الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -2

أنور نجم الدين

2010 / 8 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كما قلنا سابقًا: لا تبحث المادية الألمانية الإنسان التاريخي ووعيه، بل تبحث أولوية المادة بالمقارنة مع الوعي، أي إنها كانت تبحث الوعي، لا بوصفه نتاج التاريخ، بل بوصفه نتاج المادة -مادة مفكرة (الدماغ).
أما في المادية الإنجليزية، فإن مفهوم "المادة تفكر"، لا يتعلق بمنشأ المعارف المكتسبة من قبل هذه المادة المفكرة. فهذا هو بالتحديد أصل التناقض بين المادية الألمانية، والمادية الإنجليزية، فإذا كانت المادة مصدر معارفنا، فلم يكن ممكنا إذًا التمييز بين الأفكار المعاصرة للبشر، وأفكار الأقدمين، وكان يمكن لوعي أجدادنا ان يعكس العالم بنفس المستوى الذي يعكسه وعينا، فالفارق التاريخي إذًا يختفي هنا بين وعينا ووعي الأقدمين.
أما في المادية الإنجليزية فلا يمكن أن يشبه وعينا وعي الأجيال السابقة؛ لأن التاريخ لا يمكن أن يكون نفسه في العصور المختلفة. وفي العلم المادي للتاريخ، لا يمكن حتى أن يشبه الطبيعة في الوقت الحاضر، الطبيعة قبل وجود البشر، أو كما يقول ماركس:

"إن الطبيعة التي تسبق تاريخ البشر ليست في حال من الأحوال الطبيعة التي يحيا فيها فيورباخ -الأيديولوجية الألمانية، ص 36".

إن السؤال الألماني سؤال فلسفي، وهذا السؤال مظهر من المظاهر المحددة للتاريخ الألماني، فالمادية الألمانية تبحث البشر خارج التاريخ، أي خارج السوق العالمية، أو كما أشار إليه ماركس: فبدل السوق العالمية، اقتصر المسرح العالمي لدى الألمان، على معرض كتاب لإيبزغ والمناظرات المتبادلة عن النقد -فلسفة بوير-، والإنسان -فلسفة فيورباخ-، والأوحد -فلسفة شترنر-، فبدل الأحداث الواقعية والبحوث العلمية، كان يستند الألمان إلى القصص، والإنشاءات التاريخية، والثرثرة الفلسفية. (انظر كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية).

ولكن بما أن المعارف البشرية، نتاج تنظيمهم الاجتماعي، فهذا التنظيم هو الذي يعتبر أساس كل عالمنا الحسي، فالوعي إذًا إما غير موجود، وإما يعكس حالات مختلفة من التاريخ لا المادة، فأطروحة "الدماغ مادة مفكرة"، ليست نفس أطروحة الانعكاسات المادية للأشياء في الدماغ، فالأشياء التي نتحدث عنها ليست المادة، الطبيعة الخارجية، بل عناصر تاريخية. وإذا رجعنا الى موضوع بحثنا، وهو الدين نرى أن الدين نفسه واجه في تاريخه تحولات كثيرة، بمعنى أن الدين -أي الوعي الديني- ليس ظاهرة إنسانية فطرية، بل انعكاسات مادية في الدماغ الإنساني، وهذه الانعكاسات تاريخية، فالتاريخ وليست المادة، هو المصدر الفعلي للوعي؛ فلذلك لا يمكن أن يبقى الوعي البشري على حاله قطعًا، فهو يتغير بتغير التاريخ، والتاريخ ليس سوى درجة من درجات محددة من تطور الأدوات والآلات الإنتاجية، أي الصناعة، ثم المبادلة.

في المادية الألمانية لا نجد التاريخ، لذلك لا تصبح العلاقة بين البشر والطبيعة علاقة مادية، فالتاريخ غير موجود أصلا في هذه المادية، مادية فيورباخ، وبهذا الصدد فيقول ماركس:

"إن فيورباخ في حدود كونه ماديًّا، لا يجعل التاريخ يتدخل قط، وفي إدخاله التاريخ في حسابه، فهو ليس بمادي. إن التاريخ والمادية منفصلان عنده.
وليس لنا بد مع الألمان المجردين عن أية مقدمات من أن نبدأ بتقرير المقدمة الأولى للوجود البشري بكامله، وبالتالي للتاريخ بأسره، نفس المرجع، ص 37".

إذًا ما سؤال المادية الألمانية؟

أيهما أسبق: الوعي أم المادة؛ الله أم الطبيعة؟ هذا هو بالتحديد السؤال المشخص للمادية الألمانية، ومن خلال هذا السؤال، تقع المادية الألمانية في أحضان الدين، ويصبح الإنسان في هذه المادية نفس الإنسان الذي يعالجه اللاهوت.

