الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الراحل محمد أركون ومحنة معتزلة القرن الواحد والعشرين

ياسين تملالي

2010 / 9 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


محنة معتزلة القرن العشرين

يا ليُتم العقلانية العربية وهي تنظر إلى ثلاثة من آباءها يُوارون الترابَ في أقل من أربعة شهور: محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وأمس، محمد أركون. يا لسوء حظ معتزلة القرن العشرين : هزمهم الموت دون أن يكسبوا معركة "التنوير" في بلدانهم. لم يفلحوا في لجم تزمت المتزمتين ولا في إقناع الحكام بأنهم بتأرجحهم الانتهازي بين أصالة غابرة ومعاصرة فجة، إنما يحفرون قبر شعوبهم ويمهدون الطريق لخلافة ليس لها من الرشاد سوى الاسم.
بدأ المعتزلة قلةً قليلةً لكن الزمن، على قسوته عليهم، كان أرق عليهم منه على خلفائهم المعاصرين. ظهروا في مرحلة كان فيها اللاهوتُ الإسلامي في طور التكون، فلم تبدأ محنتُهم حالَ "اعتزال واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري"، وتأخرت عن ذلك سنين. قالوا إن "القرآن مخلوق" (بل وذهب بعضهم إلى تحريم إطلاق سراح السجناء المسلمين لدى العدو ما لم يقولوا بقولهم). رغم ذلك لم "يجمع العلماء" على تكفيرهم. حتى ابن تيمية، على مقته لهم، لم يُخرجهم من "الملة" وامتدح حسن دفاعهم عن عقيدة التوحيد. وقبل أن تنقلب عليهم الأمور، حظوا بدعم الخليفة المأمون فأصبح فكرُهم إيديولوجية الدولة الرسمية في عهد ثلاثة خلفاء عباسيين.
معتزلةُ القرن العشرين، لم تحمهم كثرتُهم (النسبية) فبدأت محنتُهم حالَ تغريدهم خارج سرب التقليد، سرب الحفظة غير المفكرين. بعضهم، كأركون، غادر بلَده لمدة طويلة ولما عاد إليه (في منتصف الثمانينات) مدعوا إلى "مؤتمرات الفكر الإسلامي"، فهم أنه لم يؤت به إلا ليُسبغ عليها صفة الشرعية الأكاديمية (ويصبحَ هدفَ هجمات بعض ضيوفها ممن لا تهمهم الحصافة بقدر ما يهمهم التفاصح). البعضُ الآخر، كأبو زيد، أُجبر على اللجوء إلى المنفى بعد أن كُفر وطُلق من زوجته بحكم سوريالي من محكمة سوريالية. ومن لم يتعرض منهم للنفي، كالجابري، لم يسلم من ألسنة المتطاولين.
تسبب المعتزلةُ في "محنة ابن حنبل" وشارك بعض أقطابهم في "محاكم التفتيش" المأمونية فاستجوبوا الماثلين أمامها عن رأيهم في خلق القرآن وغيره من الأمور اللاهوتية. الجابري وأبو زيد وأركون، عكسَ ما يُروج له بعض من يخلطون بينهم وبين غلاة "التنوير" التسلطي، لم يتسببوا في محنة أحد : لم يعذب أحدٌ بسببهم ولم يضرب إمام بالسياط بتحريض منهم، كما جرى لابن حنبل في عهد المعتصم، لكن براءتَهم لم تحمهم من إهانات أهونُها اتهامُهم بأنهم في خدمة الحكومات الجاثمة على صدور أوطانهم.
عاش المعتزلة في أوج مجد دولة تمتد أطرافها من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي. لم يكن فكرُهم، على أهميته، شرطا ضروريا لبقائها. لم يكن يحتاج إليه سوى "الخاصة" ممن يحسنون التفريقَ بين "الكفر الصريح" و"المنزلة بين المنزلتين"، ومع ذلك ما أعظم أثَرهم في تاريخ الدولة العباسية. معتزلةُ اليوم، ممن يغيبهم الموت واحدا بعد الأخر، نشأوا في بلاد مستعمرة، العقلانيةُ فيها شرط أساسيٌ لنهضتها. رغم ذلك، تبدو كتاباتُهم فيها ترفا بالغا إن لم يعدها البعض كفرا لا عقابَ عليه سوى الموت.
انتُقد المعتزلة أشد الانتقاد لكن بغداد في عهدهم لم تكن تحت سلطة بيزنطة فلم يُجابَهوا إلا نادرا بأن فكرهم "مستوردٌ دخيل". أما ورثتُهم اليوم، فما أن ينطقوا حتى يهبَ المتزمتون ليصفوهم بأنهم "رأسُ حربة الغزو الثقافي" ناسين أن لا أحدَ غيرهم انتقد الاستشراقَ حق الانتقاد وحجم تأثيرَه في مؤسسات أكاديمية ذات تأثير كبير في القرار السياسي الأوروبي والأمريكي.
هذه محنةُ معتزلة القرن العشرين، اجتهدوا فحوربوا وشردوا وقضى الكثير منهم في المنفى. لم يغفر لهم المستشرقون دخولَهم ساحة الدراسات الإسلامية دون استئذانهم ولم يَفهمهم أهلُهم. عاشوا ولا منبرَ لهم سوى جامعات معزولة (كثير منها خارج أوطانهم) ووسائل إعلام لا تفتح بابا لأحدهم إلا لتفتح العشرات لمن يريدون تكفيرهم. وماتوا غرباء. هذه محنةُ ميلادهم في زمن تُقهر فيه بلدانهم باسم الرقي وتقاد باسم العقلانية إلى المعتقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المعتزلة القدامىأعمق
عبدالله التوتي ( 2010 / 9 / 16 - 12:04 )
معتزلة القرن الواحد والعشرين-رحمهم الله- لهم مشاريع نخبوية يطغى عليهاالاجتهاد الفردي، ولم يستطيعوا أن يكونوا مدرسة منفتحة على كل شرائح المجتمع ليكون فيها الواعظ كغيلإن الدشقي واللغوي المفسر كالزمخشري والأديب كالجاحظ ... واستطاعت الإنتشار حتى وصلوا إلى السلطة وفرض الرأي بالقوة -وهذا مرفوض- ولكن يحسب لهم استعاب كل الفئات وخلخلة البنية المفاهمية في إطار الوحدة والتوحيد والانسجام الاجتماعي والثقافي


2 - علماني مغاربي
محمد بودواهي ( 2010 / 9 / 17 - 17:11 )
لقد استطاع عابد الجابري أن يجد له مكانا ضمن المفكرين الكبار المسمون بالعرب في فترة السبعينات وبداية الثمانينات وخاصة في مجال الفلسفة والفكر الإسلامي ، غير أن تمسكه وتشبته المستميت بتوجهه السياسي القومجي العروبي - حتى بعد انكشاف وجه القومجية القبيح وميولاتها التآمرية والانقلابية والإقصائية - ودعوته المقيتة لإبادة اللغات المحلية والأصلية للعديد من شعوب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط جعله عرضة للإنقادات الواسعة والاتهامات بالتكلس والتحجر وضيق الأفق
أما نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون فأكيد أنهما تركا فراغا ثقافيا وعلميا هائلا تحياتي

اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