الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غربة الفلسفة من منظور جيل دولوز

محمد بقوح

2010 / 8 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نبدأ بطرح السؤال التالي : هل فكْر السوق يؤدي إلى نهضة الفلسفة ؟ أم على العكس .. ، فثقافة السوق ببعدها الاسهلاكي و التنميطي هو الذي يساهم بشكل كبير في الدفع بالفكر الفلسفي إلى حافة السقوط غير المبرر ...؟

جاء انخراط الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ، في النقاش الفلسفي الدائر في عصره الحديث ( النصف الثاني من القرن العشرين ) أو المشبع حتى الثمالة ، بحداثة الفكر التنويري المتعدد الأصول و الأبعاد ، كنتيجة حتمية و ضرورية لما كانت تعيشه الفلسفة ، كمعرفة تصوّرية ، من تشديد الضيق و الخناق ، و الضغوطات المختلفة و الرهيبة أحيانا ، من قبل العديد من الجهات الرسمية و غير الرسمية ، سواء ذات علاقة بأهداف سياسوية أو إيديولوجية أو ثقافية أو فكرية إقتصادية استراتيجية ، لها مصالح كبيرة الحجم ، و واضحة المعالم ، و ذلك رغبة في التشويش على الفكر الفلسفي الراقي ، و بالتالي استغلال هذه الفرصة الثمينة ، و المشاركة في الحط من قيمة و نجاعة القول الفلسفي ، بدعوى أن عصر الفلسفة قد انتهى ، و أنه لم تعد هناك جدوى و لا إمكانية للحديث عن الفلسفة و التفلسف ، لأن شروط القول الفلسفي أصبحت منعدمة و في خبر كان .. ؟؟

و انطلاقا من هذا الإدعاء المزعوم ، سيعمل دولوز على تشييد أطرحته الفلسفية المتميزة ، في تاريخ الفكر الفلسفي البشري برمته ، لأنه حاول الدفاع عن الفلسفة و الفيلسوف بالفلسفة نفسها ، و ذلك بتأكيده و إلحاحه الجريئين ، في جميع كتبه الفلسفية التي تجاوزت العشرين كتابا ، على الطابع الراهني و الثوري المقاوم لكل إمكانية فعل التجاوز ، كيفما كان نوعها ، لطبيعة الفكر الفلسفي ، و أن شرط وجودها كمعرفة عقلانية تصورية مازال قائم الذات ، بل إنه يشكل مطلب الطبيعة البشرية للإنسان ، و لا يمكن إن لم نقل يستحيل أن نتحدث – حسب دولوز دائما – عن موت الفلسفة .. ، و أنها وصلت إلى لحظة اكتمالها ، كما يدعي البعض ، و ذلك لسبب بسيط ، هو أن الشرط الموضوعي للقول الفلسفي و تفلسف الفيلسوف ظل حيا و موجودا ، و لا يزال متوفرا ، في بيئة مجتمعية حضارية لعصر معرفي ، ما يزال في أشد الحاجة إلى دور الفيلسوف و وظيفته الحيوية و الأساسية في هذه الحياة . لأن الإنسان حيوان بطبعه يتفلسف .. يعني يفكر عبر آليات عقلية حرة ، تبحث عن الاتساق و الجمال و العدالة بين الأشياء و كائنات الوجود الذي يعيش فيه ..

