الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فهم النص ومعايير التحقيق (5)

يحيى محمد

2010 / 9 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المعايير الثانوية للتحقيق
وأبرزها قاعدتان، هما:
1- قاعدة البساطة والاقتصاد
2- قاعدة الدينامية والشمول

قاعدة البساطة والاقتصاد
يعد مبدأ البساطة من اهم المبادئ المعتمدة لدى العلم المعاصر، وهو غير معني بالبحث عن الحقائق الواقعية، بل يؤخذ به لاعتبارات وجدانية ونفعية، وهي ان القضية البسيطة مرجحة على نظيرتها المعقدة حينما تتكافأ في النتائج . ومن ذلك أن العلماء تقبلوا نظرية كوبرنيكوس ورجحوها على سابقتها (نظرية بطليموس) ليس لكونها اقوى احتمالاً في مطابقتها للواقع الموضوعي، بل لأنها أبسط منها تركيباً.
وعليه فكلما كان النسق غير معقد في صياغته، ومقتصداً في طريقته الدلالية، كان مرغوباً به بالقياس الى النسق المعقد. فالبساطة او الاقتصاد هي إعطاء نتائج بصياغات تركيبية بسيطة.
واذا عدنا الى حالات الفهم فسنجد هناك أنساقاً صورية تختلف من حيث بساطتها وتعقيدها في تعبيرها عن الخطاب الديني، الأمر الذي يجعلنا نرجح الأنساق البسيطة على المعقدة للوصول الى نفس النتائج، وذلك بغض النظر عن المعايير الأخرى المتبعة. فكلما كانت المقدمات بسيطة او قليلة كلما كانت أكثر قبولاً مقارنة مع المقدمات المعقدة او الكثيرة. ومن ذلك ما يتصف به الدليل الاستقرائي بهذا النوع من المقدمات، حيث يمكن ردّ الجزئيات المختلفة الى قاعدة تفسيرية واحدة، وهي مرجحة على كثرة القواعد والمقدمات التي يفسر كل منها بعض الجزئيات دون أن يتجاوز غيرها.
ومن أمثلة ذلك أيضاً نلاحظ بأن الوجدان العقلي يستبعد فكرة تسلسل العلل الذاتية في قبال فكرة الأصل الواحد. بل وان هذا الوجدان يتقبل فكرة تسلسل العلل العرضية، في حين ليس الامر كذلك مع العلل الذاتية رغم عدم وجود البرهان القاطع ضدها. فالوجدان يميل الى فكرة الأصل الاول بغض النظر عن التسلسل اللانهائي الذي يصدر عنه عرضياً، طالما ان الوجود محكوم بالازلية حتماً. فلدينا - هنا - ثلاثة تصورات متنازعة: احدها يقول بفكرة الأصل الاول مع بداية للحوادث، والثاني يقول بنفس هذه الفكرة لكن مع نفي البداية للحوادث. أما الثالث فلا يعترف بوجود الأصل وينظر الى جميع الحوادث والعلل بأنها تسلسلية لا تنتهي الى اصل محدد. ويلاحظ ان التصورين الاولين يقبلهما الوجدان لانهما ينطويان على نفس المآل من وجود اصل اول لا سابق له بخلاف التصور الاخير. لذا تجد أن الناس يتفقون على الأصل الاول سواء كان طبيعة او الهاً، في حين يصعب العثور على من يقول بوجود سلسلة لا تنتهي من العلل الذاتية. بل حتى من الناحية العلمية ان العلماء يتوقفون عند حد لبداية الحوادث الكونية، ويستهجنون البحث في توالي الحوادث الى ما لا بداية له.
وفي المحصلة انك إما ان تجد من يقول بوجود اصل مع ما يتبعه من علل عرضية متسلسلة لا نهائية كما يقول فلاسفتنا القدماء، او من يقول بوجود اصل ينتج عنه حوادث لها بداية كما هو قول الكلاميين من اهل الاديان السماوية، او من يقول بوجود حوادث تنتهي عند حد معين كما هو رأي الماديين، لكن ربما لا تجد من يقول بان علل الحوادث ليس لها اصل ولا بداية. وكأن الوجدان البشري – بهذا - لا يستوعب مثل هذا الفرض الاخير، رغم عدم وجود ما يبرهن على نفيه. أما تفسير ذلك فيعود الى ان الانسان يميل الى الفرض الذي يتصف بالبساطة ويفضله على الفرض الاكثر تعقيداً طالما تساوى الغرض بين الفرضين. اذ لا فرق بين الأصل الاول والتسلسل غير المتناهي من حيث ان كلاً منهما يشغل الوجود الازلي، لكن التعويل على فكرة الأصل الاول يعني ان في هذا الأصل من آنات الزمان الوجودي ما يمكن اعتبارها بمثابة العلل غير المتناهية. وحيث ان الفرضين يحققان نفس النتيجة بلا اختلاف؛ لذا لا حاجة من افتراض التسلسل طالما تضمنته فكرة الزمان الوجودي للأصل الاول، وذلك لاعتبارات البساطة في هذه الاخيرة قياساً بنظيرتها السابقة.

قاعدة الدينامية والشمول
بحسب هذه القاعدة أنه كلما كان الجهاز أو النسق أقوى دينامية وشمولية في ضمه وتفسيره باتساق عدداً أكبر للجزئيات، كلما كان أكثر قبولاً وموافقة مما هو أقل قدرة وكفاءة منه. فمثلاً في علم الطبيعة ان النظريات التي تمتاز بقابلية تعميمية او تأييدية أكبر هي أكثر ترجيحاً وقبولاً من تلك التي يقل فيها التعميم والتأييد. فعلى ذلك كانت نظرية النسبية لإينشتاين مرجحة على نظرية الجاذبية لنيوتن .
وعلى الصعيد الديني إن النظرية التي يمكنها أن تفسر أكبر عدد ممكن من جزئيات الخطاب طبقاً للمقاصد باتساق؛ تترجح على تلك التي لا تصل الى مثل هذا الحد من التفسير. فمثلاً ان نظرية الطوفي في المصلحة هي اكثر سعة من غيرها في تفسير جزئيات النص باتساق، وهي بالتالي تكون مرجحة على غيرها من هذه الناحية وبغض النظر عن النواحي الخاصة بسائر المعايير. كما أن النظرية التي يمكنها تفسير واستيعاب أكبر عدد ممكن من الوقائع المستجدة التي لا تقع تحت حوزة نص الخطاب مباشرة، مما هي داخلة ضمن قضايا الانتاج المعرفي، تكون مرجحة على غيرها. ومن ذلك أن الجهاز الذي يمكنه تفسير المستجدات العصرية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيرها، ضمن نسق متسق يتلائم مع طبيعته الذاتية، يرجح على غيره من الأجهزة.
***
على أنه من الصعب أن نجد نسقاً صورياً يجذبنا في كفاءته لجميع المعايير المذكورة، إذ غالباً ما يجذبنا في جوانب دون أخرى، الأمر الذي يعرضه للوقوع في منافسة مع غيره من الأنساق، مما يحتم علينا بناء عملية الترجيح طبقاً لنوع وكم المعايير. فمثلاً قد تكون المنافسة بين نسقين يتضمنان تعارضاً نسبياً للمنطق والوجدان، او يكون النسق ذاته مؤيداً بالوجدان ومستبعداً بالمنطق، او العكس، كالذي مر علينا بخصوص مسألة عصمة الأنبياء الشاملة، فما يحققه المنطق الاستقرائي من نتيجة يختلف عما يميل اليه الوجدان الفطري حولها. وبالتالي فإن هذا التغاير يخلق لنا نسقين متنافسين بحسب معياريهما. وهكذا هو الحال مع سائر المعايير الأخرى.
فمثلاً قد يستشهد البعض بعدد من النصوص المختلفة ليدل بها على أمر معين، لكن نجد في قبال الدلالة المتبناة وقائع تاريخية لها دلالة مكذبة او معارضة، وعندما تتخذ هذه الوقائع صوراً واضحة لا يشك بها، وأنها مدعومة علمياً بقضايا ثابتة يقينة، من قبيل طبيعة السنن الاجتماعية، فإن ذلك يجعل من دلالة هذه الوقائع مكذبة ومرجحة على دلالة النصوص، لأن هذه الأخيرة اذا لم تفض بالدليل الاستقرائي الى القطع فإنها لا تصمد أمام قوة الدلالة الواقعية المنافية. وهنا يترجح معيار الواقع على النص.
فمثلاً يمكن تجميع عدد من النصوص غير الصريحة لإثبات الوصية على خلافة الإمام علي، مثل حديث الغدير والثقلين وسفينة نوح ومدينة العلم وعلي مع الحق وغيرها.. لكن في القبال أن هناك ما يعارض نظرية الوصية على الخلافة، كما هو الحال مع معطيات الواقع التاريخي، او السيرة الفعلية للأحداث، من أمثال: عدم محاججة الإمام للقوم بالوصية على خلافته، وأن هذه الوصية لم يرد ذكرها في السقيفة، ولم يذكرها أحد من الصحابة بإطلاق، ومبايعة الإمام - مع بقية الصحابة - للشيخين، وصلاته خلفهما، والعمل في خلافته بما لم يخالف به نهجهما... الخ. وعند المقارنة بين المجموعتين من الدلالات، نجد أن المجموعة الاولى المتمثلة بالنصوص الدينية (الأحاديث النبوية) تردها الاحتمالات المتعددة، باعتبارها نصوصاً من الروايات الملتبسة بالاحتمالات الكثيرة، وهي ذات دلالات غير قطعية لتجردها عن الواقع، وأنه بالدليل الاستقرائي لا ينتزع منها أمر قاطع يفيد قضيتنا المذكورة، فلها مضامين محتملة وملتبسة، وهي مروية بأشكال مختلفة مما يجعل الالتباس متفاقماً. لكن حتى لو تصورنا ثبوتها بأفضل شكل ممكن؛ فسوف لا تكون أقوى من دلالة الواقع على العدم. فطبقاً للسنن الواقعية لا يعقل أن لا يصلنا شيء من المعارضة لتثبيت الوصية النبوية مع ضخامة القضية وأهميتها، رغم انه وصلنا الكثير من الخلاف حول الخلافة، وهو أمر طبيعي، وبالتالي لا يعقل أن يكون هناك سكوت مطبق حول هذه القضية – على تقدير وجودها - لدى كافة طبقات الصحابة وهم من مشارب وأهواء مختلفة وفيهم الكثير ممن نزلت فيه الآيات المادحة والمبشرة بالجنة، كما فيهم الامام علي ذاته، رغم علمنا بالنزاع الذي نشأ حول الخلافة منذ اللحظة الاولى التي توفي فيها النبي (ص).
وعلى العموم إن ترجيح المعايير بعضها على البعض الآخر ليس بالأمر الهيّن، اذ لكل معيار قوة معرفية لا تخضع لحساب الكم، وكل ما يمكن فعله هو أن نقدرها بالكيف وفق «الوجدان العلمي» الذي نفترض الاحتكام اليه بعيداً عن الأهواء والأغراض الذاتية ما أمكن الى ذلك سبيلاً.
لذا فكلما حمل المعيار قوة معرفية أعظم كلما كان أكثر قبولاً من غيره. فمثلاً أن معيار المنطق الاستقرائي المطبّق على فهم الخطاب اذا ما حظى بقرائن كثيرة للغاية نحو محور مشترك من غير منافس، فانه يكون أرجح قبولاً من المعايير الأخرى التي تنافسه، كالبساطة والدينامية وما اليهما، كذلك هو الحال مع معيار البداهة الوجدانية، ونفس الشيء مع معيار الواقع حينما يعبر عن فهم متسق بدونه يصبح الخطاب ظاهر الاختلال. لهذا اعتبرنا أن من الشروط الاساسية لقبول النسق هو أن لا يصطدم مع كل من البداهة والمنطق والواقع. وهذا يعني أن من الممكن التحقق من قوة الأنساق والأجهزة المعرفية عبر تعريضها لمختلف الاختبارات الخاصة بتلك المعايير، إذ بقدر ما يلاحظ فيها الاتساق والمصداقية، سيما تلك التي تمنحها قوة معرفية أقوى، بقدر ما تصبح أكثر جاذبية وأشد قبولاً.
كما انه بقدر ما يتم الاعتماد فيه على الأصول والقواعد المعرفية المشتركة دون الخاصة، بقدر ما يكون النسق مرجحاً على غيره من الأنساق. فالاعتبارات المعرفية المشتركة هي موضع اتفاق الأطراف المتنازعة، مثل قاعدة الاستقراء وقيم المنطق الاحتمالي وما اليها.


- انتهى البحث -








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد أنباء سقوط طائرة الرئيس الإيراني.. المرشد الأعلى: لا تعط


.. عالم دين شيعي: حتى القانون الألهي لا يمكن أن يعتبره الجميع م




.. 202-Al-Baqarah


.. 204-Al-Baqarah




.. 206--Al-Baqarah