الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولات رهبنة الإسلام على يد دعاة الفضائيات الدينية

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2010 / 8 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الرهبنة عمل يبدأ بشعور الإنسان المتدين بالخوف من الله، ما يجعله يأوي إلى الانعزال عن الحياة الدنيا ومفارقة شتى مظاهرها خوفا من اقتراف الخطايا والوقوع في معاصيه، ومتى انعزل الإنسان المتدين عن الدنيا يوهم نفسه بأن وجدانه قد امتلأ بالحب الإلهي وأنه في معية الله وقربه فلا حاجة له بشيء من الدنيا ولا يعوزه أحد فيها، فيترك كل شيء وراءه من شئونه وشئون ذويه، ويخدع نفسه بأنه قد وجد الراحة في قربه من الله وبغضه للحياة الدنيا.

ومن مظاهر هذه الرهبنة أن كثيرا من المتدينين يضعون لها طقوسا تعبدية ودينية معينة كالعكوف على تلاوة الكتب المقدسة وتحديد أجزاء كبيرة منها لتلاوتها كل يوم، وكذلك إلزام أنفسهم بقضاء ساعات النهار والليل في عدد من الصلوات والعبادات والنسك وكثرة الصيام والتبتل والانقطاع عن ملاذ الحياة الدنيا وشهواتها.

إن إلزام النفس بالعكوف على ملازمة الطقوس التعبدية والنسك والشعائر الدينية كل يوم وكل ليلة لقضاء أيام العمر وساعاته مع الشعور بالعزلة والنزوع نحو مجاورة الله كهدف يرى فيه المتدين سمو نفسه وتطهرها لهو الرهبنة بعينها سواء التزم بهذا المسلم أو غير المسلم وسواء اعترض البعض على التسمية أو حاول وضع مسميات أخرى كالزهد في الدنيا للتحايل على المضمون، والخطر الأكبر ليس في المسمى ولا في كثرة العبادة ولا في كمها ولا كيفها، إنما الخطر الأكبر والحقيقي يكمن في الدافع القابع خلف هذا الفكر الرهباني المميت للحياة في نفوس الناس، إنه فكر يقوم على كره الحياة والتحريض على اعتزالها وانعزالها شعوريا وفعليا، واعتبار الحياة بكل مظاهرها عبارة عن مجموعة من الشرور والآثام والفساد، ولا يخفى على أحد مدى انعكاس ذلك الفكر السام على سير حركة الحياة واستمرارها والقيام بمتطلباتها وواجباتها ومواجهة صعابها، فالرهبنة أو الزهد في الدنيا هو عملية هروب من الحياة ترتدي ثوب التدين والإيمان بالله كي يعفي المتدين نفسه من مسئولياته الحياتية مخادعا نفسه بأنه يبحث عن حياة أفضل مع الله، وهو لا يدرك أن ما قام به من عمل هو الجبن بعينه والأنانية بذاتها وهو العمل الذي لا يمكن أن يرضى الله عنه ولا عن فاعله.

هذا الفكر الانعزالي المزدري للحياة والكاره لها هو ما يقوم ببثه الإعلام الديني اليوم في أفكار الناس عبر شاشات القنوات الفضائية الدينية، هذا الفكر جاء نتيجة للفهم الخاطئ لكثير من النصوص الدينية التي تندد بإيثار بعض الناس حب الحياة وحب شهواتها والاغترار بمباهجها وزينتها وأموالها والاطمئنان بها، من هذه النصوص ما يلي:

(وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ) (185_ آل عمران). ومنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) (94_ النساء). ومنها: (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (32_ الأنعام). ومنها: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) (70_ الأنعام). ومنها: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) (51_ الأعراف). ومنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (38_ التوبة). ومنها: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (8_ يونس). ومنها: (مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (16_ هود).


فمن هذه النصوص وغيرها ظن كثير من فقهاء الدين ودعاته أن هذه النصوص تحرض على النفور من الدنيا وعلى اجتناب التعايش فيها وعلى التعالي على كل مظاهرها والنظر إلى كل ما فيها بعلو وازدراء واحتقار، لكن لم تكن أبدا تلك هي مقاصد الدين ولا أي من نصوصه، فالدين حينما نص على التعالي على الحياة وزينتها وحين حذر منها وحرض على اجتنابها والعزوف عنها كان يقصد من وراء ذلك التخلي عن كل المظاهر الدنيوية التي تجعل الإنسان يقصر أو يتراجع أو يتخاذل في أداء واجباته الحياتية التي كلفه الله بأدائها وتحقيقها، كقيامه بالحق والعدل والقسط بين الناس ونصرة المظلوم ومواجهة الظالم وردعه ومنعه من ظلم الناس، وكذلك إعمار الأرض ونشر الخير والمعروف بين بني جنسه، وكذلك البعد عن كل الصفات المذمومة التي تفسد العلاقة بين الفرد والمجتمع كالبخل والشح والأثرة والطمع وغيرها من الصفات التي نهى الله عنها وحذر منها وشنع على من اتصف بواحدة منها، دون أدنى قصد إلى انعزال الدنيا أو بغضها أو اجتنابها وتركها.

وكذلك ما قصدت إليه النصوص الدينية من تحذير من الدنيا وعدم الاغترار بها أو الإقبال عليها كان بسبب المقايضة الجائرة التي تجعل الإنسان ينحرف عن الحق إلى الباطل، وعن العدل إلى الظلم، وعن الحرية إلى الاستبداد والقهر، وعن العطاء إلى الشح والبخل، تحت ضغط مغريات الحياة واستدراجها للإنسان في مقابل تنازله عن مبادئه وقيمه ومثله العليا التي خلقه الله من أجل تحقيقها في الأرض ونشرها بين الناس والدعوة إليها، فمظاهر الحياة الدنيا ليست منبوذة لذاتها ولا مكروهة لذاتها، إنما المكروه لذاته هو ضعف الإنسان وتخاذله وتقاعسه عن مواجهة الشرور ومواجهة الفساد، والمكروه لذاته كذلك هو ضعف الإنسان وتخاذله وتراجعه حين تعرض عليه مغريات الحياة الدنيا فيستسلم ويبيع نفسه لها ويتنازل من أجلها عن مهامه السامية وقيمه العليا، هذا هو المقصود الفعلي والحقيقي للنصوص الدينية التي تحذر من الحياة الدنيا وزينتها وغرورها، وكذلك ليس مقصود النصوص الدينية أن يعتزل الإنسان المتدين الحياة وينعزل ويتقوقع داخل ذاته هربا وخوفا من الدنيا أن تجرجره إليها، بل عليه أن يواجه شرور الحياة ويقاوم مغرياتها وزينتها وبريقها ويتعالى على كل ذلك في قوة واقتدار ومواجهة وصمود، وليس أن يهرب ويتخفى ويؤثر السلامة، فهروب الإنسان من الحياة إلى الزهد أو الرهبنة هو هروب من الله وهروب من القيام بتكاليفه ومهامه التي أوكل الله إليه القيام بها وتحقيقها واقعا عمليا على الأرض.

فالخطير والمفزع فيما يبثه الإعلام الديني الآن من محاولات لرهبنة الإسلام هو تعبئة وعي الجماهير وتعبئة قناعاتهم بأفكار تدعو للرهبنة والزهد في الدنيا والانقطاع عنها للعبادة وتحقيق التقوى، وفي الوقت ذاته الجماهير غير قادرة على اعتزال الحياة والانقطاع عنها والهروب منها لظروف عيشهم القاسية التي تحول بينهم وبين تحقيق ذلك، فينعكس ذلك سلبا على سلوكياتهم أثناء انخراطهم في الحياة فيجعلهم يعاملون بعضهم بعضا ببؤس وازدراء وبغض وتنابز، وينظرون إلى كل شيء بعين الريبة والتوجس والاتهام، ويفقدون الثقة في كل شيء ويسخرون من كل شيء، وكل من حولهم متهمون لأنهم يرونهم منغمسون في الحياة الدنيا ومتطلباتها، ومن ثم تفتيت طاقاتهم وبعثرة اهتماماتهم وتحويلهم إلى وقود للمشاحنات والعداوة والبغضاء بين بعضهم البعض، وهذه هي النتيجة الحتمية والإفراز الطبيعي لما يبثه الإعلام الديني في وعي الناس من تحريض على بغض الحياة وانعزالها بدعوى الخوف من الله، أو بدعوى حب الله والقرب منه.

نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر_ أسيوط
موبايل/ 0164355385_ 002
إيميل: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الدعوه حسب الموقف ... القيادى
حكيم العارف ( 2010 / 8 / 30 - 04:49 )
الرئاسه تفرض شد الحزام على المواطنين ...
وربما تستخدم الدين الاسلامى لدعم هذا الاتجاه ...
وبما ان الحكومه هى التى تطعم الشيوخ ...

فلابديل لاتباع الحكومه لانها فى هذه الحاله اولى الامر منكم ....

ده حتى كثر الاكل بيجيب ضعف جنسى ... هاهاها

والامتناع عن الاكل حسب التقليد الرهبانى هو الاتجاه الصحيح لفرض الجوع على الجميع ... طواعيا للدين بدلا من فرضه بالاجبار

والكبار يلهطوا على طول ...


2 - الرهبنة محاولة مقصودة من قبل النظام
سحر صلاح ( 2010 / 8 / 31 - 19:55 )
الأستاذ نهرو
انا معك تماما في أن ما تنشره وسائل الإعلام الديني يدعو إلى الرهبنة والزهد والابتعاد عن الحياة العامة بكل ما فيها ، واعتقد أن كل ذلك أمر مدروس جيدا بل هو أمر مقصود من جانب السلطة السياسية في محاولة لإلهاء الناس عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكائنة في المجتمع، محاولة لصرف اهتمامهم بالدين والزهد والرهبنة لكي نترك لهم الساحة خالية لكي يفعلوا ما يريدون دون ان يسألهم أحد

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | عمليات نوعية وغير مسبوقة للمقاومة الإسلامية في


.. «توأم الروح والتفوق» ظاهرة مشرقة بخريجي 2024




.. تغطية خاصة | إيهود باراك: في ظل قيادة نتنياهو نحن أقرب إلى ا


.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان ترفع مستوى الإسناد




.. لماذا تخشى الكنيسة الكاثوليكية الذكاء الاصطناعي؟