من هنا يرد دولوز على الذين يزعمون أن الفلسفة قد وصلت إلى نهايتها ، بكون هؤلاء واهمين ، فهم فقط لم يتمكنوا من تمثل و فهم حقيقة الفعل الفلسفي في جوهره ، أو لم تسعفهم قراءاتهم لمسارات التراث الفلسفي القديم و الحديث ، بدءا بفلسفة أفلاطون ، التي تعتبر اللبنة الأولى للتأسيس الفلسفي الحقيقي في وجهها الميتافيزيقي التأملي ، مرورا بفلسفة سبينوزا الذي يعتبره دولوز أمير كل الفلاسفة ، و وصولا إلى فلسفة نيتشة الأكثر اكتمالا في بعدها المفهومي و التصوّري .. إذن سيكون منطلق النقد ، الذي وجهه دولوز للأقلام التي حاولت تفسير و اختزال أزمة الفلسفة ، في كونها وصلت إلى نقطة اللاعودة ( الموت ) ، هو أن يعمل على تقويض و هدم هذه التصوّرات الفكرية السائدة عن الفلسفة و وظيفتها في الحياة و المجتمع ، ثم تشييد و تأسيس التصوّر البديل ..الذي يتمثل في نظره في صياغة التعريف التالي : فالفلسفة تفكر من خلال التصوّرات و المفاهيم الفلسفية ، و الفيلسوف الحق هو الذي يقدر على إبداع التصوّرات الفريدة .. فلا وجود إذن للفلسفة بدون الفعل الإبداعي ، على مستوى الصياغة الفكرية العميقة لمسألة المفهوم و التصوّر ، و التي يقصد بها آلية أو طريقة معينة في التفكير ، بواسطتها يستطيع الفيلسوف ممارسة قراءة نقدية للإرث الفلسفي السابق عليه ، باحثا في إطاره عن ما سماه دولوز بالتصوّر من جهة ، و من جهة أخرى ، الحرص على بذل مجهود مضاعف ، من أجل تجديد المفاهيم الفلسفية السابقة ، أو إبداع و إنتاج مفاهيم و تصوّرات فلسفية مختلفة مرغوب فيها . بالإضافة إلى الدور الأساسي للفلسفة في شأن أهميتها الكبرى ، في قيادة تغيير الأفكار ، و التوجهات الفكرية العامة و اتجاهاته السائدة ..

إن التصوّر كما يطرحه دولوز فعل فكري خالص ، يقع داخل دائرة ما هو مفترض . و بما أن الفلسفة تعتمد على التصوّر ، أي تستند إلى ما هو جوهري في الفكر و التفكير ، إذن لا مجال للشك في أهمية القول الفلسفي في عصر تقني ، أو يزعم أنه علمي و اتصالي حتى النخاع ..لأن التفلسف مطلب طبيعي و ضروري لصيرورة الوجود البشري . فكل محاولة إبعاد الفكر الفلسفي من حقل الحياة حتما ستبوء بالفشل ..

و يتحدث دولوز في إطار دعم أطروحته الفلسفية ، التي غالبا ما تنعت بفلسفة المحايثة ، عكسا لبعض الأطروحات الفلسفية السابقة ، التي اختارت الإهتمام بما هو مفارق و متعال و مطلق ، في أبحاثهم التصورية الفلسفية ..( نشير هنا إلى كل من أفلاطون و هيجل على سبيل المثال لا الحصر ) .. عن مسألة الشروط الموضوعية التي يجب أن تتوفر في أية بيئة فلسفية معطاة ، لتربية و نشأة .. و بالتالي إبداع التصوّرات الفلسفية الجديدة و المختلفة ، بتميزها الخاص و الفريدة من نوعها و بطبيعتها الفكرية . فهو يطلق عليها الشروط المبدئية و الواقعية .
فالأولى تعني أ : إبداع المفاهيم الفلسفية ، و قد حاولنا تقريب دلالتها آنفا . ب: تشييد مسطّح المحايثة ، و يعتبر مفهوما أساسيا عنده ، و انطلاقا منه يرفض دولوز كل أشكال المفارقة ، و يرى أن الفكر و الكون شيئان أو وجهان لشيء واحد ، و كل محاولة فكرية للفصل بينهما ، من أجل صياغة نسق فلسفي معين ، ضرورة سيكون مصيرها الوهم و الفشل ، لأن الفكر صورة و الكون مادة ، فلا يمكن الفصل بين صورة الشيء و مادته .. ج : رسم الشخصيات التصورية ، هي الوسيط الذي يبدع المفاهيم الفلسفية على مسطّح المحايثة ، بكل أوهامه و حقائقه ، و تعتبر الشخصية التصورية الفاعل الأساسي لكل قول فلسفي ناجح ، لأنها هي المسئولة عن الحركات اللامتناهية للفكر الحر ، في إطار إنتاج الفرق الفريد و المختلف ، و تحديد التكرار المركّب في الأنساق الفلسفية السائدة ، و كذلك في الأفكار المهيمنة على مستوى المعيشي اليومي .. نحو شخصية سقراط بالنسبة للفيلسوف أفلاطون ، و شخصية ديونيزوس بالنسبة للفيلسوف نيتشه ، و شخصية الأبله بالنسبة للفيلسوف ديكارت ...إلخ .

