكم الجن والعفاريت فى مسائل الزواج و الخطبة و العلاقات الجنسية ... كل الأزمات الزوجية و الجنسية تلصق بهذه الكائنات الخفية ... بدل أن توضع فى إطارها الحقيقى ... وترد إلى سببها الفعلى الاجتماعى الأسرى النفسى ... فالعزلة ... والفصل بين الجنسين وسوء الاختيار الزوجى نتيجة للعلاقات التى يفرضها الأهل ... وروابط المصاهرة التى تقام لخدمة مصالحهم و يستخدم فيها الأبناء كمجرد أدوات لخدمة هذه المصالح .... و الأمراض الجنسية النفسية الناتجة عن القمع الجنسى و الإحباط العاطفى المزمن ... والتربية المتسلطة ... هى وحدها المسؤولة عن الأزمات الزوجية ... ولكن طرح المسألة بهذا الشكل .. يهدد امتيازات الأسرة المتسلطة و القائمين على رأسها ... ويهدد النظام السائد فى الجماعة ... الذى لا يخدم فى النهاية سوى هذه الامتيازات ... ليس هناك إذاً أكثر تضليلاً و خداعاً من إلقاء المسؤولية على الكائنات الخفية .... ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة ...
ومن الطبيعى أن يستفحل الاعتقاد بالخرافات حول الجن و العفاريت بين النساء ... نظرً لوضعية القهر المفرط التى تفرض عليهن فى المجتمع النامى ... ومن الطبيعى أن تلجأ النساء إلى مختلف أساليب الشعوذة لحل أزماتهم الزوجية و العاطفية و الجنسية ... طالما سدت أمامهن كل سبل التأثير الفعلى فى الواقع المفروض عليهن .... وطالما استلبت منهم إرادة التحكم بالمصير ...
وهكذا تسقط على هذه الكائنات الخفية ... قدرات كبيرة على تحقيق ما يعجز المرء عن تحقيقه بجهده ... كما تسقط عليها كل المصائب و الشرور و الأخطاء ... ويتخذ الإنسان المقهور فى الحالتين ... وسائل معينة لدرء شرورها من ناحية ... واسترضائها و جلبها إلى صفة ... حليفة له فى معركته مع أعدائه .... وخادمة لمصالحه من ناحية ثانية ... ويبرز المشعوذون الذين يتاجرون بمآسى الإنسان المقهور ... كوسطاء بينه و بين هذه القوى ... ويحيط هؤلاء أنفسهم بجو غريب ... ويتلون أحاديث و أدعية مبهمة يزعمون أنها لغة التخاطب مع الجان ... ويمزجون هذه اللغة ببعض التسابيح الدينية زيادة فى التضليل و إدخال الاقتناع فى نفس ضحيتهم ... بأنهم يمارسون طقوساً دينية ... مما يلعب على وتر إيمانه ... ويدفع به إلى التسليم لهم و لمطالبهم الابتزازية التى لا تنتهى ... وترهقه من أمره عسراً ... بزعم إرضاء هذا أو ذاك من ملوك الجن أو ملكاته ... وهو كائن كثير الطلبات عادة ... لا يرضى قبل استنزاف الضحية ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العداء للغيبيات والعوالم الخفية موده قديمة
سعد الدين احمد غانم ( 2010 / 8 / 2 - 18:13 )
ان العداء للدين وللغيبيات موضة غربية تجاوزها الغربيون فيما يسمى ما بعد الحداثة وصاروا يؤمنون بما وراء الطبيعة وبالغيبيات وحتى بالاساطير والخرافات حتى انهم اهملوا عقولهم وسلموها لاخطبوط يقرر نتائج الفرق الفائزة في الكورة ؟!

الغرب الم يعد كافرا بل استرد ايمانه بعد عالم ما بعد الحداثة
بينما نحن لا زلنا نقتات على الافكار الخردة ونكرر افكارا تجاوزها قدوتنا الحضارية منذ امد بعيد

اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب