الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وفجأة ظهر الشبح وكأنه القمر

نضال فاضل كاني

2010 / 8 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


اقتباس :
« لا تكتسب قيمة فائقة في حقل العلوم سوى النتائج المفاجئة » .
الكسندر بايكوف

نحن ننشأ في بيئة تحاول أن تزرع فينا منذ نعومة أظافرنا ، أن الباب الوحيد للمعرفة هو المناهج الأكاديمية التي وضعها لنا رجال الدين أو المفسرين أو اللغويين أو ما إلى ذلك حسب اختصاص العلوم ..
في عالمنا الفكري ، لا علم ولا تعلم إلا من خلال هذه المنظومة الصارمة .. حيث الضوابط والشروط والقواعد والأصول والتي لا محيص لطالب العلم من أن يسير على سكتها شاء ذلك أم أبى ، استجابت لها روحه أم رفضتها .. ومن هو ليناقش هذه المبادئ التي تعارف عليها علماؤنا وأساتذتنا .. ؟
في هذا الفضاء الذي ترسم حوله هالة تصل إلى حد التقديس غير المباشر أو غير المعلن ليس لك إلا احد طريقين لا ثالث لهما ، بل الويل لك إن تجرأت وفكرت في الطريق الثالث مهما كان ذلك الطريق ..
أما الطريق الأول فهو أن لا تخالف القواعد قيد أنملة ، لك أن تفكر ولكن ضمن الإطار المرسوم لك سلفا من قبل المختصون الأجلاء .
وأما الطريق الثاني فهو أن تترك هذا الباب جملة وتفصيلا وتذهب لتفتح لك حانوتا ترتزق منه أنت وعيالك ، أو تدخل إحدى دوامات الحياة وما أكثرها في مجتمعاتنا .
ما دمت تسلك أحد هذين السبيلين فأنت آمن على عقلك ودينك ووطنك ، وإلا - وآه من إلا هذه وأي آه – فإنك ستعرض نفسك لخطر هدر كيانك الفكري أو العلمي .
وفي التاريخ نماذج عديدة وكثيرة تتحدث عمن تجرءوا فخاطروا في اختيار طريق ثالث خاص بهم فأصبحوا بلا أوراق ولا أوطان .. على سبيل المثال قديما ألقيت كتب الفيلسوف المسلم العربي ابن رشد وأسفاره في المحرقة لتلتهمها النيران ، وحديثا سحبت الشهادة العلمية من الدكتور الأكاديمي المتخصص في فقه اللغة العربية نصر حامد أبو زيد ونفي من وطنه وحكم عليه بالردة وأمر بالتفريق بينه وبين زوجته ، لأنه تجرأ ووضع أطروحة في ( نقد العقل الديني ) .
في عام 1925 م ألف الشيخ علي عبد الرزاق كتابا اسماه ( الإسلام وأصول الحكم ) ، فسحبت منه شهادته العالمية .
وفي عام 1926 ألف ( طه حسين ) كتابه المثير للجدل ( في الشعر الجاهلي ) وعمل فيه بمبدأ ديكارت وخلص في استنتاجاته وتحليلاته أن الشعر الجاهلي منحول ، وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين . فتصدى له العديد من علماء الفلسفة واللغة ومنهم : مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين ومحمد لطفي جمعة والشيخ محمد الخضري وغيرهم . كما قاضى عدد من علماء الأزهر طه حسين ، فعدل اسم كتابه إلى ( في الأدب الجاهلي ) وحذف منه المقاطع الأربعة التي أخذت عليه .
( فرج فودة ) كان الثمن الذي دفعه مقابل خروجه على المسار التقليدي هو التكفير والحكم بالقتل ، وفي عام 1992 م اغتيل بالفعل حين كان يهم بالخروج من مكتبه بشارع ( اسما فهمي ) بمدينة نصر إحدى ضواحي القاهرة بصحبة ابنه الأصغر وأحد أصدقاءه الساعة السادسة و 45 دقيقة .
والأغرب من ذلك كله الحوار الذي دار مع القاتل في المحكمة ونصه كما نشرته جريدة الاتحاد المصرية :
- لماذا اغتلت فرج فودة ؟
- القاتل : لأنه كافر.
- ومن أي من كتبه عرفت أنه كافر ؟
- القاتل : أنا لم أقرأ كتبه.
- كيف ؟
- القاتل :أنا لا أقرأ ولا أكتب
إنه لخيار صعب ، وصعب جدا في عالمنا أن تحاول التفكير خارج الصندوق ، ولكن ماذا يفعل من لم يخلق إلا لهذا .. ؟
أظن أن لا خيار أمامه إلا الطريق الثالثة ومفاجئاتها السارة حينا وغير السارة أحيانا كثيرة .
من المصادر المعرفية المستبعد الاعتراف بها في الأوساط التي أشرت لها ما يسميه الصوفية ( الإلهام ) ويسميه المفكرون ( الوثوب الذهني ) ويسميه المهتمون بالعلوم الميتافيزيقا ( الاستبصار ) ويسميه الفلاسفة وعلماء الطبيعة ( الحدس ) .. الخ ، وذلك لأنها تخترق تلك المنظومة الكلاسيكية جملة وتفصيلا ، فلا تستند إلى أي أساس من أسسها ولا ترجع إلى ضابط من ضوابطها ، ليس لأنها تنكرها بل لأنها لا تحتاج إليها في إيصال المعلومة لطالبها سواء أكان أديبا أو فيلسوفا أو عالما أو باحثا عن العلم في أي مجالا من مجالات الحياة ..
المعلومة في هذا الإطار تفرض نفسها على من يحتاج إليها بلا سابق إنذار أو انتظار ، ومهما تحقق منها من يحصل عليها بجميع الوسائل المنهجية التي يعرفها فإنه سيجدها صحيحة ومتفوقة على واقعها ، على الأقل مرحليا ، أي في مرحلة معينة من مراحل الرقي العلمي الإنساني .
فلنستمع لبعض ما ذكر في شأن هذا العلم والذي يغلب عليه تسمية ( الحدس ) ولنتأمل مواقف الأكابر بشأنه :
كتب المبدع ( فؤاد التكرلي ) عن تجربته الحدسية في العمل الروائي حيث قال : « كنت قبل سنة 1950 م أحاول أن أهتدي بمقولات نظرية واضحة تقودني إلى كتابة أقصوصة عراقية ناجحة على المستوى الفني ، وكنت أقرأ الكثير من الأقاصيص العربية والمترجمة ، وأتأمل في المكونات الصياغية لتلك الأقاصيص ، ولم أخرج من تلك القراءات القصصية بنتائج محددة ، ولكني اكتسبت حدساً فنياً بما هو جيد وما هو رديء . كانت لديَّ افتراضات كثيرة عن اللغة والشكل الفني ونوعية المادة الخام والحوار والدلالة العامة للأقصوصة ، وكانت كلها افتراضات مائعة ومختلطة بحيث وجدتني في حيرة أتساءل عن كيفية الاستفادة من هذا الخليط الغامض من الأفكار ، وكان الحل الحاسم ( هو الشروع ) في الكتابة .. كتابة الأقصوصة التي تضع على الورق ما يحتشد به ذهني من تفاصيل وافتراضات وهواجس ولقد حدث لي هذا الحادث ( الحدس ) المنتظر من دون مقدمات في شهر ديسمبر سنة (1950 م فكتبت أقصوصتي الحقيقية الأولى وكان اسمها (العيون الخضر) استطعت أن أعزل نفسي عن العالم وأن أنجز كتابة ذلك العمل ».
يعلق المفكر المعروف ( البليهي ) قائلا : إن المبدع لم يتعجل قطف الثمار ، وإنما أطال الصبر والانتظار حتى نضجت ، لقد هيأ نفسه على مهل وبنى قدرته بروية ، واستعان بكل ما يمكن الاستعانة به من النظريات وأشكال الأداء ، وأعطى كل ذلك مدة كافية للتفاعل والاختمار ، وفجأة أدرك أن الشكل الإبداعي يتخلق ببطء أثناء الأداء وتتحدد عناصره بالتنفيذ . فأهَّلَته هذه الخبرة الأولية لكتابة روايته الأولى ( الوجه الآخر) التي أنضجَت تجربته ورسخَت ثقته بنفسه ، فأنجز عمله الروائي الآخر ( الرجع البعيد ) ، ثم أراد أن يغيِّر زاوية المنظور وشكل التعبير متحدياً ذاته بأن يبدع عملاً روائياً لا يكون امتداداً لأعماله الروائية السابقة وكما يقول : « خلال اثنتي عشرة سنة كنت مستغرقاً في استرجاعات مستديمة لما أملك في مخزون ذاكرتي من مواد حياتية خام قد تصلح لتنفيذ افتراضات فنية جديدة ، وكنت هادئاً صابراً غير مكترث لمرور الزمن ( وغير ضجر من طول الانتظار) آملا أن أعثر ليس على فكرة روائية ، بل على فكرة روائية تتحداني أن أكتبها كما يجب .. ثم انتبهت إلى أني أغش نفسي وأتظاهر بالتغافل عما أعرفه جيداً فقد كانت فكرة رواية (خاتم الرمل) موجودة منذ أكثر من عشرين عاماً في زاوية من عقلي .. أتذكّرها أحياناً وأتفحصها ملياً ثم أبعدها إلى زاويتها المظلمة .. كنتُ أشعر بأني لم أكن متهيئاً تماماً على مستوى التشكيل واللغة لتنفيذها ثم خلال أسبوع أو أسبوعين في سنة 1993 م تسرَّب إليّ أو هَبَطَ عليَّ الحل الممكن لعُقدة الرواية .. اتضح في ذهني شكلُها المفترض المبني على أساس لغوي خاص فباشرت بتنفيذه من دون تردد ».
