الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مؤسسة الزواج الديني في الشرق الأوسط : انتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان

نائل جرجس

2010 / 8 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا تزال معالم البنية السياسية للأنظمة الحاكمة في دول العالم العربي بشكل عام ودول الشرق الأوسط بشكل خاص غير واضحة. حيث ليس من السهل تحديد طبيعة هذه المنظومات الحكومية فيما إذا كانت مدنية أم دينية، فبيمنا تنصّ أغلب دساتير دول الشرق الأوسط على أنّ دين الدولة هو الإسلام – عدا سوريا ولبنان – نرى غياب لتطبيق فعلي وشامل للشريعة الإسلامية على غرار الوضع في كل من السعودية وإيران. إلا أنّ ذلك لا يعني غياب تأثير الدين على التشريعات القانونية وعلى أنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط، وهذا ما يبدو بشكل واضح في قوانين الأحوال الشخصية المستمدة بشكل أساسي من الشريعة الإسلامية بالنسبة للمسلمين ومن القانون الكنسي بالنسبة للمسيحيين. ومن هنا تبدأ عملية فرض الدين على الآخر غير المؤمن بالديانتين الإسلامية أو المسيحية كالعلماني مثلا أو حتى البهائي وغيره من المنتمين إلى أقليات دينية غير معترف بها رسميا والذي يجب أن يتبع في أوراقه الشخصية لأحد هاتين الديانتين بخرق واضح لمبد الحرية الدينية المنصوص عليها في العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
ويُضاف إلى ذلك ما تسببه هذه التشريعات الدينية من تفكك للمجتمع نتيجة لتطبيق قوانين مختلفة على أبناء الدولة الواحدة، والتي تمنعهم في بعض الأحيان هكذا تشريعات من إبرام عقود الزواج المختلط وهو ما يشكل بدوره خرق واضح للقانون الدولي لحقوق الإنسان. حيث تنصّ المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه : للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. كما جاءت المادة 16 من العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية لتؤكد على أهمية مؤسسة الزواج حيث كرست لها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة في الفقرة الأولى من المادة 23، كما نصّت الفقرة الثانية من نفس المادة على أن"يكون للرجل والمرأة، ابتداء من بلوغ سن الزواج، حق معترف به في التزوج وتأسيس أسرة".

إلا أنّ هده المواد، التي من المفروض أن تُلزم دول الشرق الأوسط باحترام مضمونها، لم تلق صدى في تشريعات الأحوال الشخصية التي تنصّ في أغلبها على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم وكذلك على بطلان زواج المسلم بغير المسلمة ما لم تكن كتابية. كما أنّ أغلب قوانين الأحوال الشخصية الكنسية تنصّ أيضا على تحريم الزواج بين أتباع الديانات أو حتى الطوائف المسيحية المختلفة.
في الحقيقة، إن حظر الزواج المختلط يترتب عليه آثار اجتماعية وقانونية سيئة جدا كإنجاب أطفال خارج إطار العلاقة الزوجية وأيضا الغش على القانون وذلك بإقدام الراغبين بالزواج على تغيير الدين لغاية الزواج فقط، كما أن الكثير من جرائم الشرف تعقب حالات الزواج المختلط التي غالبا ما يرفضها المجتمع لأسباب عديدة منها نتيجة تكريس القوانين لهذا التحريم. أضف على ذلك أن الزواج المختلط ذو أهمية بالغة خاصة لتحقيق الغنى الثقافي للمجتمع والقضاء على الطائفية. إن تقييد حرية الأشخاص في اختيار شريك الحياة يؤدي إلى القضاء على أسمى العلاقات الإنسانية من حب وتوافق عاطفي وبناء أسرة متماسكة كما إنّ هذا التحريم يتعارض أيضاً مع المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.

بالتأكيد ما ذكرناه أعلاه عن منع الزواج المختلط ليس إلا مثالا لا أكثر عن انتهاكات حقوق الإنسان في مؤسسة الزواج الديني بشكل خاص وفي قوانين الأحوال الشخصية الدينية بشكل عام. فيكفي أن نشير إلى عدم المساواة بين الزوج والزوجة وبين المسلم وغير المسلم في هده التشريعات، وكذلك إلى التعقيدات والآثار الناجمة عن سهولة تطليق الرجل لامرأته بالنسبة للمسلمين، وعن استحالة الطلاق بالنسبة للأشخاص المنتمين لبعض الطوائف المسيحية وهو ما يدفعهم في بعض الأحيان إلى تغيير ديانتهم إلى الإسلام لغاية فقط ألا وهي الحصول على الطلاق وبالتالي الزواج مرة ثانية. وهذا ما يؤدي بالتأكيد إلى التشجيع على النفاق وزعزعة الاستقرار القانوني الذي يعدّ من أهم عوامل السلم الاجتماعي. أمّا بالنسبة للطرف المسلم، فإنّ تغيير ديانته يترتب عليه آثار سيئة جدا في ظل هذه التشريعات التي يمكن أن تجرد المرتد عن الإسلام من حقوقه السياسية والمدنية وتقتضي كذلك بتفريقه قصرا عن شريكه في الزواج، وهذا ما يشكل بدوره خرق واضح للحرية الشخصية التي تفترض عدم تدخل الدولة في معتقدات الأشخاص وخاصة الدينية.

وبالتأكيد ليس من المعقول أن نطالب بالإلغاء الكلي لقوانين الأحوال الشخصية الدينية المطبقة حاليا، حيث إنها تشكل خيار للكثيرين من الأشخاص الذين يقبلونها بمحض إرادتهم وحريتهم، ولكنه ليس من المعقول أيضا أن نقبل ببعض نصوصها التي تتعارض مع حقوق الإنسان كزواج القاصرات. كما أنه من غير المعقول أن نفرض هذه القوانين على أشخاص لا يؤمنون بها ولاسيما وأنّ مشرّع هده القوانين هم رجال دين وليست الدولة الممثلة للشعب والتي من المفترض أن تكون صاحبة الحق الأساسي والحصري بالتشريع. ولابدّ من التذكير هنا بأن الدين في مجتمعات الشرق الأوسط يُفرض على الشخص في أغلب الأحيان نتيجة لولادته في أسرة تنتمي لطائفة او لدين معين من دون أن يتمكن في وقت لاحق من اختيار قوانين مدنية تنطبق على وضعه العائلي رغم عدم إيمانه بالقوانين الدينية أو بالسلطة الدينية التي تطبق هكذا قوانين.


يخلص مما سبق بأنّ الإبقاء على تشريعات الأحوال الشخصية دون غيرها يشكل عقبة أمام تطور مجتمعات الشرق الأوسط كما يتضمن تكريسا للطائفية ولسيطرة المؤسسة الدينية على المجتمعات. لهذا لابدّ أن يتم صياغة قوانين أحوال شخصية مدنية خالٍية من كافة أشكال التمييز مع مراعاة ما ورد في الاتفاقيات الدولية وخاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حماية حقوق الطفل. كما أنه من الضروري أن يتم إقرار قانون يتيح الزواج المدني للمواطنين بصرف النظر عن انتمائهم الديني فجميعنا أبناء الإنسانية أولا والوطن ثانيا. ورغم صعوبة إلغاء واستبدال تشريعات الأحوال الشخصية الحالية بقوانين علمانية في الوقت الراهن، فإن المطلب الأساسي يبقى باستصدار قانون مدني مع المحافظة على قوانين الأحوال الشخصية لكل طائفة، وبذلك يكون أمام أي شخصين راغبين بالزواج حرية الاختيار ما بين القانون المدني أو الديني أو حتى الاثنين معا كما هو الحال في أغلب الدول المتقدمة.

إنّ إقرار هكذا تشريعات مدنية مستلهمة من حاجات العصر وتنطبق على الجميع بصرف النظر عن طوائفهم ومللهم، هو حق لكل مواطن يؤمن برفعة الدين عن السياسة. لا بدّ من التذكير أيضاً بأنّ إنجاح هكذا مطلب في مجتمعات الشرق الأوسط يتوجب عليه اتخاذ بعض الخطوات الضرورية كتعميق ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة وذلك بتعديل المناهج التعليمية الحالية التي لا تخدم على الإطلاق هذا الغرض. فيكفي أن نذكر على سبيل المثال ما شنّه الدكتور عمر سليمان الأشقر من هجوم على الزواج المدني في الغرب الذي بفضله تمكّن الأوربيون من العيش بسلام بعيدا عن سيطرة الكنيسة على الدولة وعلى القوانين. فيقول الدكتور سليمان، في كتابه الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الذي يُدرّس في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية، إنّ « الحكم في الزواج المدني للبشر الذي يجلسون على كراسي الحكم في البرلمان يحلون ويحرمون بأهوائهم، لقد حرم الغربيون تعدد الزوجات في (برلمانتهم)، و أباحوا الزنا واللواط والسحاق وقتل الأجنة في الأرحام. والمستغربون يريدوننا أن نسير سيرة العلمانيين وننبذ ديننا وشريعتنا كما فعلوا في دولهم التي هدمت الأسرة فيها، ودمّرت الأخلاق و تهاوت القيم». هذا و للأسف لم يتحدث الدكتور سليمان عن مساوئ الزواج الديني الحالي الذي يعمّق الفكر الطائفي و يزيد من ظلم المرأة والتمييز بين أبناء الوطن الواحد. كما أن إدخال هكذا مصطلحات، في كتاب يدرّس للمسلمين وللمسيحيين على السواء، لن يؤدي إلا لتعميق مشاعر الكره والعداء ضد الغربيين وتبني فكرة مغلوطة عن حضارتهم وثقافتهم بدلا من الاستفادة من تجربتهم في إقصاء سلطة رجال الدين على السياسة وهذا ما سيؤدي بشكل حتمي إلى بناء دول ديمقراطية مدنية عصرية.


وبالنهاية، نقول بأننا اليوم في أمس الحاجة وأكثر من أي وقت مضى، في المساهمة في تعميق ثقافة العيش المشترك والتسامح الديني و المواطنة، ولذلك لا بدّ من أن نطالب حكومات الشرق الأوسط من السير بخطى فعاّلة نحو بإصدار تشريعات مدنية تنطبق على جميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، لكي نستطيع استئصال جرثومة الطائفية التي ازدادت بشكل ملحوظ بعد الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة احتلال العراق. فنحن نحتاج لقانون مدني يسهم في بناء الدولة المدنية التي نطمح جميعنا إليها وهو ما سيؤدي إلى تفعيل دور المواطنة والانتماء إلى الوطن بدلا من الطائفة و العشيرة، إلخ. وحريّ بنا أن نتجه كبقية دول العالم الى تعديل تشريعاتنا بشكلٍ يمكّن المواطنين من التمتع بالحقوق الأساسية والعيش بكرامة ومساواة وليس بإصدار تشريعات جديدة مغايرة تماما لذلك، كما لاحظنا في مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري الذي صدر في الشهر السادس من عام 2009. ولذلك ندعو كافة أطياف ومؤسسات المجتمع المدني في الشرق الأوسط بتكثيف حملاتها وجهودها من أجل استئصال التمييز من قوانين الأحوال الشخصية الحالية من ناحية والمساهمة في العمل على إصدار تشريعات أحوال شخصية مدنية عصرية من ناحية أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية وتأييد إلى : نائل جرجس
أحـمـد بـسـمـار ( 2010 / 8 / 6 - 23:26 )
لأول مرة أقرأ في الحوار هذه السنة كتابة جدية عن مواضيع فصل الدين عن الدولة والمواطنة المشتركة بلا فصل بين الطوائف وحسنات الزواج المدني, دون أي عزل بين المواطنين من معتقدات مذهبية مختلفة. مقال تفصيلي كامل, آمل أن يتناول بجدية علمانية عاقلة كاملة, وأن تلقى توضيحات السيد نائل جرجس كل الأصداء الواعية, رغم الصعوبات التي سوف تلاقيها من الأوساط الدينية المتحجرة التي تهيمن في أيامنا هذه على غالب الأفكار والعقول, حتى بين الفئات التي تتظاهر وتدعي أنها متنورة. نعم إنها تتنور وتثور وتكفر حسبما يمطر عليها باستمرار من سماء الوهابية والسلفية من حفنات البترودولار!!!...
آمل للسيد نائل جرجس ديمومة الشجاعة وقوة النقد والتحليل, عل مجتمعاتنا النائمة والغارقة في الغيبيات والهلوسات الدينية وعبادة الحكام, تستيقظ يوما على أنوار الحقيقة الحقيقية... مع أطيب تحية مهذبة.
أحمد بسمار مواطن عادي بلاد الحقيقة الواسعة


2 - ضد العبث باحكام الاحوال الشخصية الديني
سعد الدين احمد غانم ( 2010 / 8 / 7 - 01:02 )
بالحقيقة ان الزواج ليس شأنا خاصا وانما الصحيح انه شأن اسري وعائلي وعشائري ولابد من الحصول على الحد الادنى من موافقة هذه الاطراف مالم يكن هنا ك بالطبع تكلف او تعنت من احد الاطراف لاسباب غير مقبولة او معقوله او من باب المعاندة فقط ، والحقيقة انه ليس من المناسب العبث باحكام الاحوال الشخصية الديني لدى الجميع ولاداعي لنجعل الغرب انموذجا لنا في كل شيء والمثل يقول العاقل من اتعظ بغيره فالحصاد المر للتجربة الغربية انتجت مجتمعات اضربت عن الزواج وعن تكوين مؤسسة الزواج وجعلت المجتمع يدفع ثمن هذا التفلت بالانفاق مثلا على دور رعاية اللقطاء او النساء الوالدات اللاتي تخلى عنهن الرجال بعد الحمل هربا من المسؤلية ، الجدير بالذكر هنا في موضوع الزواج المدني انه اذا تزوج مسيحي من مسلمة كما في لبنان مثلا فان الكنيسة تلزم المسيحي ان يعمد اولاده من المرأة المسلمة وان يلتزم بتربيتهم ليكونوا مسيحيين والا فانها لن تعترف بهذه الزيجة ولن يحصل الزوج في حالة وفاته على خرجه محترمه وقداس محترم فاين حرية الاعتقاد الديني بالنسبة للابناء واين حقوق الام المسلمة ورايها في الموضوع ؟!


3 - فصل الزواج عن الدين وفصل الدين عن الدولة
وديع العبيدي ( 2010 / 8 / 7 - 10:50 )
ان تدخل الدين في مؤسسة الزواج انعكس سلبا على مدى التاريخ، كما أن تدخل الدين في مؤسسات الدولة وأنظمتها أضر بالدولة فجعلها عرجاء من ناحية وزادها انحطاطا . الزواج قرار فردي يلبي حاجة مشتركة لشخصين يجمع بينهما انسجام وتفاهم نفسي وفكري وعاطفي فما علاقة الدين في أمور الناس الشخصية سيما إن كان لا ينفعها في شيء وانما يتحول إلى سلطة تقض مضجع مؤسسة الزواج وتهدد أركانه. وفي الشرع الاسلامي دفع تدخل الفقهاء في الموضوع الى جعل الطلاق على مستوى من الانحطاط الذي يجبر عليه كثير من الأزواج قسرا، ناهيك عن الاجتهادات والخلافات الفقهية المستمرة ما يؤكد عجزهم عن البت في هكذا أمور. ومن ذلك أعتقد أن الرأي الأنجع هو فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن أمور الزواج والقضايا الاجتماعية، أما الرأي الثالث فهو عدم جواز تحول أي من الدين أو الدولة إلى مؤسسات متسلطة على رقاب العباد بالأمر والنهي والقمع ما يذكر بعهود العبودية الأولى سيئة الصيت. ويبقى الدين الحق صلة شخصية بين الفرد وإلهه، عندها تعرف كل جهة وكل فرد حدوده(ا) ولا يتسلطن فلان على علان تحت أي ذريعة.
شكر خاص للكاتب لاثارة هذا الموضوع مع التحية

اخر الافلام

.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا