الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة وحل مشكلات مصر المحروسة

مهدي بندق

2010 / 8 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة وحل مشكلات مصر المحروسة
مهدي بندق

في فيلم الفهد للمخرج الإيطالي العظيم " فيسكونتي " يقول الأمير سالينا المناهض لطبقته الإقطاعية " إن أهل صقلية هالكون ، لأنهم ناموا طويلا ً فاستلذوا النوم ، لدرجة أنهم صاروا مستعدين لتمزيق من يحاول إيقاظهم ، فهم في نومهم هذا يحلمون بأنهم كاملو الأوصاف ، فكيف بمن يعتقد في نفسه الكمال أن يطلب التغيير؟ "
والمغزى أن من يحجم عن ممارسة النقد الذاتي لابد هالك ، حتى لو ملأ الدنيا صراخاً بالضد على فساد نظام سياسي معين أو نخبة حاكمة بعينها ، فاتهام الآخرين وحدهم إنما يخبئ في الجيب صك تبرئة الذات .
في بلادنا لا يمكن لأحد أن يعد بريئاً مما صارت إليه الأمور من سوء وضر ، وهل يجادل عاقل في أن الهيمنة الأمريكية والتوحش الإسرائيلي ما كانا ليؤتيا ثمارهما( الحلوة لهما ، والمرة لنا ) لولا تجذر ثقافة الإذعان في العقل الجمعي .. تلك الثقافة التي تمثل الوجه الآخر لوهم الكمال الذي يعيشه جميع الأفراد مع أنفسهم ، بحيث يتأبون على نقد أفكارهم الموروثة ، وممارساتهم العملية المكررة ؟
لقد بقي العقل العربي نائماً، يحلم بما رآه وعايشه في نهار النهضة ( المنقضي من قرون ) حين كانت الأمة سيدة العالم ، حين كانت قادرة على أن تستخلص من أزماتها طاقات دفع جديدة ؛ مثلاً تشتعل الفتنة الكبرى فينشأ علم الكلام وعلم أصول الفقه ، وتنقسم الخلافة الواحدة إلى خلافات ثلاث فتظهر الفلسفة توحد ما فرقته السياسة ، وما كان لتعدد الفرق الدينية والمذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية بمانع أحداً من الشعور بأنه يعيش بين حضارة واحدة . وما كان لمصر بالذات ، تلك التي نسجت رداءها الثقافي من وداعة أخلاق الفراعنة، وبهاء التفلسف الإغريقي، ومنظومات الرومان القانونية إلا أن تقبل الإسلام، تأخذ منه ديانة التوحيد وفصاحة اللسان العربي، وتعطيه فنون العمارة والطب والرياضيات.
نهضة الغرب
غير أن القرون ما لبثت حتى أقبلت على مصر (والعرب) بليل " عثمانيّ " مظلم طويل، تلاشت به عقلانية المعتزلة لحساب الجمود الأشعري/ الحنبلي ، وفي دياجيره استقر تكفير الفلاسفة على يد الغزالي، فأصيبت العلوم الطبيعية بالشلل الرعاش، ووئدت في مهدها العلوم الإنسانية ، حتى تعملق الجهل وتربعت الخرافة على عرش الألباب.
في ذلك الوقت بدأ الغرب رحلته مع النهضة عبر طاقة البخار والكشوف الجغرافية ، ومن رحم الثورة الصناعية ولدت الرأسمالية وتوأمها الاستعمار، فكان تراكم الثروات المنهوبة حافزاً لتطوير وسائل وأنماط الإنتاج على غير مثال سابق ، ما سمح للعقل الغربي بحرية الاختراع والابتكار ليس فحسب في مناحي الحياة المادية ، بل وأيضا ً في ميادين المعرفة: الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والأيديولوجيات الإنسانية لا الكهنوتية ، وواكب ذلك حركات إصلاح ديني وثورات سياسية وتفتحات اجتماعية على عالم جديد يؤمن بحق الشعوب في حرية الاعتقاد، والتفكير والتعبير والتنظيم واختيار الحكام ومحاسبتهم وتبديلهم كل فترة محددة .
إن نظرة سريعة على مسيرة الغرب منذ بدأ نهضته هذه، لتكشف لنا عن مقدار الثراء المادي والمعرفي المتراكم ، والمستثمر في حياته العقلية ، والذي بدونه ما كانت لتسود حضارته الحالية العالم المعاصر ؛ فمن فرنسيس بيكون واكتشافه قانون السببية ، ومن معاصره هوبز مؤسس الفلسفة التجريبية ، إلى الفلسفة العقلية عند ديكارت وسبينوزا وليبنتز ، إلى نقدية كانط .. ومن اكتمال الفلسفة الكلاسيكية على يد هيجل يتوج بها رأس الدولة الحديثة ، إلى فلسفة ماركس الثورية التي سعت لتحطيم الدولة البورجوازية بغرض أن تحل محلها دولة " مؤقتة " هي دولة البروليتاريا، تمهيداً لإلغاء نظام الدولة برمته بحسبانها سبب اغتراب البشر وممحاة حرياتهم.
من هنا يتبين أن الفلسفة ، أيا كان اسمهما أو توجهها ، إنما هي فعل إنساني له دور مؤكد في إمداد البشر بخلاصة التأمل الحكيم الكاشف عن قوانين الحركة في العلوم الطبيعية ومسيرة التاريخ وشروط المعرفة وهياكل الاقتصاد ، ولكن لولا النقد الذاتي ما تقدم التأمل الفلسفي خطوة واحدة .. خذ مثلا استبراء فلاسفة الغرب من المفكر الياباني الأمريكي " فرنسيس فوكوياما" ، القائل بانتهاء التاريخ بعد سقوط الأنظمة الشيوعية متوهماً ديمومة الرأسمالية ، وهم بذلك يعترفون بأن الماركسية ستظل موجودة على المسرح العالمي ما بقيت معضلة التناقض بين رأس المال والعمل المأجور، دون أن يغيب عنهم أن ثمة خللا ً في فلسفة الماركسية أساسه كونها بنية ً Structure قائمة على وعي طبقي مجرد (برهن ماكس فيبر على تهافته ) وعي يخلو من عنصر الذاتية ، فيعبر عنه الحزب الشيوعي لا الأفراد!
في هذا السياق النقد/ذاتي حاول سارتر تصحيح الخطأ بطرح فلسفته الوجودية التي تؤكد على حرية الفرد وقدرته على إبداع مصيره بعيدا ً عن دوجمائية الحزب وسوء فهمه لغايات الفلسفة التي تنشد التحرير، وبالمقابل تقدم الفيلسوف الفرنسي لوي آلتوسير (ت 1990) بمحاولة لإنقاذ ماركس من نفسه ! بغرض نقل المادية التاريخية من الوضع الأيديولوجي، إلى مرحلة تتأسس فيها بهيئة علم اجتماعي لا غش فيه .
فإذا أضفنا إلى ذلك جهود ميشيل فوكوه بكشفه داخل المقال Discourse – أيّ مقال – عن علاقات السلطة وآلياتها ؛ لأدركنا أن في هذا الكشف تحريراً تتضاءل بجانبه كل المحاولات السياسية الرامية للخلاص من هذا الطاغية أو ذاك . كيف ؟ لأن الفرد إذا أدرك التناقض في خطاب السلطة تحرر عقله مما دس فيه من " برامج " التسليم بما يقال له عبر الأسرة والمدرسة ودور العبادة والميديا والحزب وغيرها من مؤسسات الإملاء Dictation؛ ومن المنطقي أن هذا التحرير لو تواتر بين الأفراد لمؤدٍ إلى استقالة الطغاة من حكم شعب كهذا ابتداء ً.

فأين نحن من هذا النموذج الفلسفي؟
مازالت تشغلنا قضايا الجبر والاختيار، الوحدانية والصفات ، جدال المعتزلة والأشاعرة ، تكفير الغزالي للكندي والفارابي وابن سينا ، واحتجاج ابن رشد ضداً على الغزالي، مرجعياتنا ابن تيمية وابن القيم الجوزية ، وآليتنا الفكرية تتراوح بين طلب الإجماع من ناحية وبين قياس الغائب على الشاهد من أخرى، وأما الذين اعتنوا بالشأن الفلسفي المعاصر في قرننا الفائت فهم إما مؤرخو فلسفة مثل يوسف كرم وتوفيق الطويل وعلي سامي النشار، وإما شرّاح لمذاهبها مثل أحمد فؤاد الأهواني وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي. وفي ظل هذا المناخ الفلسفي الاتباعيّ يظل العقل الجمعي المصري مشيحاً بوجهه عن مبدأ السببية نظرياً ، وإن ارتكن عليه أحياناً في بعض المعاملات ذات النفع الخاص ، مثال ذلك القصة المشهورة لرجل الدين المحترف الذي أفتى لرجل بال كلب على جدار بيته : يهدم ويبني من جديد ليتخلص من النجاسة ! لكنه حين علم بأن الجدار يفصل بين منزله ومنزل طالب الفتوى عاد ليقول : قليل من الماء يطهره !
بيد أن الأمل يظل معقوداً على متفلسفين جادين كإمام عبد الفتاح إمام وحسن حنفي وعاطف العراقي وعبد المنعم الحفني ، ويمنى طريف الخولي وعلي مبروك وماهر عبد القادر وأشرف منصور مثالاً لا حصراً، شريطة أن يعبروا حقول الألغام الفكرية الموروثة ، مرتكزين على وعيهم بعلوم العصر ومناهجه المعرفية الحداثية لإبداع فلسفة تعبر عن واقعنا المصري ، بمثل ما ارتكز الأمريكيون على واقع بلادهم " الرأسمالي" منتجين لمواطنيهم فلسفة البرجماتية ، وبمثل ما فعل الأوربيون المعاصرون الذين أبدعوا الظاهراتية والوجودية ، وبقدر ما اعتمد ماركس وانجلز على حالة الصراع الطبقي المحتدمة في القرن التاسع عشر ليؤسسا فلسفة الاشتراكية.
إن الواقع المصري اليوم وهو يناضل للخروج من حالة الحصار الحالي ؛ ليناشد هؤلاء النفر المشتغلين بالفلسفة، وقد هضموا بحوث اللغة وعلاقتها بالمخ البشري كيميائياً، والعقل الإلكتروني كهربائياً وما بين الاثنين من علاقات تداخل وتكامل عبر ثورة المعلومات وفلسفة المعرفة ؛ أن يقتحموا فضاء الإبداع الفلسفي ذاته ليعودوا إلى مواطنيهم بالحلول الحقيقية لمشكلاتهم الفكرية ( وفي مقدمتها الإغراق في النوم الماضوي ) تلك المشكلات التي ترسخ واقعهم البائس وتضاعف من معاناتهم على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دون أدنى شك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفلسفة أم العلوم
حمودة فهمي- مدرس فلسفة ( 2010 / 8 / 23 - 17:54 )
تمتعت بقراءة هذا المقال لأستاذي الدكتور مهدي ، فقد وضع يده على مصدر الداء وشخصه واقترح الدواء الناجع.. فعلا لابد من تغيير الفلسفة التي نتبناها كشعب درج على قبول ما يملى عليه ، ولكني أشك في ان تستجيب الدولة لمقترحاته النبيلة خصوصا طلبه أن يدرس علم المعرفة ( الأبستولوجيا) على الطلاب ، فالدولة في مصر رهينة في أيدي عصابة لصوص لا هم لها سوى نهب الثروة ومسح عقول الناس. لكني متأكد أن كل هذا سينتهي قريبا وسيأتي من ينصت لكلام الدكتور مهدي وعمل به . فقط علينا نحن المشتغلين بالفلسفة أن نرفع أصواتنا بالتأييد لمقترحاته والله الموفق


2 - الفلسفة التي نريدها
علي عبد العزيز ( 2010 / 8 / 24 - 22:20 )
مقال هائل ، وتحليل عميق مثل كل ما يكتبه أستاذنا مهدي بندق ، ولكن كان يسعدني لو أن المقال تطرق إلى تفاصيل حياتنا المندرجة تحت فلسفة الإذعان المشار إليها في المتن . وعلى كل حال لابد من توجيه الشكر للكاتب الكبير ولموقع الحوار المتمن الذي يجود علينا بهذه الدراسات والمقالات القيمة


3 - الفلسفة ضرورة حياة
محمد سمير عبد السلام ( 2010 / 8 / 25 - 07:23 )
د مهدي بندق
المقال جميل و مكثف في رصده للأزمة ، و أهمية التحديث العقلاني
أو الذاتي ، أو الإنساني للمجتمع
و قد ذكرني المقال بثناء نيتشه على الحضارةاليونانية
لأن وجود الفيلسوف فيها كان مشروعا
لابد أن يعترف المجموع بدور العقل ، و الحياة الفردية بأي نسبة
خاصة أن القيم الرافضة لهما شكلية و لا تنتمي
إلى جوهر النصوص المقدسة جميعا
و هي مليئة بالإحالات العقلية ، و البلاغية
كما أن جوهر التحديث الذي يكمن في الفرد
قد تجاوز عند الغرب تكبيله بقيود مثالية
و من هنا ظهرت النسبية في السلوك
و قد فطن كامو إلى ذلك في نهاية كتاب الإنسان المتمرد
تحياتي و محبتي دائما


4 - مقال تزهو به الفلاسفة
مصطفى فهمي ( 2010 / 8 / 25 - 16:50 )
لو كنت مكان المشتغلين بالفلسفة في مصر وعلى رأسهم الدكتور حسن حنفي لزهوت بهذا المقال المحرض على العمل بكل جدية من أجل إبداع فلسفة حديثة تغير من مسار التفكير عند الشعب ، خاصة في هذه المرحلة التي تشهد بداية التمرد على قوى الهيمنة والسيطرة ماديا وفكريا
بارك الله فيك با دكتور مهدى ، وليتك تواصل جهودك في هذا المضمار


5 - جهد رائع ودعوة نبيلة للتفلسف المنتج
فتحي فرج ( 2010 / 8 / 25 - 21:52 )
تحية وتقدير لهذا الجهد الرائع يا أستاذ مهدي
لقد استطعت توظيف قدراتك وقراءاتك في مجالات العلوم والفلسفة لتغوص مابين التنظير والواقع ، وتستخلص نتائج يجب أن يبادر مفكرو مصر في العمل بها.
بقدر عال من الدقة والوضوح ، بطريقة السهل المتتنع أستطعت أن تصيغ عبارات محملة بالوضوح والمعاني العميقة
شكرا لك واكرر تحياتي وتقديري لجهدك العظيم


6 - فهمت الفلسفة
مديحة ابراهيم ( 2010 / 8 / 27 - 11:26 )
بصراحة أنا كنت داءما أقول ما فائدة الفلسفة . وبعد قراءتي لهذا المقال استطيع القول اني فهمت الفلسفة وعرفت دورها في حل مشاكل المجتمع شكرا للدكتور مهدي بندق وللأخوة أصحاب التعليقات

اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -