الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين بين المادية الألمانية والمادية الإنجليزية -3

أنور نجم الدين

2010 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من كل ما سبق فإن ما وصلنا إليه هو أن المادية التاريخية ليست لها علاقة بالمادة إلا بالمعنى السلبي، فالمادية التاريخية تنتقد في الأساس المادية الساذجة التي تعيد مصدر المعارف البشرية إلى المادة، وإن المادة ليست أساس موضوع الماديين على الإطلاق، أو كما يقول ماركس:

"المادة وجود فعلي وواقعي، لكن في ذاتها فحسب، بصورة سرية؛ وحين (تصبح فعالة بانتشارها وتحققها في التعدد) (ان هذا (الوجود الفعلي والواقعي) (يتحقق) !!)، تصير عندئذ فقط طبيعة. أولا يوجد مفهوم المادة، الفكرة المجردة، التصور، الذي يتحقق فيما بعد في طبيعة واقعية. تلك هي، بصورة حرفية، النظرية الهيغلية عن الوجود المسبق للمقولات الخلاقة. ويصبح مفهوما من وجهة النظر هذه أيضا إنَّ القديس برونو يأخذ بصورة خاطئة الصِّيغ الفلسفية للماديين بشأن المادة على أنَّها اللب والمضمون الفعليان لنظرتهم عن العالم - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، ص 99".

وهكذا، فالمسألة لا تتعلق بالمادة، وحركتها، وسكونها، وإن مفهوم حركة المادة نفسها مفهوم تاريخي، وليس له علاقة أصلا بكيفية ما يسمى بتأثير المادة على الإحساس من خلال أعضاء الحواس: البصر، واللمس، والسمع، والتذوق، والشم! وإن هذه المادية تعود جذورها التاريخية إلى القرن السابع عشر، أي إلى المادية الميكانيكية، ولم تظهر المادية التاريخية إلا على أنقاضها. وإن المادية الألمانية مادية فيورباخ، هي نفس النظرة الميكانيكية التي لا تعكس لنا سوى عجز الألمان عن تقديم أي تصور مادي -أي واقعي- عن البشر ومصدر معارفه التاريخية، فالأمة الألمانية كما يقول ماركس، لم تكن سوى "أمة حالمة ومشوشة الذهن، نفس المرجع السابق، ص 19"، لذلك لم يقدم الألمان وفلاسفتها شيئا سوى الأوهام عن العالم.

والآن، وبعدما حددنا المقومات التاريخية لهذه المادية، وتناقضها مع مادية ماركس التاريخية، فلننتقل رأسًا إلى المادية الروسية التي نشأت أيضًا في أحشاء المادية الألمانية، المادية التي أصبحت أيديولوجية رسمية للدولة السوفيتية في فترة من التاريخ، وهذه المادية تسمى الفلسفة الماركسية، أي المادية الديالكتيكية. وإذا ما رجعنا إلى المادية الماركسية في مدرستها الروسية، فنرَى أن المؤسس الفعلي لهذه المادية، فهو بليخانوف، أعظم مفكر روسي للقرن العشرين، وهو يقول:

"ينبغي -رغم كل شيء- الإقرار بأن نظرية المعرفة الماركسية تنحدر بشكل مباشر من نظرية المعرفة الفيورباخية - بليخانوف، الماركسية، قضايا أساسية".

وهنا تنشأ فلسفة روسية جديدة من سماء الذهن الفلسفي الألماني المشوش من هرطقة فيورباخ، وديالكتيك هيغل، الذهن الذي لا يفهم العلاقة بين الفكر والبشر إلا من منظور أولوية المادة أم الوعي، أي إلا من منظور الدين؛ ففي هذه المادية ليس الوعي سوى انعكاس المادة، فالعالم الموضوعي الذي يعكسه ذهننا هو الطبيعة، وهي منشأ فكرنا، حسب الفلسفة الماركسية أيضًا؛ ففيورباخ يكمل سبينوزا، وماركس يكمل فيورباخ. هذه هي أطروحات الماركسيين الروس المادية عن مادية ماركس.
ولكن على عكس ذلك تمامًا، إن المادة أو الطبيعة لا تعكس لنا أسرارها إلا بصورة كاذبة، هكذا يقول ماركس، والبشر لا يمكنه اكتشاف أسرار الطبيعة -ونعني بهذه الأسرار القوانين المادية الفيزيائية فقط- إلا من خلال تطوره التاريخي، أي الاكتشافات العلمية بالتحديد، فالصناعة لا المادة المزعومة هي التي تقدم لنا وسائل فهم العالم، فالوعي البشري ليس المرآة الطبيعة، فتأملاتنا الفلسفية عن الطبيعة، وحتى انعكاسات المادة على دماغنا لا تضيف شيئا إلى وعينا عن القوانين المادية لهذه الطبيعة، أي مكوناتها الفيزيائية.

يقول ماركس: "ان فيورباخ يتحدث بصورة خاصة عن تصور علم الطبيعة. ويستحضر اسرارا لا تنكشف الا لعيون الفيزيائي والكيميائي: لكن أين يكون علم الطبيعة لولا التجارة والصناعة؛ وحتى هذا العلم الطبيعي الذي يسمى (صرفا)، أليست التجارة والصناعة، نشاط البشر المادي، هي التي تعين له هدفا وتزوده بالمواد؟ وهذا النشاط، هذا العمل،، هذا الخلق المادي المتواصل من جانب البشر، وباختصار هذا الإنتاج، هو أساس كل العالم الحسي كما هو موجود في أيامنا – كارل ماركس، نفس المرجع السابق، ص 36".

وهكذا، فعندما يصبح الوعي البشري تعبيرًا ذهنيًّا منسوبًا إلى المادة، الطبيعة، فلا يبقى شيء من الإنسان سوى الإحساسات، وإن امتلاك الوعي في هذه المادية يعني الإحساس بالمادة، أو استنساخها، أو تصورها، أو كما تقول المادية الماركسية الروسية في مدرستها اللينينية:

"إن المادة مقولة فلسفية تدل على الواقع الموضوعي المعطى للإنسان في إحساساته التي تنسخه، وتصوره، وتعكسه، بينما هو قائم بصورة مستقلة عن هذه الإحساسات - لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي، ص 121".

فهذا التضليل الفلسفي هو المادية لدى لينين، أما المادة لا تضيف شيئًا إلى الوعي البشري، والدماغ بوصفه خزان الوعي لا يكسب المعارف من المادة أو عن المادة، أي الطبيعة من خلال مفهوم مجرد يسمى المادة، بل من خلال التاريخ، وهذا هو تناقض ماركس مع هذه المادية الساذجة.

إن الفلسفة الماركسية -أي المادية الدِّياليكتيكية- تفصل بين الطبيعة والتَّاريخ، أي بين علاقات الإنسان الواقعية بالطبيعة من خلال مواضيعها الفلسفية، وهو المادة، وهي بهذه الطَّريقة تضع الطَّبيعة في التَّناقض مع التَّاريخ، والجسد مع الروح، والإنسان مع الله. وبهذا المعنى لم تنفصل المادية الدِّياليكتيكية عن فلسفة الطبيعة، فموضوعها إذا يختلف كل الاختلاف عن موضوع ماركس التاريخي، وإن تناقض هذه الفلسفة مع الواقع القائم هو نفس تناقض فلسفة الطبيعة، فالدين هو مشكلتها الأساسية، أو كما يقول ماركس:

"ومن هنا (أي في فلسفة الطَّبيعة) فإنَّ علاقة الإنسان بالطَّبيعة تنفى من التَّاريخ، الأمر الذي يترتب عليه التَّعارض بين الطَّبيعة والتَّاريخ، ونتيجة لذلك، فإنَّ أنصار هذا التَّصور للتَّاريخ لم يتمكنوا من أنْ يروا في التَّاريخ إلا الصِّراعات الدِّينية، ومختلف أنواع النِّضالات النَّظرية - كارل ماركس، نفس المرجع السابق".

وهكذا، فتربة مادية الماركسية هي فلسفة الطبيعة، لذلك فتضع هذه المادية عبارات الجوفاء محل التفسير المادي للطبيعة وتاريخها، فالفلسفة الماركسية لا تبحث القوانين المادية، أي الفيزيائية للطبيعة، بل تنحصر في العلاقة بين المادة والإحساسات البشرية، ولا تقترب هذه المادية حتى لمرة واحدة من المكونات الفيزيائية للأشياء؛ لأن الفيزياء لدى لينين، مثله مثل إنجلس نظرة ميتافيزيائية إلى العالم، فالفيزياء في مأزق بالنسبة لهم؛ لأنهم لا ينظرون إلى المادة من وجهة نظر الديالكتيك.

وهكذا، فتعيدنا الماركسية إلى التناقض الدائر بين فلسفة أفلاطون وفلسفة ديمقريطس للعهد القديم، والصراع الموجود بين الدين والعلم، وبين المؤمنين والملحدين في شكلها الفيورباخي الحديث.

يقول لينين: "هل يمكن للصراع القائم بين المثالية والمادية، الصراع بين اتجاهي أو خطَّي أفلاطون وديمقريطس في الفلسفة، والصراع بين الدين والعلم، والصراع بين إنكار الحقيقة الموضوعية والتسليم بها أن يشيخ خلال السنوات الألفين التي انقضت على تطور الفلسفة؟ لينين، نفس المرجع السابق".

و هنا يظهر لنا بصورة جلية أن نظرية المادية الماركسية تنحدر بالفعل من نظرية المادية الفيورباخية، كما يؤكد عليها بليخانوف، أعظم مفكر فلسفي روسي في عصره، وأن هذه المادية لا تبحث سوى الأفكار المجردة، وتعيد أساس الوعي إلى العلاقة بين الدماغ الإنساني والمادة (الطبيعة)، فحسب لينين:

"لا يمكن أن تشيخ مسألة معرفة فيما إذا كان البصر، واللمس، والسمع، والشم، هي ينبوع المعرفة البشرية - نفس المرجع، ص 122".

وهكذا، فعلى عكس ماركس تمامًا، إن الدماغ الإنساني لدى لينين، مرآة المادة (الطبيعة)، فمنبع المعرفة البشرية لدى لينين هو الإحساسات، هذه هي المادية لدى لينين. إذا، فمنشأ مادية لينين هو المادية الإغريقية القديمة المتمثلة في ديموقريطس، والمادية الميكانيكية لعصر سبينوزا، والمادية الألمانية المتمثلة في إحساسات مادية لفيورباخ.

وهكذا، فالمادية اللينينية هي انعكاس حاسة البصر (اللون، الضوء)، وحاسة اللمس (الدفء، البرودة، الألم)، وحاسة السمع (الصوت)، وحاسة التذوق (الأطعمة والشرب المختلفة)، وحاسة الشم (الروائح المختلفة). ولكن إلى أين نصل من خلال هذه المادية الساذجة؟ وهل ممكن انعكاس حالات تاريخية مختلفة إلى الوعي البشري من خلال اللون، والروائح، والدفء، والصوت؟

وهكذا، فالتربة التي نشأت عليها المادية الماركسية، هي نفس التربة التي تقف عليها المادية الميكانيكية لا مادية ماركس التاريخية، وهاتان الماديتان تتناقضان مع بعضهما البعض جذريًّا؛ فمنشأ مادية ماركس التاريخية، هو التاريخ، ولا تظهر هذه المادية إلا في وقت متأخر من التاريخ، أي إلا بعد ظهور أسلوب إنتاجي جديد، وراءه حركة السوق العالمية ورأسمالها الصناعي، وتجارتها الدولية، ومواصلاتها بكاملها، فتربة المادية الديالكتيكية هي المجتمع المدني الحديث، أما تربة المادية التاريخية فهي المجتمع البشري؛ لذلك فيناقض الأول -أي المادية الديالكتيكية- ما يناقضه المجتمع المدني؛ أي العصر ما قبل المدنية الحديثة -مدنية البرجوازية- فهو لذلك يبحث عناصر التقدم الاجتماعي في الفكر، ويصبح الدين لديه الإعاقة الأولى أمام هذا التقدم، لذلك فهو لا يبدأ النضال ضد الواقع القائم إلا من خلال النضال ضد الدين، فالمسألة الأساسية في المادية الديالكتيكية هي فكرة الأزليتين.
وما يميز بين المادية الألمانية والمادية الديالكتيكية هو أن هذه الأخيرة تعيد الحياة إلى الغموض الصوفي للفلسفة الهيغلية أيضًا، وهي بالأحرى تحاول إخضاع كل العلوم الطبيعية، والتاريخية، والاقتصادية لهرطقة فيورباخ وديالكتيك هيغل، فإن المادية هذه هي في الواقع صدى بعيد للصراع مع الفلسفة الدينية المختلفة التي نمت في عصر التنوير بالذات؛ لذلك أصبح الهدف في هذه المادية التحرر من سلطة الدين.

إن فكرة الأزليتين تتجه نحو السماء لا الأرض، وإن المادية الديالكتيكية التي تنتمي في الأساس إلى المادية الألمانية، تحاول أن تضعنا في التناقض مع السماء، فإن فكرة المادة وأزليتها، تعيدنا إلى الميتافيزياء لا إلى المادية بالمعنى الحديث، أي المادية التاريخية، فالنقطة التي تنطلق منها مادية ماركس هي التاريخ، وليست فكرة الأزليتين، فماركس يبحث تاريخ البشر، ومصدر معارفه، من وجهة نظر تطور الإنتاج، أي التطور الصناعي، لا الأزلية، فسؤال المادية التاريخية يعود إلى الأرض لا السماء، لذلك، على عكس المادية الألمانية تماماَ، تبحث المادية التاريخية الواقع البشري لا طبيعة (الإنسان)، فالدين هو الذي يبدأ من طبيعة الإنسان، فالإنسان بوصفه ابن الرب أخو الآخرين، وذو طبيعة واحدة ووعي واحد في كل العصور. وهذه هي بالتحديد نقطة انطلاق مادية فيورباخ.

يقول ماركس: "يحل فيورباخ الماهية الدينية في الماهية الإنسانية. لكن ماهية الإنسان ليست تجريدا لاصقا بكل فرد على حدة، بل هي في واقعها جماع العلاقات الاجتماعية .. وبنتيجة ذلك لا يرى فيورباخ ان (الروح الديني) هو نتاج اجتماعي، وان الفرد المجرد الذي يحلله ينتمي في واقع الأمر الى شكل اجتماعي معين".

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النموذج الأولي لأودي -إي ترون جي تي- تحت المجهر | عالم السرع


.. صانعة المحتوى إيمان صبحي: أنا استخدم قناتي للتوعية الاجتماعي




.. #متداول ..للحظة فقدان سائقة السيطرة على شاحنة بعد نشر لقطات


.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال الإسرائيلي تكثف غاراتها على مخي




.. -راحوا الغوالي يما-.. أم مصابة تودع نجليها الشهيدين في قطاع