من هنا ذهب ( البليهي ) في تعريفه للحدس الخارق والصائب إلى القول : « هو ضوء يسطع في الذهن فجأة وبقوة ، فيفتح أبواب الحقيقة للباحثين ، ويمد العاملين بالإلهام ، وهو ذروة المصادر الأربعة الرئيسية للمعرفة » .
وفي رأيه : « إن الحدس الصائب لا يتحقق إلا بمنظومة من الشروط تضاف كلها إلى الموهبة المتوقدة :
وأول هذه الشروط : الامتلاء المعرفي حول الموضوع ، ومعايشته معايشة حميمة وكافية ..
وثانيها : الشعور القوي بأهمية الحل المطلوب..
وثالثها : الحرارة الوجدانية التي تحشد كل طاقات الإنسان المذخورة لتتلاحم في اتجاه واحد ..
ورابعها : الاستمرار في الاتجاه نفسه حتى تنكشف الحقيقة ويتحقق الحل..
وخامسها : الاختمار الكافي الذي يؤدي مع التلهف إلى نضج الفكرة .. وعند هذه الذروة يكون الحدس الخارق متوقَّع البزوغ » .
بالنسبة لي هو رأي جدير بالاحترام والاهتمام ..
ومن أشهر الأمثلة على وثبة الإدراك بواسطة الحدس الخارق في مجالات العلم والعمل والتي تؤيد ما ذكره البليهي تجربة الغزالي ومحنته التي يذكرها في كتابه ( المنقذ من الضلال ) إذ وبعد أن أسعفه الحدس الخارق وضع قواعد الشك المنهجي ، وكذلك التجربة الفكرية للفيلسوف الفرنسي ديكارت .
ويبدو أن تفاحة نيوتن مثال علمي دقيق لهذه الشروط ، فطوال عقدين وهو يعمل على وضع نظريته في الجاذبية ، حتى كان عام 1666 م كما يقول مساعده في دار السلك الملكية وزوج ابنة أخته ( جون كونديات ) ، حيث استقال نيوتن مرة أخرى من كامبيردج وعاد لوالدته في لينكولينشير. وبينما كان يتجول متأملاً في حديقته ، سقطت تفاحة على رأسه المشغول بقضية الجاذبية ، ففكر قائلا لنفسه : لماذا تسقط التفاحة دائمًا على الأرض بشكل عمودي ؟ لماذا لا تنحرف ذات اليمين أو ذات الشمال أو إلى أعلى ؟
بعدها صاغ قانون الجاذبية حيث اكتملت صيغته في برهة واحدة بعد انتظار دام سنين طوال .
يصدق هنا القول الشعبي المأثور : أنك إذا ضربت صخرة مائة ضربة لتحطيها ، فلا تظنن أن الضربة الأخيرة هي التي هشمتها بل التسعة والتسعون ضربة السابقة لها .
في علم النفس ينظرون للحدس على أنه طاقة معرفية لا شعورية مكبوته وما أن تجد لها منفذا بأي طريقة من الطرق فإنها تظهر نفسها للوعي بشكل مفاجئ ، ولهذا يقترن الحدس بأمور قد تكون تافهة مثل سقوط التفاحة أو صوت خرير الماء أو كلمة يقولها أحدهم أو حادث معين أو لحظة خوف أو ما إلى ذلك . يقول عالم النفس الشهير ( كارل يونغ ) : « الحدس سياق غير شعوري من حيث أن نتيجته انفجار محتوى غير واع في الواعية .. فكرة مفاجئة أو شعور بأن شيئاً ما سيحدث .. إن الحدس هو فهم غير شعوري لوضع بالغ التعقيد لذلك كان الحدس بمعنى ما في موقع معاكس للغريزة » .
وقد يكون المنفذ عن طريق تقيد الوعي كما يحصل في حالة النوم مثلا ، يذكر ( كارل يونغ ) مثالا في كتابه ( البنية النفسية للإنسان ) يؤكد فيه أن الإنسان إذا كان مشغولا انشغالا شديدا بأية قضية واستعصت حلها عليه في اليقظة فإن احتدام عقله شبه الواعي يستمر في العمل حتى أثناء النوم فيحصل له الحدس الخارق فيقول : « في رأيي أن جميع الفعاليات التي تحدث في الواعية تظل تعمل في الخافية أيضا .. هناك أمثلة كثيرة على مشكلات فكرية استعصت حلولها في اليقظة ووجدت حلولها في الأحلام.. أعرف خبير حسابات ظل مدة عشرة أيام وهو يحاول بلا طائل أن يكتشف مسألة إفلاس احتيالي وظل ذات يوم يعمل عليها حتى منتصف الليل ولكن دون أن يفلح ثم ذهب إلى النوم.. وفي الساعة الثالثة صباحا أحست زوجته أنه نهض وذهب إلى مكتبه تبعته فرأته يسجل بعض الملاحظات ثم عاد إلى سريره بعد حوالي ربع ساعة وفي الصباح لم يتذكر شيئا ، ولما استأنف عمله اتضح له أن على مكتبه عدداً من الملاحظات مكتوبة بخط يده تسوي المشكلة تسوية نهائية » .
وإذا عدنا إلى دور الحدس في الجانب المعرفي ومن ثم العلمي ، نجد أن الفلاسفة انتبهوا له واهتموا به ، ونلمس هذا بوضوح في الفلسفة اليونانية حيث عدوا الحدس من أهم عناصر نظرية المعرفة ، كما نجد الاهتمام بها في الفلسفة المشائية ، وأما في القرون الوسطى فقد اهتم بالحدس ابن سينا ثم الغزالي ثم عاد الاهتمام بالحدس في أوروبا مع ( ديكارت) وعرَّفه بأنه : « التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من الوضوح والتميز لا يبقى معها مجال للريب.. أو هو التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل
وحده » . ومن بعد ديكارت اهتم بالحدس باسكال ومالبرانش وهوبز وليبنتز وسبينوزا وشوبنهاور، كما ظهر هذا الاهتمام في الفلسفة النقدية عند ( كانت ) . أما في القرن العشرين فقد برز الاهتمام الشديد بالظاهرة الحدسية لدى برجسون وكروتشه وباشلار وهاملتون وديوي وغيرهم ممن عالجوا نظرية المعرفة .
على أن أهم مجال تتجلى فيه قيمة الحدس العملية هو في الجانب العلمي ، وهذه الحقيقة يوضحها الفيلسوف الأمريكي ( بيري ) في كتابه ( آفاق القيمة ) والذي يرى فيه أن القدرة الحدسية التي تمكن الأدباء والرسامين وغيرهم من مبدعي الفنون هي ذاتها القدرة التي تمكن العلماء من رؤية الاتساق الذي يجمع بين الوقائع ويزيح الستار عن الحقائق المخبوءة ، فيقول : « إن هذا اللغز ليس وقفا على الجزء الجمالي من الحياة فلا تزال رؤية العالم الكبير الذي تنعقد فيه حقائق واكتشافات في وحدة متسقة كانت حتى ذلك الحين لا رابطة بينها.. هذه أيضاً لغز بيد أن هناك ألغازا صغيرة في الحياة اليومية : التذكر المفاجئ لما نسي.. العبارات الموفقة والخواطر المبتكرة.. إن أقصى ما يمكن أن يقال هو أن التجارب الماضية والذكريات المختزنة تبلور نفسها فجأة في وحدات منتظمة تكون شيئا جديدا في عالم الوعي ، إن الخيال ليس مجرد مخزن لشظايا أو نتف أو أشتات ولكنه نشاط إبداعي يبدو انه تلقائي » .
