الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمضان شهر تقوى وهدى أم شهر برامج ومسلسلات؟

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2010 / 8 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (184_ البقرة)

كانت (التقوى) هي علة فرض الصيام كما تلوناها في آيات الذكر الحكيم، والتقوى في مفهومها القرآني هي حصن ووقاية ورقابة ذاتية يقيمها المؤمن من نفسه على نفسه من دون رقابة أو رصد من أي شخص آخر سوى الله وذات المؤمن نفسه، ولأنه ليس من وسيلة أعظم وأنجع في تعليم الفرد المؤمن كيفية بناء جهاز رقابة ذاتي يسمى (التقوى) فكان تشريع الصيام هو تلك الوسيلة التي تعين المؤمن على فعل ذلك، ففي حرمان الفرد نفسه بنفسه من الطعام والشراب والرفث إلى النساء ساعات محددة من اليوم لمدة شهر كامل لا يمكن لمخلوق أن يعلم بأن ذلك الشخص صائم أم لا سوى الشخص نفسه، فحقيقة الصيام وغايته هي تربية المؤمن وتعليمه كيف يبني رقابة ذاتية من نفسه على نفسه من دون رصد أو رقابة خارجية، وليس الغاية من تشريع الصيام ما يظنه معظم الناس إيقاظ شعور الأغنياء بما يعانيه الفقراء من جوع وحرمان، كلا، لم تكن قط هي غاية الصيام، فقد حسم الله الغاية الحقيقية من الصيام بقوله: (لعلكم تتقون)، ولم يقل لعل الأغنياء يشعرون بجوع وحرمان الفقراء.

هذه هي غاية الصيام الذي كتبه الله علينا كما كتبه على الذين من قبلنا لعلنا نرقى بأنفسنا إلى مصاف الأتقياء، والتقوى ليست كما يراها ويظنها البعض ضربا من الدروشة والتدين القشري أو انعزالا وهروبا من الحياة، وكذلك ليست بغضا للحياة وتجنبا لها، إنما التقوى نظام رقابي ذاتي رباني شامل ومنهج حياة متكامل لبناء الشخصية المؤمنة بناء سويا، يجعل ذلك البناء الرباني المنظم والممنهج من الفرد المؤمن _إن هو انتبه ووعى هذا_ مركزا للكون ومحورا للحياة لنفسه ولبني جنسه وللأشياء من حوله، تتكون لبنات هذا البناء من المسئولية الفردية ومكارم الأخلاق والرقي الإنساني والحضارة والبناء والإعمار والتقدم والعلم والعدل والقسط والرحمة والجدية والنظام، ذلك لأن مفهوم التقوى الحق هو حصن ووقاية للفرد المؤمن ضد الضعف والاستكانة والمهانة والإسفاف والاستخفاف والانحطاط والسقوط والتخلف والهدم والجهل والظلم والجور والقسوة والسخرية والفوضى.

فالتقوى ليست نزوة دينية فردية، وليست شهوة دينية شخصية، وليست سوقا للسلوك والمعتقدات الدينية، ينتقي منها الفرد ما يحلو له وقتما يشاء، ويترك ما لا يحلو له وقتما لا يشاء، إنما التقوى هي منهج تربوي نفسي رباني، ونظام حياة شامل، قام بإعداده الحق سبحانه، وقام بإنزاله للناس في شهر رمضان، فقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (185_ البقرة).

فشهر رمضان هو الشهر الذي اختاره الله لإنزال القرآن، القرآن الذي يعد منهجا تربويا إنسانيا كاملا مرسوما محددا متكاملا، بل وسراجا منيرا بينا واضحا لا لبس فيه ولا غموض ولا غشاوة، بل هدى بين واضح فارق يستطيع من خلاله الفرد المؤمن إذا التزم تعاليمه واهتدى بهديه أن يفرق بين الحق والباطل بين الطيب والخبيث بين الغث والثمين بين الهدى والضلال فقال تعالى: (أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ) فشهر القرآن هو شهر للهدى والفرقان، والمقصود بالفرقان أن يكون الإنسان بنفسه رقيب على نفسه، فالفرقان يخلق في المؤمن نظام رقابة ذاتي على ما يصدر منه وعلى ما يرد إليه، ويستطيع من خلاله أن يميز بين حقائق ومعادن الأشياء وبينها كيف يختار، لا أن يكون ألعوبة بيد الأشياء أو بيد غيره يفعلون به ما يشاءون، هذا هو الفرقان الذي جاء به القرآن الذي هو بينات من الهدى والفرقان، إذن فشهر رمضان هو شهر فرض فيه الصيام لعلة التقوى أي لعلة خلق حصن وجدار واقي للفرد المؤمن ليتخذه حصنا ووقاية لنفسه من نفسه، وحصنا ووقاية ممن حوله، ولن يتيسر ذلك الحصن وتلك الوقاية إلا بمنهج هادي بين واضح فارق، يستطيع ذلك المنهج أن يعد فردا مؤمنا تقيا حرا مسئولا، وليس الفرد المؤمن التقي كما نتخيله أنه هو الشخص الملتحي المرتدي للجلباب والعمامة والممسك بالمسبحة والذي يجلس طوال الوقت في المسجد رياء أو المكثر من تلاوة القرآن الكريم بلا وعي، كلا، ليس هذا بالمؤمن التقي، إنما المؤمن التقي هو المحصن ضد التدني والاستغلال والإسفاف والاستخفاف والسقوط والانحلال والانحطاط والتخلف والهدم والتخريب والجهل والظلم والجور والقسوة والسخرية والفوضى.

هذا هو شهر رمضان الذي كتب الله علينا فيه الصيام لخلق وتكوين أمة حية حرة مسئولة واعية من الأتقياء المحصنين ضد الغواية أو الإغواء، إلا أن الإعلام الآن حوَّل شهر رمضان من شعيرة وفريضة دينية ومن شهر لتربية النفس وتقويمها وتربية الناس وتقويمهم وزرع القيم الإنسانية الربانية في نفوسهم إلى موسم يتسابق فيه القائمون على الإعلام بكافة أنواعه إلى تسخيف وتسفيه وتسطيح وعي الناس وإخراجهم من دين الله أفواجا، هذا إن كانوا قد دخلوا فيه أصلاً.
(ستكون لنا وقفة مطولة مع ما وصل إليه الإعلام الرمضاني من انحطاط وسقوط عقب انتهاء الشهر الكريم).

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر_ أسيوط
موبايل/ 0164355385_ 002
إيميل: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أين هو الوضوح في القرآن؟
هارون محمد ( 2010 / 8 / 18 - 18:53 )
سؤال صغير، ماذا تقول عن الأخطاء الحسابية (المواريث) و الأخطاء الطبيعية (خلق العظام قبل الحم)؟


2 - انزال
حمورابي سعيد ( 2010 / 8 / 18 - 19:29 )
يا سيد نهرو...تقول ان في رمضان انزل القران .ولكننا نعلم ان سور القران كان محمد يتلوها على المسلمين بين فترة واخرى خلال اكثر من عشرين عاما .فكيف بستقيم الحدثان ؟


3 - لو كان من عند غير الله...
عبد المنطق ( 2010 / 8 / 19 - 00:29 )
-1
-وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ - عجيب تفسير هذه الجملة عند المفسرين! هناك من يقول المعني بها كبار السن و الحوامل الذين -لا- يطيقون الصيام، في هذه الحالة كيف سقطت -لا- من الآية ليكتمل المعنى؟ وآخرون يقولون بأن الصيام كان اختياريا وعلى من اختار عدم الصيام أن يطعم مسكينا، لكن الية 185 جاءت بفرض الصيام على كل من يطيقه! فكيف يرخص هذا الإلاه شيئا في آية و يمنعه في الآية التي تليها مباشرة؟
-2
لو كان الصيام للتقوى كما تفضلت سيدي لكان المسلمون أحسن حالا و أسمى أخلاقا لكن الواقع يبين العكس. فلم ينفعهم شهر رمضان في شيء مايزيد عن 1400 عام. التقوى أو سمو الأخلاق مسألة إرادة لتحسين نوعية العيش والاندماج في مجتمع معين, لاعلاقة للدين أو رمضان بها في شيء
مع خالص تحياتي

اخر الافلام

.. مشروع علم وتاريخ الحضارات للدكتور خزعل الماجدي : حوار معه كم


.. مبارك شعبى مصر.. بطريرك الأقباط الكاثوليك يترأس قداس عيد دخو




.. 70-Ali-Imran


.. 71-Ali-Imran




.. 72-Ali-Imran