إذا فالمادية الألمانية لا يمكنها أن تبحث البشر ووعيه بصورة مادية، فهي تبحث في الأساس علاقة أخرى غير العلاقة الواقعية الموجودة بين البشر والطبيعة، فوعي البشر لا يحدد بتصوراتهم عن الطبيعة، بل يحدد بتاريخهم المادي، الإنتاجي، وحتى التصورات عن الطبيعة وخلق الأوهام عنها، مسألة تاريخية لا طبيعية، فإنتاج التصورات البشرية الخاطئة عن الطبيعة وأفعالها، تأتي من فقرنا التاريخي في الفكر، أو في تخلفنا المادي، التخلف في صناعة الوسائل الإنتاجية والوسائل التي تساعدنا في فهم العالم بصورة مادية صحيحة، فالبشر يحتاجون الوسائل التاريخية لفهم علاقتهم التاريخية بالطبيعة وببعضهم البعض أيضًا. وهنا تظهر الحاجة التاريخية لمنهج مادي لفهم التاريخ بصورة مادية.

إن كلا من الطبيعانيين والروحانيين الألمانيين، كانوا يتنازعون حول أفكار وتصورات حسية مجردة عن العالم، أما المسألة في الواقع مسألة تاريخية، وليست تصورات ومفاهيم مجردة عن المادة، أو صراع النفس والجسد، أو المادة والروح. مثال:

إن الوعي الديني لعصر الزراعة والاستيطان الناتج منه مثلا، ليس نفس الوعي الديني لعصر الصيد. وهكذا، فمنذ اللحظة الأولى نواجه مسألة تاريخية. إن انتقال البشر من الصيد إلى الإنتاج الرعوي، ثم الزراعي، والبدأ بخَزْن الحبوب، وتدجين الحيوانات والنباتات، يعني في نفس الوقت انتقال البشر من وعي ديني معين الى وعي ديني آخر؛ فأساس أديان العصور التي تتميز بالزراعة بالذات يطابق الأساس التاريخي لدور المرأة في المجتمع، فليست الصدفة إذًا أن تظهر مرحلة في التاريخ باسم المرأة بالذات على اعتبارها آلهة مقدسة. ومن أين تأتي هذه الفكرة الدينية؟ أَمِنَ المادة أم من التاريخ؟ من التصورات عن الطبيعة، أم من الأشياء التاريخية؟

كانت الحضارات القديمة تربط بين خصوبة الأرض وخصوبة المرأة، فمن جهة يعود فضل اكتشاف الزراعة للمرأة، ومن جهة أخرى، فالمرأة مثل الأرض، مثمرة، أي قابلة للإنجاب، فمرتبتها تصبح بفضل ذلك مرتبة آلهية، وفي مرحلة معينة من التاريخ، كانت كل الطقوس الدينية تدور حول الأمهات بوصفها آلهة مقدسة.

وهكذا، فنشأة الدين نفسها، تفسر بتوفر مقومات المادية - التاريخية لدرجة معينة من التطور الاقتصادي ثم الفكري للبشر. ورغم أننا مازلنا بعيدين عن فهم أسرار مملكتنا الإنسانية، ولكن مع ذلك يمكن القول إن البشر لم يعرفوا الدين قبل العصور الحجرية.

وهكذا، فالوعي الإنساني وليد التاريخ لا المادة، ودينه دين تاريخي لا نتاج انعكاسات المادة المجردة. إن التخلِّي عن الصَّيد، والبدء بزرع القمح والشعير، وتدجين البقر، والغنم، والماعز، والخنزير، يعني نشوء نظام جديد مختلف عن النظام الإنتاجي السابق. فمقومات المادية للاستقرار إذًا، هي نفس المقومات التاريخية لتعريف المرأة بآلهة مقدسة. فمن الوجه المادي للتاريخ أن البدء بإنتاج الأفكار الجديدة عن العالم، أو إنتاج وعيٍ دينيٍّ جديدٍ، يناسب الاستيطان، والزراعة، وتدجين الحيوانات البرية بدلا من مطاردتها، فمسرح الدين إذًا، أو الوعي على العموم، هو التاريخ لا المادة.

وهكذا، فالتحولات الاقتصادية الناتجة من عصر الاستيطان، والزراعة، وإنتاج الطعام بدل صيده، تعني في نفس الوقت التحولات الفكرية للبشر عن العالم، فالدين وعي اجتماعي، وتعكس حالة تاريخية لا المادة، فثقافة قرى الصيادين تختلف كل الاختلاف عن ثقافات العصر الحجري، وعصر الاستيطان، ثم ثقافة الصناعة الفخارية، واستخدام الطين، والقوالب، والأشكال المختلقة للبيوت مع السقوف، ليست نفس الثقافات القديمة.

وهكذا، إن خلق البشر إلاههم في شكل تماثيل المرأة التي كانت تمثل الإلهة الأم، نتاج نشوء قوى إنتاجية جديدة وعلاقات اجتماعية جديدة بين البشر، فهو يعكس خصوبة الأرض وخصوبة المرأة في الوعي البشري لا المادة، أو تعكس تصورات تاريخية لا طبيعية. وحسب الأبحاث التاريخية، فدفن البشر موتاهم مثلا، يمثل عصرا آخر من العصور المتقدمة للوعي الديني، وهنا بدأ الإنسان بتشبيه الأرض برحم المرأة، وبدأ يسأل: هل تعود الحياة إلى الجسد داخل الرحم الثاني؟

وهكذا، فوراء كل طقس ديني، سبب اقتصادي - تاريخي، وكل عادة من عادات الأزمنة الغابرة، وحتى تأثيراتها على العالم الحديث، نجد أصلها في الحياة الاقتصادية للبشر لا في المادة، فالتفاعل مع الحياة الفعلية، هو الذي يُخَلِّف الأثر على تفكيرنا، ففكرنا ليس انعكاسا للمادة بل انعكاس للتاريخ وظواهره. وهذا هو بالتحديد التناقض بين المادية الألمانية ومادية ماركس التاريخية التي تعود جذورها الى المادية الإنجليزية، فالأساس المادي لعجز البشر في تقديم تفسير صحيح للطبيعة، هو تخلفه التاريخي، فالسبب لا يعود الى أن البشر لا يعكسون المادة بصورة صحيحة، بل إلى عدم فهمهم لعلاقتهم التاريخية بالطبيعة. مثال:

هل اعتقاد البشر بوجود كائنات غير مرئية على الأرض؛ وعبادة المرأة ما قبل التاريخ؛ أي ما قبل اكتشاف الكتابة، يعود إلى انعكاس المادة بصورة خاطئة؟
كلا، إطلاقًا، فوجود البشر آلاف السنين على الأرض قبل قدرة المادة المفكرة بالتفكير، مسألة تاريخية، فلماذا ظهر الانسان الواعي قبل حوالي 50.000 سنة ق.م أو أكثر؟ ولماذا لم تبدأ المادة المفكرة (الدماغ) بالتفكير قبل 700.000 سنة؟ وهل هذا سؤال تاريخي أم لا؟

وهكذا، فالوعي، المعارف البشرية، معارف تاريخية، أو مكتسبة تاريخيًّا لا من خلال المادة المزعومة، فالمادة كانت دائمًا موجودة، ولكن بقي البشر مليون سنة على الأقل دون التفكير. وبعد أن بدأ البشر بالتفكير، فبدأوا بتصوير الطبيعة بصورة خاطئة، وتسجيل الأوهام عن هذه الطبيعة قرونًا بعد قرون. وبعد آلاف السنين من حشر الأوهام في رؤوس البشر التاريخيين، بدأ الإنسان بالتحقق عما مر عليهم في التاريخ، وفحص الأسباب التاريخية لهذه الأوهام، فبدأ يسأل:

كيف حدث أن الناس حشروا في رؤوسهم كل هذه الأوهام؟ (كارل ماركس). وهذا هو السؤال المادي الذي يقودنا نحو فهم العالم كما هو موجود في صورته التاريخية، فما تبحثه المادية التاريخية هو الوعي الذي ينتجه التاريخ لا المادة المزعومة، فالمادة لا تنتج الوعي بدليل أن الدماغ كان موجودا منذ آلاف السنين، قبل أن يبدأ بالتفكير.

تلكم كانت المقدمة التي قامت عليها المادية التاريخية، والأساس الذي انطلق منه ماركس لدحض (الأيديولوجية الألمانية)، وعلى الأخص ماديتها، وبوصفها مفاهيم البرجوازية الألمانية، وتابعة للنظام الفلسفي الهيغلي، فالصراعات الفلسفية لدى الألمان كانت تتلخص في صراع أزلية المادة وأزلية الروح؛ فالفلسفتان الروحانية والطبيعانية الألمانية، كانتا تعيدان كل شيء إلى فكرة الأزليتين. أما في الواقع، لا تعطينا فكرة الأزلية عن المادة، مفتاح فهم علاقتنا المادية بالمادة، أو بالطبيعة إطلاقًا، فالدماغ الإنساني ليس مرآة الطبيعة، بل التاريخ.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على


.. 174-Al-Baqarah




.. 176--Al-Baqarah


.. 177-Al-Baqarah




.. 178--Al-Baqarah