ويقول العالم الفرنسي الشهير ( كلود برنار ) في كتابه ( مدخل إلى دراسة الطب التجريبي ) : « ما من قاعدة يمكن الاعتماد عليها في الإيحاء إلى العقل بفكرة صحيحة مثمرة إلا وتكون للمجرب بمثابة حدس يوجه الذهن سلفاً نحو بحث موفق.. وكل ما يمكن قوله بعد بزوغ الفكرة هو كيفية إخضاعها للقواعد المنطقية الدقيقة .. أما ظهور تلك الفكرة فقد كان تلقائيا محضا وطبيعتها فردية خاصة بها.. وهذه الفكرة عبارة عن شعور خاص عن شيء ذاتي مقوم لعبقرية كل فرد وما لديه من روح الابتكار والإبداع ولا يشاركه فيها أحد سواه.. وتبدو الفكرة الجديدة في صورة علاقة جديدة أو غير متوقعة يرى الذهن وجودها بين الأشياء.. ومن العلاقات ما استدق ولطف بحيث لا تحسه ولا تفهمه أو تكشف عنه إلا الأذهان الثاقبة ذات المواهب الممتازة والأذهان الموهوبة أو التي أتيح لها من الظروف العقلية ما جعلها أحسن استعدادا وأفضل تهيئة » .
ويبدو لي أن ما ذكره ( كلود ) يوضحه عالم الفيزياء في حقل التفجيرات النووية الروسي الأصل (جاكوب زيلدوفيتش ) بقوله : « إن الحدس والاتجاه نحو الحقيقة وفي النهاية فهم جمال الشكل وجمال الظواهر هي الجوانب المهمة للإبداع العلمي التي تقترب به من الإبداع الفني »( ) ، ويؤكده عالم الرياضيات الفرنسي ( هنري بوانكاريه ) حين يقول باختصار جامع :
« نبرهن بالمنطق ونخترع بالحدس » .
إن القدرة الحدسية ضرورية في العلم والعمل ، فالعلم - كما يقول عالم فيزياء الكم الكبير ( باول ديفز ) في كتابه ( القوة العظمى ) : « ينمو ويتسع في ظل الحدس والتأمل » .
وإذا أردت أن الخص موقف العلماء من هذا الحق المعرفي فيكفيني هنا أن أنقل نماذج من تصريحاتهم التي لا أظن أنها تحتاج إلى تعليق مني ، استجابة لنداء صديق قديم قال لي في وقته : من أشكل المشكلات توضيح الواضحات فلا ترهق نفسك فيها فإنها قادرة على التعريف بنفسها .
وإليك النماذج التي اخترتها :
- ألبرت أينشتاين : « إن الإيمان بوجود عالم خارجي ، خارج عن نطاق الإحساس الذاتي يشكل جزءاً مهماً في كل العلوم الطبيعية »( ).
- الكسندر بايكوف ( عالم روسي في البيوكيائيات ) : « لا تكتسب قيمة فائقة في حقل العلوم سوى النتائج المفاجئة »( ).
- لويس دي برويل : « إن الاكتشافات العظمى وطفرات الفكر العلمي تحدث بفعل الحدس وبطريقة مبدعة وخطرة بحق . إن الاحقاب الجديدة في حقل العلوم تبدأ من التغيرات التي تستحدث في المفاهيم والبديهيات التي استخدمت كأساس للفكر التحليلي »( ).
- كارل بير ( مؤسس علم الأجنة ) : « إن العلم ابدي في ينبوعه غير محدود في نشاطه لا بالزمن ولا بالفضاء غير مقاس في حجمه لا نهائي في مهمته شامخ بقممه »( ).
إن كشوف العلم ، وروائع الفكر ، وفتوحات التصوف ، وانجازات الأدب ، ومهارات الفن ليست ثمرة من ثمار الالتزام بقواعد البحث وأساليب الأداء فقط ، وإنما هي الهامات مضيئة تنبثق من حرارة الاهتمام ، وكما يقول ( يوسف أسعد ) في كتابه ( الشخصية المبدعة ) : « المبدع يستعين بمنهج آخر نستطيع أن نسميه بالمنهج الاستشفافي أو المنهج الاستشرافي.. ذلك أن المبدع يتذرع بما يسمى بالحدس.. والحدس هو رؤية ذهنية.. هو قفزة معرفية.. الحدس الذي يتمتع به المبدع هو نوع من الطفرة المعرفية.. صحيح أن المبدع يستعين في مراحل نشاطه الأولى بالشواهد يستنتج منها ما تفضي إليه.. لكنه فجأة يجد نفسه قد قفز أو طفر إلى ذلك المجهول الذي يتسم بكيف جديد
تماما ».
( أوشو ) الحكيم الهندي ، صاحب المؤلفات والمقالات التي تتجاوز الألف كتاب ، منذ بداية شبابه راح يبحث عن الحقيقة ، انطلاقاً من تجاربه واختباراته ، وليس من خلال المفاهيم الدينية والاجتماعية السائدة في مجتمعه ، أو من خلال ما حاول البعض أن يلقنه من معارف ومعلومات ، وما أن بلغ الحادية والعشرين حتى اكتملت تجربته مع الحياة فكتب يقول : « الإنسان الذكي هو الثائر، وهو الذي يمتلك القدرة على اكتشاف غير العادي في
العادي » ، ويقول : « إن جميع أنواع الإبداع هي حدسية ، وبأن معظم الاكتشافات العظيمة تحققت بواسطة الحدس وليس الفكر » .
إن هذا لا يعدو كونه أهون من جناح بعوضة عند من يظنون أن العلم محصور بين مزدوجي الثوابت المقدسة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
مازن فيصل البلداوي ( 2010 / 8 / 30 - 11:31 )
الأخ/ت نضال
تحية طيبة
أود ان أقدّم جزيل شكري لك على هذا المقال،اذ كنت اقرأ كثيرا مما قرأته سابقا ومما مررت به لاحقا من أحداث وحالات هنا وهناك،ومرّ وقد يمرّ بها الكثيرون
هذا النوع من المقالات يساعد على الأرتقاء بالنفس وبالعقل الى مستويات أعلى(لمن يفهم طبعا) ويزيل الكثير من المختلط والمتشابك
ملاحظتي فقط بان هكذا مقالات قد تكون جافة بعض الشيء لذا يفضّل ان تكون أقل كلمات للمرة الواحدة عندما تنشر كمقال.

شكرا مرة أخرى مع خالص احترامي


2 - تحية للاخ مازن البلداوي
نضال فاضل كاني ( 2010 / 8 / 30 - 22:20 )
الأخ مازن فيصل البلداوي المحترم
تحية طيبة
أود شكركم على تلطفكم بالمرور على المقال وابداء الرأي والملاحظة آملا دوام التوصل
تقبل فائق الاحترام والتقدير


3 - التصوف
خلدون طارق ياسين ( 2010 / 9 / 1 - 07:09 )
فكرة المقال ليست بدعة من الباحث بل هو يأتي ضمن سلسلة من الكتب والمقالات التي سلطت الضوء على منهج آخر للمعرفة يعرف بالاتجاه الحدسي وكما معروف فان نظرية المعرفة مرت بمراحل عديدة ابتداءا من جان لوك الى وليم جيمس الى الوجوديين واختلفوا هؤلاء في بيان ما هية اداة المعرفة لدى الانسان وعند بيرجيسون شيء يقترب الى المنهج الصوفي والعرفاني وما اشار اليه الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال وان الحدس الذي اشار اليه الباحث لم يلق العناية المطلوبة بالمناهج الاكاديمية العربية فقط اما الاجنبية غانها اقرت بهذا الشيء وليس سبب هذا غلبة رجال الدين او السلطات الحاكمة فقط بل يقع ايضا على من يؤمن بالحدس واهميته في المعرفة الذين انطووا في تكاياهم وزواياهم وتركوا عالمنا العربي يموج في غياهب التسلط والتفرد الديني والدنيوي


4 - جميل منك
طه المهندس ( 2010 / 12 / 18 - 10:54 )
الاخ نضال المحترم
مقالة رائعة جدا والأجمل فيها انها مربوطة بشكل رائع وتحاكي العقل وتخاطب النفس ,وصلت الفكرة اخ نضال ودمت بود


5 - تثمين
مشتاق هيلان ( 2010 / 12 / 20 - 11:29 )
اثمن هذا الموضوع لانه حقيق بالتثمين وانصح كل قرأ لهكذا مستوى من المقالات المتينة والرصينة في فحواها ان يأخذ بحكمة الحكيم الذي قال : ( احفظوا ما تسمعون من المخلصين ، فإنهم تنجلي لهم أمور صادقة ) والاخلاص في كل شي اذا تحصل فيتحصل معه صدق النتائج وليس بوسعي إلا أن أشكر أخي وصديقي صاحب المقال .

اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا