الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجدد الهوية الشعرية .. قراءة في ديوان سيرة ذاتية لملاك ل فريد أبو سعدة

محمد سمير عبد السلام

2010 / 9 / 18
الادب والفن


في ديوانه (سيرة ذاتية لملاك) – الصادر عن دار المحروسة بالقاهرة سنة 2009 – يعيد فريد أبو سعدة اكتشاف مدلول (الهوية الشعرية) ، و امتدادها الأصلي في ذاكرة المتكلم ، و براءة الصور ، و الأخيلة المؤولة للسياق الواقعي ، و عناصر الوجود .
إن الصوت في الديوان يقع في قلب الحلم ، أو التشبيه ، أو الحكاية المتجددة فيما وراء المنطق ، و بنية الحدث ؛ و من ثم فهو يقاوم الانفصال الزائف بين الأصل ، و الأثر ؛ فالشاعر هنا يمارس حالة من الإغواء ، و التوحد بالصورة فيما وراء الحدود الصلبة للتكوين ، و المادة . إنه ينخرط في أفعال ، و انفعالات تكثف خبرات الماضي في مستقبل متجدد تصل فيه الصور ، و الحكايات النص بالواقع ، و الموت بالحياة ، و الذات بالتشبيه .
النص لا يؤسس معرفة بالعالم ، و إنما يجدد علاقة الوعي به من خلال الارتباطات التأويلية الجديدة بين الصوت ، و الصور المؤولة للواقع ، و الوجود ، و الزمن خارج الحدود ، و الحتميات ؛ و من ثم يصير مدلول الهوية مادة للدهشة ، و إعادة الاكتشاف بصورة دائرية .
و يمكننا رصد ثلاث تيمات في الديوان ؛ هي :
أولا : تجدد الهوية الشعرية .
ثانيا : إغواء الصورة ، و براءة الأخيلة .
ثالثا : الحكي كتمثيل للحياة .
أولا : تجدد الهوية الشعرية :
تتصل الشاعرية بهوية المتكلم من جهة ، و حركية العالم من جهة أخرى ، و ذلك من خلال البدائل التصويرية للصوت ، و العلاقات الشعرية بين عناصر الوجود التي تتحول في المستقبل إلى أطياف تتمتع بوهج دائري للحياة ، و تقاوم حدود التجسد ، أو الموت بواسطة الأصالة المجازية فيها ؛ فقد يعيد الوعي تكوين الجانب التمثيلي في الكون من خلال دمج الوظائف الحتمية بالاستعارة ، و كأن الأطياف تستبدل حضور المادة دون أن تمحوها من المشهد .
يقول : " رأيت كأنني في الخلاء / أجلس على مصطبة خارج البيت / يبرك أمامي جمل هائل / كأن ضوء النجوم زميل يقده من الظلام / كان غريبا و كنت أرتعش من الخوف / ثم تذكرت الجبل و الشجرة التي تشتعل و لا تحترق " .
يكتشف المتكلم هويته هنا من داخل سياق تشبيهي يفتتحه ب (كأنني) ، فيسمح للدوال باللعب الحر في المشهد ؛ إذ يبزغ الجمل الحلمي ، و تشتعل الشجرة دون احتراق ، و ينتقل الصوت سريعا من الوصف الخارجي إلى التوحد بأطياف الصورة المميزة للوجود الشعري المنتج للتو من أصالة التشبيه في الوعي ، و العالم معا .
و تتجسد علامة النار في الوعي كطاقة مجازية إيجابية باتجاه التحول ، و البناء المستمر للكينونة ، ثم تنتشر في دلالة التغير المقاوم لنهايات الصور ، و العناصر .
و قد يؤول المتكلم نفسه ، و وجوده الواقعي في صوت استعاري بديل مولد من لقاء الوعي الشعري بصدفة تشكل الدوال في فنجان القهوة .
يقول : " رأيت جملا بجناحين يحلق قرب أذن الفنجان / و حشودا تصعد من القاع / يتدافعون على الحافة / ثم يقفزون / رأيت بين الحشود رجلا أعرفه / سألته عما يحدث / أشار فرأيت هاوية و رأيت شخصا مهيبا / ينظر إلى المتحلقين على الحافة من منظار البندقية / فعرفت أنه الملاك " .
الشاعر يقذف بنفسه في تلك الطفرة الاستعارية التي تصير كونا إبداعيا له حضور مادي في وعي المتكلم / الملاك حين يمتزج حضوره بالآخر / الشعري الذي يقع بين عالمه الداخلي ، و عوالم الصورة .
و نلاحظ حضور الحكاية في المقطع السابق ؛ إذ تشير الوظائف السردية إلى اتجاهين ؛ الأول هو التعرف على الملاك ، و الثاني تفكيك المتكلم الأول من داخل محاولات المعرفة نفسها التي تتحرك نحو الهوية الاستعارية الجديدة للصوت .
إن الملاك يتهيأ للقتل ، أو المشاركة في الاحتفال الصاخب بتحولات الأشياء ، و كأنه يعاين عمليات التحول اللامركزي للصور ، و البناء المستمر للتكوينات المجددة للهوية ، و المقاومة لبنية القتل الأولى .
و يسترجع المتكلم سؤال الخلود من اللاوعي الجمعي ، فيذكرنا بتأملات جلجامش ، ثم سؤال الهوية عند سارتر ، و يبدو أن الشعر يمنح المعنى ، و يستشرف الخلود دون بحث فلسفي ، أو خيالي ، و إنما من خلال ولوج الصورة الحلمية المؤولة للصوت .
يقول : " صباح الخير . ألازلت تحلم بالخلود أيها الشاعر ؟ / تراجع كمن يفتدي لكمة : لا فقط أن يكون لحياتي معنى / انظر إن يدي لا تصلحان لزراعة وردة / و لا يمكن بأصبعي تلك / أن أصلح واحدة من هذه الساعات الغريبة / الساعات التي تشير إلى أزمنة / و لا تشير إلى الوقت " .
تتميز الصورة بالدائرية في الوعي المبدع للكاتب ؛ و لهذا فهي مصدر للإبداع ، و مقاومة العدم الممثل في حدود الوقت .
و قد أشارت علامة الساعة إلى الثقافات ، و التواريخ ، و الأخيلة ، و الأحلام الدائرية خارج الحدود المهددة للذات ، و الكامنة في الوقت ، كما اختلطت بالآثار المولدة عن الأعمال الفنية ، و الثقافات ، و أطياف التاريخ كي تمنح الصوت امتدادا سرديا في المستقبل .
و قد يثور الصوت على الحدود ، و الحتميات ، و يعاينها فنيا في الوقت نفسه ، و كأن الهوية الشعرية تتداخل مع السياق السلبي فتشير إلى الحزن ، و التمرد معا .
يقول : " أهلا بك في الجحيم / حيث ما أن تنتهي من طعامك ، حتى تبدأ في الصراخ / طالبا الطعام / و حيث تفقد من حولك واحدا واحدا / و أنت تلهث في برك النسيان " .
يتجاوز الصوت السقطة من داخل حدودها القصوى / الجحيم الفني الذي يقاوم الحركة التصويرية للذات ، و العالم رغم اكتسابه لشاعريتها .
هل كانت الصرخة أثرا مجازيا للذات الشعرية ؟ أم أنها تمرد في مواجهة النهايات المحتملة ؟
إنها تتوسط الحتميات لتفكك مركزيتها في المشهد .
ثانيا : إغواء الصورة ، و براءة الأخيلة :
لا يمكن فصل مجال الرؤية الأولى للذات ، و العالم في النص عن الكون الشعري المؤول للأصل ، و المولد لحالة الإغواء التي تحقق الاندماج ، و التفاعل بين السياقين من جهة ، و تفكك مسلمات المنظور في اتجاه أصالة الأخيلة الحرة من جهة أخرى .
الصورة نقطة للتوحد ، و الخروج ؛ فهي تقاوم مركزية الصراع ، و الحضور المؤقت ، و حالة التجسد ، كما تقع داخل الصوت ، و المادة ، و جسد الأنثى ، و مكونات الذاكرة .
يقول : " إنها تنطلق بعيدا ، و جسدها بين يدي / يتوهج كنحاس أحمر / غالبا ما نقطع الوقت في الشطرنج / متهيئين للتوقف عن كل شيء / إذا ظهرت علامة " .
تتقاطع الصورة هنا مع التكوين ، و تستبدله بأخيلة حرة تتفاعل مع الحدود الواقعية ، و تتداخل معها في الوقت نفسه .
إن الشاعر ، و أنثاه ينتظران الخروج الكامل من حالتي الانفصال ، و الصراع الشكلي في الشطرنج إلى فضاء التوحد ، و الاندماج بين الواقع ، و مرح الصورة .
و قد يصل الإغواء إلى تفكيك مدلول الواقع في النص ؛ فتندمج الوحدات السردية بمكونات الوعي ، و تحولات الصورة دون نهاية .
يقول : " كانت تستغرق في هذا طويلا / إلى الدرجة التي لا تنتبه فيها إلى حركة الدبابات بين الغرفة و المطبخ / أو الحرائق التي تشب في الستار / من جراء ملامستها للأحداث الجارية / ليست عاطفية لكنها مصابة بنوستالجيا مزمنة / فعلى سبيل المثال / دائما ما يطل واحد من أسلافها في الشجارات الصغيرة " .
نلاحظ هنا مساحة من التوقف في بنية الحدث الأصلي ، ثم تحولا ديناميكيا في الصورة باتجاه محاكاة لعبية تتميز بالتعاطف بين الواقع ، و وهج الأخيلة الأصيلة في الموقف السردي ؛ فعنف الأحداث يتوقف لصالح لعب الدبابات ، و الشجار يتوقف كي تعبث الأسماء ، و أطياف الذاكرة في المشهد .
و قد تعيد الصورة تكوين الفراغ المحتمل فيما بعد الموت ؛ إذ ينمو صوت الحياة الطيفي في الاتصال بين الموت ، و الحياة ، أو الصخب الواقعي للعدم ، و عبث الأطياف المتحررة من صلابة التكوين .
يقول : " يصفون للمصور من كان بجوار من / من كان قادما من المطبخ بالعشاء القليل / من كان ينظف الجرح لشيخ يئن / غارزا أسنانه في طرف الجلباب / خذني قليلا إلى جوار الحائط ، فقد كنت أهدئ من روع الطفلة / و أنا كنت واقفا أوزع الماء الشحيح / كيف ستمكنني من الوقوف في الصورة و ساقاي مبتورتان " .
المصور يكتشف حدث الحياة في صور الموت ، و يستعيد في المستقبل لحظة ما قبل التوقف التي تخلصت للتو من ماديتها ، و مارست فعل الإغواء في تحرر الأصوات من الموت عند اكتسابها براءة الأخيلة ؛ فالصوت الذي يتحدث عن ساقيه المبتورتين يذكرنا بموته ، و بقاء المرجع / أو الذات في حالة حركة .
إنه يجرد صخب الحياة من حالة التوقف الزائفة التي طرأت على المادة قبل لقائها بالصورة ، و تحولاتها .
ثالثا : الحكي كتمثيل للحياة :
الحكي في الديوان لا يتبع الحدث ، و لكنه يعيد إنتاج صور الحياة في الماضي في سياقات ، و شكول جديدة من جهة ، و يصل المتكلم بالحياة المتجددة للصور ، و الأخيلة الممتدة في فعل الحكي المقاوم للموت من جهة أخرى .
و عن علاقة السرد بالهوية يرى بول ريكور أن الوحدة السردية للحياة تمثل امتزاجا بين التجربة الحية ، و النسج الخيالي ؛ لأن القصة الخيالية تنظم الحياة بطريقة استعادية بعد مرور الحدث ، كما تعود القصة إلى الحياة حسب الطرق المتعددة للتملك (راجع / بول ريكور / الذات عينها كآخر / ترجمة د جورج زيناتي / المنظمة العربية للترجمة ببيروت ط 1 سنة 2005 ص 329 و 331) .
إن ريكور يمزج الأنساق المعرفية المتباينة في فعل التأويل ؛ و من ثم يذوب الحدث في السرد ، مثلما يخترق العمل الفني حدود الواقع فيما بعد الحداثة ، و هو ما نجده عند فريد أبو سعدة ؛ إذ تمتد الحياة في الحكي ، و مقاومته لحدود الذاكرة ، و الوجود المؤقت .
و قد يعيد السرد تشكيل الحياة المضافة لهوية المتكلم ، و يولد عوالم جديدة تخرق حدود التجسد ، و الرؤية معا .
يقول : " الذين يقصون الحكايات يمدون في عمري / إنهم كالذين يدحرجون أمامي بساطا / لأستمر في التقدم طالما يستمرون / الحكايات التي تمتلئ بأفيال تطير كالمناطيد / و تنقل شعوبا من قارة إلى أخرى بمجرد زر " .
إن الوظائف السردية في المتوالية الجديدة ؛ مثل (الأفيال تطير) ، و (تنقل شعوبا) تفكك واقع المتكلم ، و تدل على استمرار حدث الحياة في مستوى التداخل بين الوعي ، و الحكي المنتج للواقع الإبداعي الجديد .
و قد تلتحم الصيرورة السردية للحياة في الوعي المبدع للشاعر بمعاينته للفضاءات المجازية ، و الحلمية للوجود .
يقول : " و ما إن أدخل غرفة حتى يغلق الباب من خلفي / هكذا واحدة بعد أخرى (الغرف كلها متشابهة / و أنا مدفوع للأمام / و ما من سبيل إلى العودة) / و حين فتحت الباب الاخير هالني أنني أمام صحراء بيضاء / و لا شيء هناك / غير صقر ميت / و ثلاثة من الغربان " .
لقد اختلطت بهجة الحياة بدوال الموت ؛ مثل الصقر ، و الصحراء ، و كأن الشاعر يستشرف الصخب القادم فيما وراء العدم ، فالبكارة الإبداعية المصاحبة لصور الصقر ، و الغربان توحي بحدث ، أو حكاية أخرى تفجر الحياة من الصمت المجازي .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و