في المقابل ، يذهب دولوز إلى أن الشروط الواقعية لتربية و تأسيس التصور الفلسفي ، الذي يعد اللبنة الأساس للقول الفلسفي ، فترتبط بثلاثة عناصر هامة ، هي على التوالي :
أ : الصداقة ، ترتبط لديه بعامل الرفقة و الحوار و تبادل الرأي في مجال الفكر ، و في بيئة فلسفية فكرية محايثة ( نستحضر هنا البيئة الفلسفية اليونانية ، التي تعتبر مثالا حيا و قاطعا لتبلور و ازدهار الفكر الفلسفي بالمفهوم الدولوزي ) .
ب : المحايثة ، عكس المفارقة ، و خصوصا كما مارسها هيجل في فلسفته المثالية ، التي تحتفي بمنطق الروح المطلقة للعالم ..
ج : الرأي ، بما أن دولوز لا يعترف بالمفاهيم الكلية بدعوى أنها مفارقة ، و لا قيمة للمطلق باعتباره وهم ، و ينطلق من أسس فكرية تقليدية جوفاء ، سبق له أن انتقدها في العديد من كتاباته ، و نعني بها : التأمل و التفكر و التواصل ، و هي الأدوات التي تسرع في تكوين الكليات . من هنا ، فلابد لكل فيلسوف أراد صياغة قول فلسفي جديد و متميز ، أن يتحرر ما أمكن من الفكر التأملي الكلي ، و يعمل بالرأي الحر الجريء ، و النقاش الفكري الهادئ و الجاد ، على غربلة الأفكار .. و إبقاء الفكر الحر و المحض ، أي التصوّر الفلسفي للموضوع المراد تفلسفه ، و ذلك بهدم أسس الفكر المفارِق .. بالرأي و بالرأي فقط .. و تأسيس الفكر المحايث ، الذي يعتبر مربط فرس القول الفلسفي الحق الدولوزي .

إذا كان همّ جيل دولوز هو الدفاع عن الفلسفة و الفيلسوف ، و إعطاء الدليل على أن الفلسفة يمكن أن تكون بألف خير ، و ترتقي بسهولة إلى المكانة المنوط بها ، و إلى الموقع الذي تستحقه ، فقط يجب و يلزم أن يقودها ، و يفكر عبرها فيلسوف ، من طينته ، قادر على إبداع التفلسف الحقيقي ، الذي يستطيع أن يقدم التميز و الخصوصي و الجديد المتفرد ، الذي لا تستطيع أن تقدمه باقي أصناف المعارف الأخرى ، كالعلوم و الفنون ..

و عودة إلى سؤالنا في مطلع هذه المقالة المتواضعة ، نقول .. بالفعل أن فكر السوق لا يمكن أن يقدم للعالم سوى المزيد من توسع السوق رفقة كائناته الظاهرة و الخفية ، في حين تؤسس الفلسفة فكرا ما فتئ يعمل على مقاومة فكر السوق ، مع كل من يحوم في فلكها .. و هذا هو الذي يفسر مختلف أشكال التشويش ، التي يعرفها الفكر الفلسفي ، ليس فقط في العالم العربي ، بل و حتى في العالم الغربي .. و لكن بدرجات متفاوتة طبعا ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا


.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا




.. الاحتلال الإسرائيلي يقصف المدنيين شرقي وغربي مدينة رفح


.. كيف تناولت وسائل الإعلام الإسرائيلية عرض بايدن لمقترح وقف حر




.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا