الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تموت الأمم بموت قادتها؟

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2010 / 8 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ظل القرآن الكريم يوجه الذين آمنوا واتبعوا النبي محمد عليه الصلاة والسلام منذ اليوم الأول لبعثته عليه الصلاة والسلام إلى تعميق الفصل التام في نفوسهم بين حياة أو موت شخص النبي عليه الصلاة والسلام وبين فكرة ووجود وبقاء الإسلام كدين، ما يعني أن وجود أو غياب أو حياة أو موت شخص النبي عليه الصلاة والسلام لا يمثل عاملا أساسيا في وجود وبقاء الإسلام كدين، لذلك ظلت التوجيهات الربانية تتوالى في هذا الصدد لتربية الفرد المؤمن على تنمية الشعور بحريته واستقلالية كيانه الآدمي وتعويده على أن يكون مسئولا وحده وبمفرده عن كل أفعاله وقناعاته واختياراته، وكذلك تعويده وتربيته على ألا يربط مصيره وحياته وتصوراته وفكره ومعتقداته وخياراته بشخص ما أو قائد ما حتى ولو كان ذلك الشخص أو ذلك القائد هو شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

فقد أمر الحق سبحانه رسوله بأن يعلن للناس جميعا أنه بشر مثلهم لا فضل له ولا تفضل عليهم رغم تكليفه بمهمة إبلاغ الوحي، بل طالب من آمن بما جاء به الوحي أن يلتزم بمسئولية وبمحض اختياره بمقتضيات هذا الوحي من عمل صالح ونبذ الخضوع والعبودية لأحد إلا الله وحده، فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (110_ الكهف).

بل زاد الله لهم في تأكيد ذلك الفصل بين شخص النبي وبين الدين كدين حين أخبر أن ما يقوله محمد عليه الصلاة والسلام لكم من وحي ودين ما كان له أن يتقوله من تلقاء نفسه أو يكذب عليكم أو يخادعكم ولو فعل ذلك لكان جزاؤه كالتالي: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ(46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (47_ الحاقة). بل أكد لهم الحق سبحانه ذلك الفصل التام بين شخص نبيه وبين الرسالة التي يقوم بتبليغها للناس حين أمره سبحانه أن يخبر الناس بأنه مكلف مثلهم بما يقوله لهم وبما يأمرهم به وأنه ليس استثناء في أن يخالف ما يدعو الناس إليه وليست له مزية في أن يقول شيئا ويفعل خلافه بل لو فعل وخالف ما يدعو إليه سيناله من العقوبة أضعاف ما سيناله غيره من الناس، فقال: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (15_ الأنعام).

بل قرر لهم الحق سبحانه حقيقة كبرى وهي أن اختيارنا لمحمد عليه الصلاة والسلام للقيام بأداء هذه المهمة وبتبليغ تلك الرسالة لا يعني له أن يكون وصيا على الناس أو وكيلا عليهم أو حفيظا، فقال: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) (107_ الأنعام). وقال: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (80_ النساء).

بل لقد زاد الله لهم الأمر فصلا وتفريقا بين شخص النبي وبين ما يدعو إليه من دين وما يقوم بتبليغه للناس من رسالة، وأن حياته عليه الصلاة والسلام ليست مرتبطة ارتباطا عضويا بإقامة هذا الدين، وكذلك حياته عليه الصلاة والسلام ليست ضرورية لوجودكم كأمة آمنت بهذا الدين، وليست ضرورية لبقاء هذا الدين واستمراره، فأعلنها الحق سبحانه صريحة مدوية: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (30_ الزمر)، يا لها من توجيهات وحقائق وتربية تطيح بكل صور وأشكال الخضوع والتبعية وربط مصائر الأمم بالأشخاص والقادة حتى ولو كان ذلك الشخص أو ذاك القائد هو شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن هو دونه؟؟.
وقد يسأل سائل ويقول: وهل أثمرت التوجيهات الربانية العظيمة هذه والتربية القيمة تلك شيئا ملموسا في نفوس الذين تربوا على هذه التوجيهات من أتباعه عليه الصلاة والسلام؟. أقول نعم، بل كانت لهذه التوجيهات وهذه الحقائق الربانية وهذا الفصل التام بين شخص النبي محمد وبين الرسالة التي يقوم بمهمة تبليغها للناس أهمية قصوى لا يدركها إلا الراسخون في العلم، تبرز هذه الأهمية في تكوين أمة حية حرة فعالة تشعر بكيانها وتقوم بمسئولياتها في شتى الظروف ولا تربط مصائرها وحاضرها ومستقبلها بشخص تحيى بحياته وتموت بموته، ولقد أينعت ثمار ذلك التوجيه الرباني في نفس الصحابي الحر المسئول أنس بن النضر حين فشت شائعة مقتل النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد، فماذا حدث؟؟

أخرج ابن جرير عن السدي قال: فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان. يا قوم إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم. قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك ممَّا يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. فشد بسيفه فقاتل حتى قتل. فأنزل الله قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (144_ آل عمران). يا لها من تعاليم ربانية تعلم الأمة إن هي أرادت أن تتعلم كيف تقود مصيرها بنفسها فردا فردا حتى وإن مات قائدها أو قتل في ساحات الوغى.

وكذلك قد تمثلت معالم هذه التربية الربانية العظيمة في الصديق أبي بكر، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ الله فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). (رواه البخاري: كتاب المناقب).

ونعود لنجيب على سؤال عنوان المقال (هل تموت الأمم بموت قادتها؟)، أقول: نعم تموت الأمم حين يموت قادتها، وتمرض الأمم حين يمرض قادتها، ذلك حين تخلو الأمم من فكر يجمع الشعوب والقادة في ظلاله، فإن وجد الفكر ومات القادة يبقى الفكر تستظل به الشعوب وتلتف حوله، فالأفكار لا تموت بموت القادة ولا بموت الشعوب، أما إذا خلت الشعوب من الفكر وأوكلت أمرها إلى قادتها يعبثون بمصائرها وحاضرها ومستقبلها فحتما تموت الشعوب حين يموت قادتها، وتمرض حين يمرض قادتها، إن الأمة التي تربط حياتها ومصيرها وحاضرها ومستقبلها بحياة القائد وبقائه لهي أمة لا تستحق الحياة، بل عار على الحياة أن يكون على قيدها أمة كهذه.

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر_ أسيوط
موبايل/ 0164355385_ 002
إيميل: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - امن بالرسول تسلم من القتل
حكيم العارف ( 2010 / 8 / 9 - 03:17 )
استاذ نهرو .. انا معجب جدا بطروحاتك التى تتحدث عن كون الزوجه ليست خادمه وانها شريكة للحياه مناصفة مع الرجل ... وياريت تكتب عن هذه الموضوعات الحيويه ...
اما طرحك عن كون ان الامم لاتموت بموت قائدها .. فقد تزاحمت الافكار والامثله امامى لتثبت عكس هذا ... وايضا من التاريخ الاسلامى ...
لن احكى لك عن الفروق بين الدوله الامويه والدوله العباسيه والدوله العثمانيه و....
ولكن ساحكى لك عن حروب الرده ....وكيف ارتد قوم عن الاسلام بموت محمد الا ان ابو بكر اراد ان تستمر دولة الرسول ليتزعمها هو ويستمر فى مسلسل الارهاب والسطو على القبائل والبلاد والتوسع الاحتلالى ... وحروب الرده تعكس كم كانت دولة الرسول والمؤلفه قلوبهم تعتمد على زعيم واحد وليس على القران اوالاسلام لان القران لم يكن له تاثير على احد .... بل امن بالرسول تسلم من القتل ... هكذا امن قطيع كبير المسلمون الاوائل ...

اخر الافلام

.. أفكار محمد باقر الصدر وعلاقته بحركات الإسلام السياسي السني


.. مشروع علم وتاريخ الحضارات للدكتور خزعل الماجدي : حوار معه كم




.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو


.. 70-Ali-Imran




.. 71-Ali-Imran