الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصلحة ودورها في التشريع

يحيى محمد

2010 / 9 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المصلحة هي إحدى الأصول المرجعية لتحديد الأحكام الإجتهادية لدى عدد من المذاهب الفقهية. والمقصود بها بوجه عام هي كل ما يجلب نفعاً ويدفع ضرراً. وبعض التعاريف قيّدها بالمحافظة على مقاصد الشرع كي تكون مقبولة. فمثلاً عرّفها الغزالي بأنها المحافظة على مقصود الشرع، أو المقاصد الضرورية الخمسة . وعرّفها الطوفي بأنها السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة . كما عرّفها الخوارزمي بأنها (المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق) .
ومع ان العلماء أجمعوا على كون الشارع قد راعى مصالح العباد في معاشهم ومعادهم؛ الا أنهم اختلفوا في التشريع لها من قبل العقل البشري، أو على ضوء الإجتهاد الناظر إلى مقاصد الشرع أو حتى القياس. فقد عُرف عن الإمام مالك أنه أبرز من قال بها صراحة وكان يطلق عليها (الإستحسان) مما يشمل الإستحسان المصطلح عليه ومبدأ المصلحة ، حيث ان لفظ (الإستحسان) كان مستخدماً لدى ابي حنيفة قبل مالك .
ورغم ما اشتهر من انفراد المالكية بالقول بالمصلحة؛ الا ان الزركشي اعترض على ذلك معتبراً (ان العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة الا ذلك) . وكذا قال القرافي بأنها (عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة الا ذلك) . كما قال ابن دقيق العيد: (الذي لا شك فيه ان لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحاً في الاستعمال لها على غيرهما) . وسميت المصلحة المرسلة أو المطلقة باعتبار ان وظيفتها تتحدد بالقضايا التي لم يرد فيها حكم نص، لا بالاعتبار ولا بالالغاء، أو أنها مما لم يشهد لها شاهد معين من الشريعة بالاعتبار . مع ذلك صرح الفقيه المالكي ابن العربي بقوله: (لم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة) . واطلق عليها الغزالي في كتابه (المستصفى) الإستصلاح.
واغلب الظن ان الذي جعل مالكاً يعول على المصلحة هو ما رأى عليه العمل بين الصحابة إبان عهد الخلافة الراشدة، إذ كان سلوكهم لا يخلو من العمل بها عندما يحتاجون إلى شيء من النص. ولعل أول عمل مصلحي قام به هؤلاء بعد وفاة النبي (ص) هو جمع المصحف. لذلك كثيراً ما يشار إلى هذه الحادثة على رأس الأمثلة التي يستدل بها على مصداقية ما نحن بصدده. فقد اعتاد العلماء أن يذكروا نماذج عدة على المصلحة المرسلة كالتالي:
1 ـ اتفاق الصحابة على جمع المصحف في عهد أبي بكر ، وذلك خشية اندثار القراء أو الحفظة بفعل القتل بالحروب فيذهب بذلك قرآن كثير . كما روي أن عثمان قام بنسخ الصحف في المصاحف خشية الإختلاف كما اختلفت اليهود والنصارى .
2 ـ اتفق الصحابة على حد شارب الخمر بثمانين جلدة في عهد عمر بن الخطاب الذي استشار الصحابة فأشار عليه الإمام علي (ع) بقوله: (اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى). وعلى رأي البعض أن مستندهم في ذلك هو الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل .
3 ـ ومثل ذلك زواج امرأة المفقود بعد اربع سنين من انقطاع خبره لترجيح مصلحة الزوجة، حيث أنها من الحوادث البكر التي حدثت في عصر الخليفة عمر، وكذا تدوين الدواوين، ومن ثم ضرب السكة واتخاذ السجن .
4 ـ ان الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصنّاع عند تلف أو ضياع ما في أيديهم من أمانة، وقال الإمام علي بهذا الشأن: (لا يصلح الناس الا ذاك) .
5 ـ جواز الضرب للمتهم ليقر بالمسروق .
6 ـ جواز قتل الجماعة بالواحد .
ويلاحظ ان الكثير من الأمثلة المذكورة هي من الإستحسانات بحسب الاصطلاح، مع ما يلاحظ أنه كان هناك تداخل بين الإستحسان والاسترسال، كما يشير اليه الشاطبي بتعليقه على بعض الشواهد الخاصة بترك الدليل بالمصلحة، فيقول: (فان قيل: هذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الإستحسان، قلنا: نعم، الا أنهم صوروا الإستحسان تصور الاستثناء من القواعد، بخلاف المصالح المرسلة) .
كما أن من المعاصرين من ذكر أمثلة أخرى على المصلحة المرسلة ليست منها. فالمرحوم عبد الوهاب خلاف استعرض أمثلة على الإستصلاح معتبراً أنها من الحوادث البكر، مثل: اشتراط الاشهاد الشرعي لصحة الوقف أو التغيير فيه، واشتراط وثيقة الزواج الرسمية لسماع الدعوى به، واشتراط سن معينة للزوجين لتوثيق عقد الزواج بينهما . وهي أمثلة تعد تبريراً للواقع القضائي الحديث. وبغض النظر عن ذلك يلاحظ ان جميع هذه الأمثلة تتضمن عنصراً مشتركاً لا يُبقي الحكم الشرعي على حاله مثلما هو عليه من قبل، سواء ذلك الذي يستمد من النص، أو من الاجماع، أو من القياس، حيث هناك (شرط) مضاف على الممارسة الشرعية للأحكام . وبالتالي فإن هذه الأمثلة تعود إلى الإستحسان لا المصلحة؛ باعتبار ان من وظائفه تخصيص العام وتقييد المطلق.
وليس المالكية وحدهم من انفرد بقبول المصلحة والاقتناع بحجيتها، وإنما وافقهم على ذلك الحنابلة، إلا أنهم لم يجعلوها دليلاً مستقلاً وانما اعتبروها عائدة إلى ضرب من ضروب القياس . بينما منع العمل بها كل من مذهب الشافعي والظاهرية. في حين أجازت الإمامية الاثنى عشرية الاستناد اليها بحدود قطعية العقل لا غير.
أما بخصوص المذهب الحنفي فنجد بعض الالتباس. إذ أُتهم أصحابه بأنهم لا يأخذون بالمصالح المرسلة كالشافعية، وهي تهمة سبق أن قال بها الآمدي ، كما كررها بتحفظ الشيخ ابو زهرة، حيث صرح بأن المصلحة المرسلة ليس لها اعتبار عند الأحناف، وإن كان الإستحسان يفتح الباب قليلاً . وأبدى في محل آخر تسليمه بعمل ابي حنيفة بالمصلحة. إذ ذكر بأنه من حيث تأثره بمعاملات الناس لممارسته التجارة فقد اعتمد على أصلين: أولهما العرف الذي هو أصل يترك به القياس، والثاني الإستحسان حيث به رأى تطبيق القياس يؤدي إلى (معاملة لا تتفق مع المصلحة أو مع العرف التجاري، فيترك القياس) . وقد تصدى الدكتور الدواليبي للرد على الاتهام السابق موضحاً بأن الإجتهاد الحنفي قد أسس نظرية الإستحسان الذي هو خروج عن النظائر والقواعد القياسية العامة لوجهة أقوى أو لضرورة تقتضي مصلحة أو تدفع مفسدة، لذا كان الأولى أنه يوجب اعتبار المصلحة المرسلة. أي أن الأحناف اذا كانوا يعولون على المصلحة ويرجحونها على القواعد القياسية كما هو حال ما يسمى الإستحسان فكيف لا يعملون بالمرسلة التي لا تعارضها مثل تلك القواعد المعتبرة ؟! وهو ما أيده الشيخ الزرقاء الذي عقد بحثاً عن العلاقة القائمة بين القياس والإستحسان والإستصلاح؛ توصّل فيه إلى ان الفترة بين المذهب الحنفي والمالكي وإن كانت واحدة الا ان تأخر المذهب المالكي عن نظيره الحنفي زماناً جعل الصياغة الفنية الفقهية للمصلحة وشرائطها تتبلور عنده، الأمر الذي اشتهر بها. في حين أنها في المذهب الحنفي ظلت كامنة في صورة الإستحسان الذي يتضمن المخالفة لمقتضى القياس . وكذا ما ذهب اليه عبد الوهاب خلاف .
مع هذا فرب قائل يقول ان من الممكن ان لا تأخذ الحنفية بالمصالح رغم تعويلها على الإستحسان الذي يعني عندها على الأقل بانه ترجيح دليل إجتهادي على دليل آخر مثله، كترجيح قياس خفي على ظاهر ، أو كترجيح دليل مستمد من العرف على القياس. فليس في ذلك وجود للمصلحة. لذا أقرّ الزرقاء بأن تعريف الإستحسان عند الحنفية هو عبارة عن قياس خفي مرجح على قياس ظاهر، بينما هو ليس كذلك عند المالكية، حيث أنه عبارة عن ترك القياس الظاهر لاحد امور ثلاثة، وهي اذا عارضه عرف غالب، أو عارضته مصلحة راجحة، أو أدى إلى حرج ومشقة . كما اعترف بأن الشافعي ـ وكذا الغزالي ـ هو وإن انكر نظرية الإستحسان، الا أنه لم ينكر الإستحسان القياسي عند الحنفية واحكام الضرورات الملجئة، بل أقرّ ذلك وإن رده إلى القياس . وهو أمر شبيه بما لجئت اليه الإمامية من الاعتراف بصحة العمل بالإجتهاد وإن لم تعول على مبادئ القياس والمصلحة والإستحسان الظنية الحكم. فالذي يراها تعمل بالقياس لاعترافها بالإجتهاد لم يكن مصيباً. لذا فالتعويل على الإستحسان هو كالتعويل على الإجتهاد، لا تتبين مبادؤه بمفهومه العام، باعتباره يقبل الانطباق على أكثر من مبدأ ممكن. وهذا يعني أنه ليس هناك تناقض بين الأخذ بالإستحسان ورفض المصلحة المرسلة. وبالتالي فإن ما أقامه الدواليبي ومن والاه من رد على إتهام الحنفية بعدم اخذها بالمصلحة المرسلة؛ لم يكن موفقاً.

بين المصلحة والإستحسان

على ذلك فإن للإستحسان عدداً مختلفاً من المبادىء والمفاهيم المستخلصة من تعاريف العلماء له. فقد عرّفه النسفي الحنفي بانه (العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، أو هو دليل يعارض القياس الجلي). وعرفه الكرخي الحنفي بأن (يعدل الإنسان عن ان يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه يقتضي العدول عن الاول). ومن المالكية عرفه ابو بكر بن العربي وتابعه الشاطبي بنفس القول: (الإستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل باقوى الدليلين. فالعموم اذا استمر والقياس اذا اطرد، فإن مالكاً وابا حنيفة يريان تخصيص العموم باي دليل كان من ظاهر أو معنى). كما ونُقل عن ابن العربي تعريفه بأنه (ايثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته). ومن الحنابلة عرفه الطوفي بقوله: (أجود تعريف للإستحسان أنه العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب احمد) . وهناك من عرف الإستحسان بتعريف لم يُقبل لدى الأصوليين المعروفين، وهو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة على اظهاره ولا يقدر على ابرازه. وقد اعتبر الغزالي هذا التعريف هوساً .
والملاحظ من التعاريف السابقة أن الإستحسان هو ترجيح بدليل في قبال دليل آخر أقل قوة منه، فيرجح مثلاً القياس الخفي على الظاهر، أو المصلحة أو العرف على القياس. الأمر الذي جعل الشوكاني يذهب إلى عدم جدوى إفراده كأصل مستقل، ذلك ان مآله عند التحقيق هو إما إلى العمل بالقياس أو العرف أو المصلحة، وبالتالي فإن (ذكر الإستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه اصلاً) .
والحقيقة ان ما انتهى اليه هذا الفقيه الزيدي يصدق فيما لو عوّلنا على المفاهيم التي حددت الإستحسان بترجيح دليل إجتهادي على آخر نظير له. والحال ان من ضمن ما يُقصد به هو المقابلة بين الدليل الإجتهادي وحكم النص، أي العمل على تخصيص عموم النص بالأدلة والقواعد الإجتهادية. وبذلك فإن للإستحسان فائدة علمية تجعل منه أمراً مستقلاً. فالقياس بخلاف الإستحسان لم يوضع في قبال النص، بل هو مستمد من روحه ليطبق على ما لا نص فيه، وأن المصلحة مستمدة من روح المقاصد لتطبق على حادثة لم يرد ذكرها بنص ولا أمكن ربطها به على نحو القياس، وكذا العرف ليس مستمداً بدوره من النص ولا القياس. فهذه الأدلة هي أدلة إجتهادية حينما لا يكون هناك نص في الحادثة. وعليه لو كان الإستحسان مجرد ترجيح هذه الأدلة بعضها على البعض الآخر للزم عدم جدوى إفراده مستقلاً، فهو لا يعبر في هذه الحالة الا عن ترجيح بعض تلك الأدلة على البعض الآخر وفقاً لتقدير قوتها. لكن حيث أنه يتجاوز هذا المعنى من الترجيح في بعض خصوصياته ووظائفه، فيجعل العلاقة ليست فقط بين الأدلة الإجتهادية بعضها مقارنة بالبعض الاخر، بل بين بعض تلك الأدلة وبين النص في عمومه، لذا فنحن هنا إزاء فعل جديد لا يمكن رده إلى مجرد القياس أو المصلحة أو العرف، وهي التي وُضعت أساساً بعيداً عن أن تكون في تماس من التأثير على حكم النص تبعاً لمفاهيمها المعروفة.
وبتعبير اخر، رغم ان الإستحسان قائم فعلاً على تلك المبادئ الإجتهادية لا غيرها، الا ان له وظيفة جديدة لا تتضمن تلك المبادئ، ألا وهي التضييق من المساحة التي يمكن أن يشغلها حكم النص فيما لو ترك وحاله. فعلى الأقل لا يقتصر الإستحسان لدى المالكية على ابراز الاستثناء والترجيح من القواعد العامة للادلة الإجتهادية فيما لا نص فيه كالقياس، وانما يضاف اليه ما يدخل ضمن الاستثناء الخاص بعموم النص الشرعي. أي ان الدليل الإجتهادي - كالمصلحة مثلاً - يعمل على تخصيص النص، فيدخل هذا ضمن عنوان الإستحسان. وهو أمر سبق أن أكد عليه الشاطبي ونسب هذه الطريقة إلى كل من ابي حنيفة ومالك كما مرّ معنا خلال تعريفه للإستحسان. فمن الأمثلة التي تضرب على هذا النوع من الإستحسان هو ما قام به عمر بن خطاب في إيقافه لقطع الأيدي عام المجاعة باعتباره تخصيصاً لعموم النص في آية السارق .
هكذا فطبقاً للوظيفة الجديدة يصبح للإستحسان أدوار متعددة كما يلي:
1 ـ الإستحسان عبارة عن ترجيح دليل إجتهادي على آخر مثله، كترجيح القياس الخفي على الظاهر.
2 ـ الإستحسان عبارة عن استثناء لقاعدة عامة إجتهادية بدليل إجتهادي اخر، فيعمل على تخصيص هذه القاعدة أو الحاكمية عليها، كتخصيص القياس بالمصلحة أو العرف، أي حاكمية أحد هذين الأخيرين للأول. وهو ما يعرف بالعدول بحكم المسألة عن نظائرها.
3 ـ الإستحسان عبارة عن استثناء لعموم النص بدليل إجتهادي، فيكون الدليل مخصصاً لهذا العموم أو حاكماً ومقدماً عليه .
واذا انتزعنا من هذه الوظائف والخصائص تعريفاً للإستحسان فإنه يكون كالتالي:
الإستحسان هو جعل الدليل الإجتهادي حاكماً على دليل العموم في النص ومقدماً على غيره من الأدلة الإجتهادية الأخرى، سواء بالترجيح أو بالعدول والتحكيم (التخصيص).

شروط المصلحة

إن أول شرط أساس اتفق عليه العلماء هو ان مجال الأخذ بالإستصلاح يجب ان يكون خارج حدود دائرة العبادات، سيما تلك التي لا يدرك مغزاها على وجه التحديد. بل ان البعض كالاستاذ عبد الوهاب خلاف اعتبر هذا الشرط لا يقتصر على المصلحة، بل يشمل ايضاً القياس والإستحسان ومختلف ضروب الإجتهاد في القضايا التي لا نص فيها، زاعماً اتفاق كلمة العلماء على أنه لا إجتهاد في العبادات، ومثل ذلك الحدود والكفارات وفروض الارث وشهور العدة بعد الموت والطلاق وكل ما شرع محدداً مقدراً. وأما ما عدا ذلك من أحكام المعاملات والتعزيرات وطرق الاثبات واحكام الاجراءات وسائر أنواع الأحكام فقد اختلف العلماء في الاستنباط فيها بالإستصلاح .
لكن مع ما يلاحظ من ان العلماء إتفقوا فعلاً على أن تكون المصلحة المرسلة خارج دائرة العبادات باعتبارها تعني اعطاء حكم جديد لحادثة بكر لم يرد ذكرها بالشرع طبقاً لإدراك العقل للمصلحة والمفسدة، ولا شك ان ذلك يكون بعيداً عن دائرة العبادات باعتبارها موقوفة فكيف يمكن ان يضاف اليها شيء آخر بالمصلحة العقلية؟!.. إلا أن الحال مع القياس والإستحسان مختلف، إذ لا يمكن قبول الدعوى التي تقول بأن العلماء إتفقوا على أن يكون هذان المبدءان جاريين خارج حدود العبادات على إطلاق. فهذا الزعم الذي صرح به الأستاذ خلاف يعارضه المسلك الذي عليه الصحابة والعلماء فيما لو أُخذ على إطلاقه. فهناك شواهد كثيرة تثبت ان هؤلاء أجروا القياس والإستحسان حتى في دائرة العبادات والتقديرات والحدود وما إليها. فالقياس وإن كان فعلاً يدور على الحوادث التي لا نص فيها؛ الا ان مرجعه فهم النص، وبالتالي فقد يرد في العبادات وغيرها ما يمكن ان يناط به لتحديد الحكم على الحوادث الجديدة، وذلك عندما تكون هذه العبادات مفهومة المعنى لينشأ منها القياس، وعلى حد قول الشاطبي ان كثيراً من العبادات هي كالعوائد (لها معنى مفهوم هو ضبط وجوه المصالح) . فمن هذه الناحية ان العلماء أجروا القياس في العبادات وما اليها. ومن ذلك القياس الذي قدرت به عقوبة شارب الخمر، حيث جاء في أحد الآراء أنه لم يرد هناك حد لتلك العقوبة في عهد النبي (ص)، ولما جاء عمر (رض) أراد تحديدها فاستشار الصحابة، فأشار عليه الإمام علي (ع) بثمانين جلدة مستدلاً بدليل قياسي هو أنه (اذا شرب سكر، واذا سكر هذى، واذا هذى افترى). وقد نقل العلماء هذا الحد وقبلوه حتى ولو كان نتاج القياس، وعلى رأسهم الإمام مالك في (الموطأ) . ونفس الشيء فيما يخص القياسات الخاصة بموارد النجاسات، ومنها القياس الظاهر لنجاسة سؤر سباع الطير على سباع البهائم والذي رجح الحنفية عليه القياس الخفي كما مر علينا. بل ذهب ابن العربي - وهو من المالكية - صراحة إلى صحة القياس في المقدرات خلافاً لأبي حنيفة . ومثل ذلك ما ذهب اليه صفي الدين الحنبلي ، وايضاً جماعة من الشافعية من امثال القاضي أبي الطيب وسليم وابن السمعاني وأبي منصور ، حيث ذهبوا إلى صحة القياس حتى في موارد الحدود والكفارات.
وكذا الحال يقال بخصوص الإستحسان، إذ أن من ضمن ما يعنيه هو تخصيص النص؛ لذا فهو يقبل التأثير على العبادات والحدود وما اليها، والا فما معنى تغيير عمر للحد عام المجاعة والذي اعترف الاستاذ خلاف بانه من الإستحسان؟! ومثله نفي الضرر، والعسر عند التعارض مع حكم النص والذي اعتبره العلماء من الإستحسان الذي يقدم فيه على عموم النص سواء في دائرة العبادات أو المعاملات. بل ان خلاف ذاته يذكر دليلين على الإستحسان؛ أحدهما وهو الاهم، ما ثبت من إستقراء النصوص التشريعية بأن الشارع الحكيم عدل في بعض الوقائع عن موجب القياس أو عن تعميم الحكم إلى حكم آخر جلباً للمصلحة أو درءاً للمفسدة، وذكر على ذلك أمثلة بعضها مستمد من العبادات والتعبدات وليس المعاملات، مثل تحريم الله تعالى للميتة والدم وغيرهما، واستثنى من ذلك المضطر، كذلك توعد من كفر به واستثنى من ذلك التقية .
إذاً، ان الإجتهاد لدى الصحابة والعلماء في القضايا التي لا نص فيها لا ينحصر كله في دائرة المعاملات، اذا ما استثنينا المصلحة المرسلة باعتبارها عقلية شبه محضة لا علاقة لها بالنص رغم ما لها من علاقة بمقاصد الشرع العامة.

***

مهما يكن فإن مجال المصلحة المرسلة لدى العلماء ينحصر فعلاً في المعاملات ذاتها. لكن مع ذلك اختلف العلماء في سائر الشروط التي حددوا بها حجيتها. فاذا كان الإمامية يوردون شرطاً واحداً هو قطعية العقل بالحكم؛ فإن الغزالي من الشافعية يزيد على ذلك فيرى أنه لا بد من شروط ثلاثة كما يلي:
1 ـ أن تكون ضرورية داخلة ضمن مقصود الشرع من الضرورات الخمس دون سواها، والتي هي عبارة عن: الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
2 ـ أن تكون كلية لا جزئية.
3 ـ أن تكون قطعية أو شبه قطعية لا ظنية .
ولتوضيح ما يريده الغزالي من هذه الشروط فإنه يضرب مثلاً على ذلك. وهو ان من المعلوم حرمة قتل المؤمن عمداً، لكن اذا صادف في الحرب أنْ تترس العدو بمؤمن أو أكثر بحيث أن قتل العدو يفضي لا محالة إلى قتل المؤمن معه، ففي هذه الحالة لا يجوز قتل المؤمن الا ضمن الشروط الثلاثة الآنفة الذكر، وهو أنه بدون قتله يُستأصل جميع المسلمين من غير حصر، وهذا هو شرط الكلية في المصلحة. لذا لو قُتل عدد محصور من المسلمين كعشرة أو مائة وما اليه؛ لما جاز قتل ذلك المسلم رغم الفارق في الكثرة والقلة. ومثله لو زاد عدد راكبي سفينة عن حمولتها بحيث لو لم يُرمَ احدهم لغرقوا جميعاً؛ فإنه لا يباح ذلك الرمي لأن المصلحة هنا جزئية لا كلية. وقد يقال ان العمل في هذه الحالة يمكن أن يعالج بالقرعة، لكن الغزالي منع ذلك ونفى ان يكون لها أصل في الشريعة.
كذلك يرى الغزالي أنه لا بد ان تكون المصلحة ضرورية. فلو تترس أهل قلعة بمسلم أو أكثر فإنه لا يباح قتل الاسير المتترس به لأجل فتح القلعة، باعتبارها ليست ضرورية. وكذا لا بد ان تكون المصلحة قطعية أو شبه قطعية، ذلك أنه اذا لم نقطع بقتل كافة المسلمين لما جاز قتل الترس في الدفع .
تلك هي الشروط الثلاثة والأمثلة التي اوردها الغزالي حولها. ويلاحظ ان هذا الإمام يعترف بأن مقصود الشرع هو تقليل القتل وحسم سبيله عند الامكان، بل ويعتبر ان العلم بهذه المصلحة لم يأت بدليل واحد وأصل ونص معينين، وانما بأدلة خارجة عن الحصر؛ تتمثل بتفاريق الأحكام واقتران الدلالات التي لم يبق معها شك في كون حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين . لكن رغم ذلك فإنه لم يقبل الترجيح بالمصلحة طبقاً لأهمية الكثرة في قبال القلة، بل توقف عند حدود الكلية في قبال الجزئية، أو اللا محصور في قبال المحصور، وذكر بأن للعلماء خلافاً في الرأي حول ذلك، لكنه اعتقد بصحة الترجيح انطلاقاً من ترجيح مقصود الشرع الأهم على المقصود الأقل منه اهمية، أي الكلي على الجزئي، لكثرة الدلالات والقرائن من النصوص الدالة على ضرورة حفظ الإسلام ورقاب المسلمين مما هو مقدم على حفظ شخص معين. أما ترجيح الكثير على القليل، كما في السفينة وفي المخمصة أو المجاعة لعدد محصور؛ فلم يجوزه استناداً إلى دعوى الاجماع، حيث أشار إلى ان الأمة أجمعت على أنه لو أُكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله، كما أنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة .
ذلك هو رأي الغزالي في شروط المصلحة. وقد نُقد من قبل القرطبي بأن القيود التي وضعها لا ينبغي ان يُختلف في اعتبارها . أي أن شروط الغزالي ليست شروطاً بقدر ما هي من المسلمات التي ينبغي أن تُقبل كحد أدنى. لهذا فقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى الأخذ بالمصالح حتى مع عدم ضرورتها وكليتها وقطعيتها، طالما أنها مما لم ينص الشرع على إلغائها وكانت مما يلائم مقاصده وانها معقولة في ذاتها بحيث لو عرضت على العقول تلقتها بالقبول .
فقد ذكر الشاطبي في (الاعتصام) ان شروط المصلحة عبارة عما يلي:
1 ـ أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع دون ان تتنافى مع أصل من اصوله ولا دليل من أدلته.
2 ـ أن تكون عقلائية بحيث تتقبلها العقول عند عرضها عليها. لذا لا مدخل لها في التعبدات.
3 ـ أن تكون راجعة إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين. فرجوعها إلى حفظ الضروري من باب ما لم يتم الواجب الا به وجب. أما رجوعها إلى رفع الحرج فراجع إلى باب التخفيف في قبال التشديد .
فيما اعتبر بعض آخر ان المصلحة مشروطة بأن تثبت بالبحث وإمعان النظر والإستقراء، وانها حقيقية لا وهمية، وان تكون عامة لا شخصية بحيث تجلب لاكثر الناس نفعاً أو تدرأ عنهم المضرة، وان لا تعارض نصاً ولا اجماعاً .
وقد يقال ان بعض الشروط المذكورة لا يجعل من المصلحة دليلاً مستقلاً . فشرط رفع الحرج في الدين مثلاً لا يحتاج إلى استقلالية المصلحة، ذلك ان دليل رفع الحرج هو من القواعد الشرعية المقررة التي يتأسس بها الحكم. ونفس الشيء يقال في شرط حفظ الأمر الضروري، حيث يعلم شرعاً ان ذلك واجب.
وربما يجاب على الإشكال بأن حكم المصلحة ليس في حد ذاته داخلاً ضمن حفظ الأمر الضروري أو رفع الحرج وانما هو مقدمة (عقلية) يلزم عنها ذلك، ولو على سبيل الظن لا القطع.
ومع هذا لا نرى ان حكم المصلحة مما يتوقف على هذين الأمرين، كما لا نرى لزوم الشرط القائل بأن تكون المصلحة عامة لا شخصية. إذ يكفي لجريان حكمها اعتبارها عقلائية وملائمة لمقاصد الشرع العامة. فبهذا الاعتبار يمكن الأخذ بالمصلحة الشخصية. كما يمكن الأخذ بالمصالح الكمالية مما لا يعود إلى الضرورات المتعارف عليها، ولا إلى رفع الحرج، وذلك بما يتسق مع التطورات التي يمر بها الإنسان في خلافته الأرضية.
بذلك فإن شروط المصلحة تكون على النحو التالي:
1 ـ ان تكون مبنية على البحث والاستقصاء ليُعرف أنها مصلحة حقيقية. ومن ذلك أنها لو عرضت على العقول لقبلتها.
2 ـ ان تكون مصلحة ذات شأن يعتد به قوة أو منفعة.
3 ـ ان لا تكون معارضة لمصلحة أخرى أهم منها واقوى، سواء منصوص عليها أو غير منصوص.
4 ـ ان تكون مما يتسق مع مقاصد الشرع والفطرة الإنسانية، بحيث ان العمل بخلافها يقتضي التضارب مع هذه المقاصد أو الفطرة.
فمن هذه النقاط يتبين ان العمل بالمصلحة إنما هو عمل بالمقاصد، أي ان هذه الاخيرة هي المحددة لطبيعة المصلحة اللازمة.
ونلفت النظر إلى ان بدون هذه الشروط لا يعني عدم جواز العمل بالمصلحة، إنما كل ما يعنيه ذلك هو أنها ليست موضع إلزام وإيجاب. إذ بدون تلك الشروط، يمكن ارجاع جواز العمل بها إلى العفو الذي سمح الشرع بممارسته وتركه من غير أمر ونهي فيما لو لم يكن هناك دليل إجتهادي ناهض. وكذا يمكن العمل بها باعتبار الأولوية، من دون ان يلزم ذلك الإيجاب.

شرعية العمل بالمصلحة

بعد ما قدمنا يأتي السؤال كما يلي:
ما هو الدليل على شرعية وجوب العمل بالإستصلاح؟ فمن المعلوم ان بعض المذاهب الإسلامية وعلى رأسها الشافعية رفضت الأخذ بالمصلحة لعدم الدليل الشرعي عليها. فالشافعي ينفيها من حيث أنها إحداث حكم لا على مثال سبق مثلما هو الحال في القياس . وكذا الآمدي من الشافعية منع الأخذ بها تعويلاً على كونها مترددة بين ان تكون معتبرة أو ملغاة، أو أنها ليست معروفة شرعاً من حيث اعتبارها والغائها . وزاد البعض شبهة كون العقل يغلب عليه الهوى وتخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد ، الأمر الذي يجعلها غير منضبطة، بخلاف الحال مع القياس - مثلاً - حيث مرده إلى فهم النص لا العقل المستقل. وقد سبق ان عرّض البعضُ ابا حنيفة واصحابه للطعن لتمسكهم بمبدأ الإستحسان بحجة أنه فاقد للضابط، كما نقل ذلك البزدوي صاحب (كشف الاسرار) .
وفعلاً ان هذا المبرر يلقى مصداقية كبيرة في واقع التشريع بسبب التوظيف الذي مارسته السياسة الحاكمة لتوجيه الآراء الفقهية لصالحها. فلعدم وجود الضابط مع كثرة الاهواء، سيما هوى السياسة، فإن الكثير أخذوا يستحسنون ويستصلحون لأدنى مبرر ومناسبة. وسبق للقرافي أن كشف عن سبب عزوف العلماء عن استثمار مبدأ المصالح المرسلة وتوظيفها، معطياً للجانب السياسي مركز الصدارة في ابتعاد الفقهاء الورعين عن ممارسة هذا المبدأ الفقهي، وذلك - كما يقول القرافي - بسبب خوفهم (من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لإتباع أهوائهم وارضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا ان يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها بإجتهاد الأمراء والحكام) . وعلى هذه الشاكلة اضطر ابن تيمية إلى ان يبتعد عن العمل بهذا المبدأ لإرتكاز أهل الأهواء عليه .
مع ذلك فواقع الأمر ان نفس هذا الإشكال ينطبق على القياس ايضاً، حيث ظهرت الكثير من القياسات التي لا تنسجم مع المبدأ المقرر له، حتى ذكر ابن القيم في كتابه (اعلام الموقعين) حالات كثيرة من القياسات غير المنضبطة بالضابط الشرعي، بل جاءت متناقضة ومخالفة لنصوص الإسلام ومبادئه، وبلغت الصفحات التي سوّدها هذا الفقيه لبيان هذه القياسات غير المنضبطة ما يقارب الأربعين صفحة . وكذا ما ذكر من أمثلة لإجتهادات فقهية كثيرة العدد تقارب الستين شاهداً؛ تعدل عما جاء من نصوص شرعية وتردها .
لهذا كان نفاة القياس والإستصلاح والإستحسان يكررون ذات العلة من تلك الشبهة.. فقد كان داود الظاهري من العاملين بالقياس في أول أمره، خاصة وقد تتلمذ على يد الشافعي، الا أنه عدل عن ذلك بعد ان رأى توسعه بغير ضوابط وحدود. وقد قيل له كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟ فقال: أخذت أدلة الشافعي في إبطال الإستحسان فوجدتها تبطل القياس. وإن كان أحمد بن كامل بن خلف يعتقد بأن داود رغم أنه رفض القياس الا أنه اضطر اليه فسماه دليلاً، كما نصّ عليه الخطيب البغدادي الذي نقل عنه في ترجمته: (إنه أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام قولاً، واضطر اليه فعلاً، وسماه دليلاً) .
على ان الأدلة التي كانت موضع اهتمام المتقدمين من الفقهاء هي تلك التي تناط بأصول ونصوص معينة محصورة، وهي في الغالب لا تتجاوز حدود الظن لكونها محدودة. وقد انساق سائر الفقهاء التابعين يقلدون أئمتهم في القضايا التي نصوا عليها اصولاً وفروعاً، ومنها أصل المصلحة، مما جعل قضاياهم غير قابلة للحسم. لكن بعض المتأخرين تقدم في صياغة الدليل خطوة، ربما بدأت أول الأمر بالغزالي ثم تكاملت عند الشاطبي. فبخصوص المصلحة نرى الغزالي لا يعود بها إلى دليل معين وانما إلى أدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الامارات، مما جعله يعتبرها حجة قطعية لا تقبل الخلاف ، لكنه قيدها بقيود ثلاثة لا وجه لها.
مهما يكن فإن مفاد هذا السلوك مستمد من الدليل الإستقرائي وإن لم يسمه، فضلاً عن أن ينظّر له. وقد استمر هذا الحال إلى أن جاء الشاطبي (المتوفى سنة 790هـ) فأولاه جلّ اهتمامه في كتابه (الموافقات)، حيث استطاع ان يؤسس هذا المنهج الجديد ومن ثم يعيد صياغة القضايا الأصولية بعد عرضها على محك الإستقراء، فكان من نتائج هذا الجهد أن خرج باثبات العديد من القضايا الأصولية على نحو القطع، بينما كان المتقدمون لا يولون أهمية إلا لتتبع النصوص المباشرة المحصورة ذات الأفق غير المتعدد الوجوه، مما يجعل قضاياهم لا تفيد الا الظن. الأمر الذي نبّه عليه الشاطبي في بعض كلماته .
هكذا يُعد الشاطبي بحق صاحب منهجة جديدة في التنظير للإستقراء في الشرعيات. فبفضل وعيه الإستقرائي استطاع ان يدلل على العديد من القضايا الأصولية، ومنها المصلحة التي أناطها بمرجعية شرعية راسخة وقاطعة. الأمر الذي جعله يقف على أرض صلبة قوية بعيداً عن الظنون والتكهنات التي مُلئت بها كتب الفقه والأصول. فلم يعد الاهتمام منصباً على نصوص أحادية غالباً ما تبعث على الظن أو ما دونه، سواء من حيث السند أو المتن والدلالة، وانما أصبح الشاغل في الاهتمام هو البحث القائم على تجميع الظنون تجاه معنى محدد لإفادة القطع منها.
ولا شك أن طريقة الشاطبي تتجاوز مبدأ رد المصلحة إلى دليل إجتهادي آخر كالذي فعله الحنابلة في إرجاعها إلى القياس. فعملية الإستقراء تنطوي على تتبع مراعاة الشارع للمصلحة في مختلف المواضع والقضايا، فيتولد من ذلك أصل مستقل مقصود هو ما يطلق عليه المصلحة، والتي تتنافى مع القياس أحياناً فتتقدم عليه. لهذا يرى الشاطبي بأن (الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت ادلتها عموماً وخصوصاً، دلّ على ذلك الإستقراء) . وهو بهذا يعتبر جميع أحكام الشريعة بحسب الإستقراء لا تخلو من مصلحة ضمن مصالح ثلاث هي الضرورات والحاجيات والتحسينات، ولكل منها ما يكملها.
لكن رغم ذلك علينا ان نعترف بأن ما قام به الشاطبي لم يغير ـ في واقع الأمر ـ حقيقة الخلاف بين الفقهاء، حيث رهنوا انفسهم في التبعية الفقهية دون النظر إلى أصل الدليل، خاصة وان أبواب الإجتهاد قد اوصدت، واخذت فكرة الانسداد تتغلغل إلى أذهان الفقهاء وتستحوذ على نفوسهم، مما جعل إعادة النظر في الخلاف الفقهي والاصولي بين المذاهب تكاد تنعدم أو تندر قبل العصر الحديث، لا سيما بعد عصر الشاطبي، عصر ما يسمى بالانحطاط.
وما يعنينا هو ما قام به الشاطبي من عرضٍ لأمثلة كثيرة من الأحكام الشرعية، في المعاملات والعبادات والتقديرات، تدخل ضمن عناوين النهي لولا ان الشريعة راعت فيها جوانب المصلحة والتيسير، فاعتبر ذلك مدركاً شرعياً على صحة العمل بمبدأ الإستحسان. ومن الأمثلة التي ذكرها بهذا الخصوص:
(القرض فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى اجل، لكنه ابيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقى على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين. ومثله بيع العَرِيَّة بخرِصِها - أي تقدير ما على النخل من الرطب - تمراً ، فإنه بيع الرطب باليابس، لكنه ابيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعرِي والمُعرَى. ولو امتنع مطلقاً لكان وسيلة لمنع الإعراء، كما ان ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه. ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر، وجمع المسافر، وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل، وصلاة الخوف، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك، لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى اقصاه. ومثله الاطلاع على العورات في التداوي، والقراض، والمساقاة، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع، وأشياء من هذا القبيل كثيرة) .
وهو في محل آخر دلل بواسطة الإستقراء على ان الشارع قصد في أحكامه العادية مصالح العباد (فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فاذا كان فيه مصلحة جاز؛ كالدرهم بالدرهم إلى اجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض. وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ويجوز اذا كان فيه مصلحة راجحة.. وقال تعالى: ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب))، وقال ((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل))، وفي الحديث: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، وقال: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال: (القاتل لا يرث)، ونهى عن بيع الغرر ، وقال: (كل مسكر حرام)، وفي القرآن: ((انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر))، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وان الإذن دائر معها أينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة، فدلّ ذلك على ان العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني) .


منهج الشاطبي وترجيح المصلحة على النص

يمكن توظيف طريقة الشاطبي في الإستقراء لأوسع مما أرادت تثبيته. ذلك أنها اذا كانت دالة على مراعاة الشارع لمصالح الواقع، ويؤيده ما عليه سجية الصحابة من العمل وفق هذا المبدأ بلا اعتراض، وهو ما يكشف عن الموافقة الشرعية؛ فإن مآل هذه الطريقة هو الانسياق إلى جعل حجية المصلحة لا تصدق مع القضايا غير المنصوص فيها فقط، بل حتى مع تلك التي يرد فيها النص، الأمر الذي يبرر تغيير الحكم، ليس فقط بحدود التغيير الجزئي من تخصيص عام النص، وهو ما يسلّم به الشاطبي تحت عنوان الإستحسان، وإنما ايضاً على نحو التقييد والتغيير الكلي، وذلك لإعتبارين مستخلصين من هذه الطريقة، كالذي سبق اليهما الطوفي الحنبلي في تبريره لصحة تخصيص النص بالمصلحة أو حاكمية الأخيرة عليه، كما سيمر علينا:
- أحدهما ما دلل عليه الشاطبي من صحة مبدأ الإستحسان، إذ تبعاً للإستقراء لاحظ جملة من القضايا التي عدلت فيها الشريعة عن قواعدها ومقتضياتها نزولاً عند المصلحة، فأدرك أن ذلك دال على صحة تخصيص النص بها. لكن اذا علمنا أن هذه الدلالة تكشف عن أن ملاك التغيير - ولو في حدوده الجزئية - إنما هو المصلحة ذاتها؛ أضحى لا فارق حينها بين ان يكون التغيير جزئياً أو كلياً مادامت المنافاة مع الملاك حاصلة. فلو ثبت أن الحكم لا يتسق مع ما عليه المصلحة؛ لكانت الضرورة قاضية بتغييره، جزئياً كان أو كلياً، بحسب حدود دائرة تلك المضادة وعدم الاتساق. وهو أمر يؤكده ما جرى في الشرع من تغييرات كثيرة للأحكام باعتبارات المصلحة وتغيرات الواقع، كما يشير اليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
- أما الاعتبار الثاني المستخلص من طريقة الشاطبي فهو أنه بطريقة الإستقراء عدّ المصالح مقاصد شرعية تُبتغى وراء أحكام النصوص بمختلف صنوفها وأنواعها، سواء في العبادات أو المعاملات أو الحدود والتقديرات. الأمر الذي يقضي بضرورة تقديم المقاصد على الوسائل عند التعارض، مما يدل على صحة حاكمية المصلحة على غيرها من الأحكام ذات الصفة الوسيلية، وبالتالي جاز تغييرها بما يتفق مع تلك المقاصد، باعتبار أن الأخيرة هي المقصودة والأهم؛ شرعاً وعقلاً.
هكذا يتبين ان طريقة الشاطبي في التأسيس تجر ولا شك إلى وجوب الأخذ بالمصلحة ليس في القضايا غير المنصوص فيها، وانما حتى في غيرها من القضايا المنصوصة. واذا أردنا أن نضع المزيد من الاعتبارات الدالة على صحة هذا المنهج فيمكن ملاحظة النقاط التالية:
1 ـ بحسب الإستقراء يلاحظ ان الشرع قد اتبع منهج تنويع الأحكام وتغييرها استناداً إلى المصالح. الأمر الذي عُدّ ذلك دليلاً على حجية الإستحسان. وهو ما يكشف عن كون المصلحة هي الملاك المعوّل عليه في التنويع والتغيير.
2 ـ ان ما يبرر ترجيح المصالح على الأحكام الشرعية عند التعارض هو ان الإستقراء دال على ان الأولى هي المقصودة من الأحكام، وان الشارع كان حريصاً على مراعاتها وتوخّيها. بينما الأحكام ليست - في الغالب - سوى وسائل لتحقيق تلك المصالح. ومن الواضح ان المقاصد تتقدم على الوسائل وتترجح عليها عند المعارضة.
3 ـ إن ما يظهره الإستقراء من التنويع والتغيير للأحكام طبقاً للمصالح التي أولاها الشارع جلّ اهتمامه؛ لا يفسر الا على ضوء حدوث عناصر جديدة في الواقع عملت على تغيير الموضوعات التي تناط بها الاحكام. فقد سبق ان عرفنا - كما في كتاب جدلية الخطاب والواقع - ان الحكم الشرعي لا ينشأ ولا يتغير الا تبعاً لمراعاة الواقع، وان مبرر التغيير لا يحصل الا بحدوث تبدل في عناصر هذا الاخير . فلولا هذا التبدل ما كان لتغيير الحكم من معنى؛ استناداً إلى الحكمة الإلهية بدلالة العقل والشرع. وعليه فإن حدوث المصلحة يكشف عن تجدد عناصر الواقع الخاصة بالموضوع الذي يناط به الحكم الشرعي. الأمر الذي يستدعي تغييره بما يتسق مع هذه المصلحة كمقصد، وبما يتفق مع الموضوع المستحدث ذي العناصر الجديدة.
4 ـ كما يلاحظ ان العلاقة بين المصلحة والضرر هي علاقة ضدية، بحيث اذا وجد أحدهما انتفى الآخر وبالعكس، كما ذهب إلى ذلك العديد من الفقهاء، مع أخذ اعتبار الشكل النسبي من هذه العلاقة، حيث قد تكون المصلحة ضعيفة فيكون الضرر الذي يقابلها ضئيلاً لا يلتفت اليه، وكذا العكس، وهو الأمر الغالب في الحياة الإنسانية، حيث تنطوي على مزيج مركب من هذه العلاقة الدائمة. فعلى هذا الاعتبار ان تفويت المصلحة القوية يفضي إلى الوقوع في الضرر القوي، وحيث ان هذا الضرر منهي عنه شرعاً، لذا كان الموقف من التعارض الحاصل بين الضرر وبين حكم النص؛ هو إما العمل بنفي الضرر وترك الحكم، أو العمل بالحكم رغم ما يفضي اليه من الضرر، لكن الشرع - على اتفاق - لا يرضى بالضرر كما في الحديث المأثور (لا ضرر ولا ضرار)؛ لذا كان الجمع بين الأمرين هو تقديم هذه القاعدة المصلحية على حكم النص، بمعنى أنه لا يصح العمل بالحكم مادام يسبب الضرر المعتد به، وعند انتفاء الضرر وجب الإلتزام بالحكم كما نبّه عليه الطوفي على ما سيأتينا.
كذلك فإن تقدير المصلحة والضرر لا يتخلف عن حدود الحالة التي عليها الإنسان ودرجة تطور الحياة. وبالتالي فلا غنى عن أخذ اعتبارات النسبية للحكم والتقدير، سواء في نوع المصلحة أو مستواها. فمثلاً ان استخدام أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) وتداولها يحمل من المصلحة ما لا ينكر لمختلف مجالات الحياة. وقد يتراءى للبعض ان مثل هذه المصلحة ليست قوية، إلى الحد الذي يجوز فيه الاستغناء عنها بما لا يفقد الإنسان شيئاً كان يملكه. لكن اذا نظرنا للأمر من زوايا متعددة نجد ان هذه المصلحة بالغة الأهمية، وان فقدها يوقعنا بأضرار كبيرة متباينة يصل بعضها إلى الخطورة. فابتداءً ان الاستغناء عن هذه المصلحة وما شاكلها يتضارب أساساً مع الطبيعة التي جُبل عليها الإنسان وهي تسخير طاقاته الكامنة بما يحقق له المزيد من التطور والكمال. الأمر الذي يفضي إلى إلغاء الفارق النوعي بين الحياة المعدمة الساكنة كحياة البدو، والحياة المدنية المتطورة بكل ما تنعم به من نِعم ومسخّرات. وهذا يعني إنكاراً لأهمية حركة التاريخ وتطور الإنسان.
ومن ناحية أخرى يمكن لتلك الأجهزة ان تساهم في سدّ حاجات المجتمع الملحة وغير الملحة، الأمر الذي يؤكد الحاجة اليها واعتبارها مصلحة لا غنى عنها.
ولو نظرنا إلى المسألة من زاوية مقاييس الحالة والعصر فإن الاستغناء عن أمثال تلك المصلحة لا بد ان يعرّض المجتمع إلى حالة من النقص والتخلف الشديدين مقارنة بغيره من المجتمعات، بل ويمكن ان يرمي به إلى صور خطرة من الأضرار التي قد تنجم عن عدم قابليته للصمود أمام المنافسات التي تبديها القوى الدولية في المجالات المختلفة؛ كالاقتصاد والسياسة والعلم والإعلام والثقافة، فضلاً عن الجوانب العسكرية، مما قد يعرّض البلد للافتراس أو السقوط قبال تلك الضغوط.
وواقع الأمر إن إقرار المصلحة في مثالنا الآنف الذكر يشبه إلى حد كبير الاقرار الخاص بالمصلحة من التعليم الالزامي. فلولا التعليم لظل الإنسان يعاني من الجهل والحرمان من الرشد. وهو وإن لم يفقد شيئاً كان يملكه، إلا أن كماله الطبيعي لا يتم الا بالعلم، فالإستغناء عن الأخير يفضي به إلى ضرر الجهل والنقص والحرمان. وان المجتمع الجاهل يتعرض لا محالة لمشاكل وأضرار جمّة كتلك التي ذكرناها في مثالنا السابق.
على أن الضرر المبني على فوات المصلحة قد يقدر من حيث المآل، وكذا ذات الشيء بخصوص المصلحة. فليس بالضرورة ان يكون التقدير ما يحدث فعلاً وآناً، فأحياناً يكون الضرر أو المصلحة من التداعيات اللاحقة. على هذا فرب ضرر يسير لا يعتد به، الا ان أبعاده تفضي إلى ان يكون عظيماً، وكذا الحال مع المصلحة.
والنتيجة الطبيعية لذلك هي لزوم ممارسة التحديث لمختلف مجالات الحياة بما يتسق ومقاصد الشرع في جعل الإنسان المؤمن يمثل أعلى صور الاستخلاف والتسخير في الأرض. وبالتالي اذا كانت المصلحة على أقسام ثلاثة ضرورية وحاجية وكمالية؛ فإن الضرر المضاد لها ينقسم ايضاً إلى ما يقابلها. واذا كان من المسلّم به ان الإستصلاح بحسب القسمين الأولين الآنفي الذكر هو مما يدخل ضمن دائرة الإلزام الشرعي؛ فإن القسم الأخير للإستصلاح كان مورد تحفظ واحتراز لدى الفقهاء، رغم اتساقه مع المقاصد وكونه يحقق فوائد قوية تتناسب مع ما خُلق الإنسان لأجله من الصيرورة في سلّم التكامل.
بل يمكن أن يقال بأن الفاصل بين المصلحة الحاجية والكمالية هو فاصل نسبي. فقد تتدخل اعتبارات كثيرة اجتماعية وزمنية لتحويل ما هو كمالي إلى ما هو حاجي، سيما وأن العلاقات الإنسانية أصبحت متشابكة إلى أبعد الحدود، فأي شيء يمكن ان يؤثر في كل شيء طالما أصبح العالم - كما يعبر عنه - قرية كونية.
فمثلاً إن التعليم الإلزامي إلى سن محدد كسن الرشد يمكن اعتباره مصلحة كمالية في العصور الخالية، أما في العصر الحديث فيعتبر ضمن الحاجات الملحة لما له من تأثير على مستقبل البلد ومصيره. والأمر ذاته ينطبق على انشاء النوادي الثقافية والترفيهية وفتح المكاتب والمؤسسات وانشاء الدساتير واللوائح التي تنظم سلوكيات الناس وتنجز معاملاتهم وتحل مشاكلهم؛ كلها أو اغلبها من المصالح الكمالية في العصور الخالية، لكنها أصبحت اليوم من المصالح المؤثرة على استقرار البلد. وكذا فإن هناك مصالح قد ينظر لها في السابق بأنها من اللهو التي لا تدخل حتى حيز المصالح الكمالية، مثل عروض التمثيل والموسيقا والغناء (المحللة)، بينما هي اليوم من الحاجات الهامة التي يمكن من خلالها لا فقط التأثير على عقلية المجتمع وتوجيهه الوجهة المطلوبة؛ بل وتحصينه من الوقوع تحت هيمنة مثيلاتها من الوسائل الإعلامية المضادة، مما يجعل فائدتها مزدوجة. ويكفي ان نتصور حجم الفارق في التأثير بين إعلام مرئي أو مسموع وهو يحفل بتلك العروض، وبين آخر يخلو منها.
على هذا لم تعد هناك مصالح كمالية دون ان تقبل التوظيف المناسب الذي يحقق سد الحاجات الملحة.
وبشكل عام يمكن تقسيم المصالح العقلائية المحللة إلى أنواع خمسة، ويقابلها نظائرها من المضار:
أ ـ مصلحة يسيرة غير معتد بها.
ب ـ مصلحة قوية معتد بها، وهي المصلحة الكمالية.
ج ـ مصلحة حاجية، كالمصلحة في الملبس والمسكن.
د ـ مصلحة ضرورية أو قوام حياة، كالمصلحة في الحفاظ على النفس من القتل.
هـ ـ مصلحة غائية ومنها المصلحة الحقوقية. كمصلحة الفرد في استرداد حقه من المعتدي، مثل الغصب والسرقة وما إلى ذلك.
ويلاحظ أنه باستثناء المصلحة الأولى فإن جميع المصالح الأخرى لازمة التسديد. أما ما عدا ذلك فلا تعد مقبولة، مثل مصلحة المعتدي في اعتدائه، والمجرم في تنصله من العقوبة.
5 ـ طالما عرفنا ان هناك شواهد عديدة اضطر فيها الفقهاء إلى تغيير حكم النص، وذلك من خلال لجوئهم إلى المقاصد، واعتبار الأحكام المغيَّرة هي أحكام وسيلة ثبت عدم صلاحيتها الاطلاقية أو غير المشروطة.. فهذا المبرر هو في حد ذاته يشفع لأن تؤدي المصلحة دورها من الحاكمية عند تعارضها مع الحكم باعتبارها هي المقصودة من التشريع. فالاعتبار المأخوذ على هذا النحو لا يقل قدراً وقيمة عن الاعتبارات التي وجّه بها الفقهاء تجاوزهم لبعض الأحكام أحياناً.
6 ـ يضاف إلى ذلك إن قبول الفقهاء لأصل الإستحسان المتضمن تخصيص عموم النص بالمصلحة، كفيل بحدّ ذاته للسماح بتغيير الحكم بكامله. فما فعله الفقهاء في صياغتهم الأصولية لذلك المبدأ من الإستحسان لا يتجاوز - بنوع من الاعتبار - عن كونه تضييقاً للحكم الظاهر من النص، والتضييق هو شيء من التغيير الجزئي، وبالتالي فلا فرق بينه وبين التغيير الكلي، فكلاهما يعبر عن إجتهاد رغم وجود النص.
نعم يصح القول ان العمل الإستحساني إنما هو فهم لحكم النص وليس تغييراً له. لكنا نقول ان هذا الفهم لم يبنَ على النص ذاته، وانما على عناصر أخرى خارجية؛ عقلية أو واقعية حددت مجال حكم النص، ولولاها لظل عموم الحكم على حاله من غير تغيير. أي أن التشريع هنا هو تشريع غير قائم على ذات النص، لذلك اعتبرناه نوعاً من التغيير لظاهر الحكم. فنحن هنا لا نتعامل الا مع ظاهر النص، ولا نعلم حقيقته على وجه المطابقة واليقين، والظاهر منه لا يفيد التخصيص، بل يفيد العموم كما هو واضح. لهذا يصدق ان يقال - بنوع من الاعتبار - ان التخصيص في العملية الإستحسانية هو حالة من التغيير للحكم الظاهر، بدلالة تأثر هذا الحكم بالعناصر الخارجية، ولولاها لبقي الحكم كما هو. وفي القبال يصح اعتبار ما سبق مجرد فهم للحكم نبّهت عليه تلك العناصر.
لكن ذات الشيء يصدق مع حالة ما اطلقنا عليه التغيير الكلي للحكم. فهو ايضاً عبارة عن فهم لحكم النص، وذلك بإناطته بموضوع محدد خاص على خلاف الظاهر الذي يبدي الاطلاق والشمول. والذي نبّه على هذا الفهم هو ايضاً العناصر الخارجية الخاصة بالواقع، كتلك التي لها علاقة بالمصلحة.
فالمصلحة التي يفرزها الواقع - هنا – تكشف عن حدود الموضوع الذي يناط به الحكم الشرعي. فمن جانب يمكن اعتبار ذلك تغييراً للحكم الشرعي تبعاً لتغير الموضوع بعناصره الواقعية. كما يمكن اعتباره فهماً للنص بتحديد مجال فاعليته إزاء ما يناسبه من الموضوع. وهو من هذه الناحية لا يختلف عن تخصيص الحكم بالمصلحة كالذي عليه طريقة الإمام مالك. إذ تارة يراد بالتخصيص تغيير الحكم الشرعي بتغير موضوعه جزئياً، واخرى يراد به الفهم من حيث ان النص لم يقصد العموم وإن اظهره بدلالة الكشف المصلحي. لذلك لا فرق بين التخصيص بالمصلحة وتغيير الحكم بها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد أنباء سقوط طائرة الرئيس الإيراني.. المرشد الأعلى: لا تعط


.. عالم دين شيعي: حتى القانون الألهي لا يمكن أن يعتبره الجميع م




.. 202-Al-Baqarah


.. 204-Al-Baqarah




.. 206--Al-Baqarah