الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هكذا رقص زوربا

نذير الماجد

2010 / 10 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تتأرجح المعرفة بين تحديدات أساسية تسعى لكشف الماهية وإزالة الغموض وفتح الأبواب الموصدة، والكشف والإزالة والفتح غايات معرفية تتواشج مع تأرجح ثلاثي بين الكينونة والصيرورة والرقص، وهو نفسه الاتساق بين الكشف كأداة للمعرفة المباشرة، والإزالة أو الهدم بما هو تفكير بالمطرقة "نيتشة"، والفتح بما هو نتيجة للمسار العقلي الشاق والطويل لتلك الهيمنة التي ينتجها التمثُل.

منذ البداية وقبل سقراط كانت الأنطولوجيا الإغريقية تتراوح بين مدارين أساسيين: الكائن كائن والكائن صائر، ولكن السمة الأساسية والقاسم المشترك والذي قاد الإغريق الأوائل نحو كشوفاتهم هو دافع الدهشة ولذلك فالحقيقة كما لاحظ هايدغر ليست سوى انكشاف أو تبدي أو ظهور، إن الدهشة هي التي ألهمت ذلك الحكيم الذي من فرط ذهوله سقط في بئر، وهي التي علمت سقراط كيف يحول الفلسفة إلى أسئلة، والتي هي نفسها حالة الذهول الطفلي للإنسان البدائي الذي يقف على هاوية الكون ليصبح شاعرا مدركا بأن ثمة مطلق لا متناهي، وهذه الدهشة البدائية هي نفسها التي قادت البسطامي إلى كشف إلهي في ملهى لمبتهجين راقصين: وجدت الحبيب هنا حيث الرقص واللغة انعكاس واحد لحالة واحدة هي الوجد.

كانت الحقيقة كشفا ثم أصبحت تمثلا، ولأن تاريخ الميتافيزيقيا عند هايدغر هو تاريخ سقوطها نحو ذلك التشويه المتلاحق الذي طال تلك التحديدات الأنطولوجية الأولية، فإن الوجودية الهايدغرية هي عود على بدء، أو بدء آخر لانبلاج أنطولوجي، فالحقيقة ليست تمثلا، أي ليست محاولة لاستدعاء الشيء ليتطابق مع ما في الذهن، وإنما هي استكناه: كشف عن كينونة الكائن، والكشف تأويل، سادية مع النص، إذ لا تأويل دون تغيير أو حركة، والحركة هي في جوهرها فكر، والفكر يغيب كلما أمعنت الكينونة في الحضور بحيث لا يجليها إلا حدس، معرفة مباشرة، كسر صوفي للصدفة نحو ذلك الارتجاج السديمي الذي لا يدركه إلا من تعلم كيف يرقص.

إن افلاطون مستلهما التأويل العددي الفيثاغوري للعالم هو الذي دشن وفقا لبرتراند راسل ذلك الشكل التعميمي والمهيمن للعقلانية التي تحيل الوجود إلى مثل أو صور تعكس قصدا بدئيا لكينونة مستقرة، حيث أن "في البدء كانت الكلمة" والعقل هو امتدادها الطبيعي القادر على كشف الاستمرارية في كون ثابت وسكوني تسوده حالة من الطمأنينة، هذا التصور العقلاني يمثل في التصور المضاد فعل اغتصاب ومصادرة تنتهي بحالة هيمنة وسيطرة يكون العالم من خلالها بمثابة مشروع أو حيز تفكيكي، فالعقل ليس بوسعه إلا أن يجزئ لأن المعرفة العقلية بالكليات لم تفعل سوى مراكمة الغموض وتوليد الأسئلة، ليس العقل إلا أداة لمعرفة الأشياء المفككة أما إدراك الترابط والأشياء في وحدتها فهو من مهام الحدس أو المعرفة المباشرة للإنسان الكامل، والكمال الإنساني ليس تموضعا أخلاقيا أو سلوكيا في حالة وسطية بين إفراط وتفريط، إن الإرادة بحدها الأقصى المتولد من الرقص بوصفه تمددا انطولوجيا أو تحطيما دائما للنسق أو الضرورة أو الحجرة المغلقة للذات هي وحدها التي تصنع الكمال وفقا لتصور زوربا في رواية "زوربا اليوناني" للكاتب اليوناني كزتنزاكيس.

ولكن عندما يكون الرجل كاملا ماذا بوسعه أن يفعل؟ يرقص أو ينفجر، كما يعلمنا زوربا الراقص دائما، ففي الألم كما في الفرح والسعادة عليك بالرقص، الرقص هو كسر للرتابة ومواجهة للألم، لقد نهضت ورقصت، يعلن زوربا، فقيل لي مجنون، لكنه كان الرقص، فقط الرقص هو الذي أوقف الألم. في رقصة زوربا تندمج الثنائيات ويتوحد العالم ويأخذ شكله المتمايل والمتأرجح فيعود إلى أصله السديمي الذي تتساوى فيه الفضيلة والرذيلة، الجهل والمعرفة، العقل والجنون، العمل واللذة، الجسد والروح، وكل الثنائيات التي تنتهي بالخير المطلق والشر المطلق أو الوجود كما هو، لا كما يجب أن يكون، فالرقص هو تمرين على لغة لا يجيدها إلا جسد متوحد بالروح، وهي بالتالي معرفة مباشرة ناتجة عن اتحاد صوفي بالعالم. والعالم يرقص أيضا، كما لو كان في رحلة على ظهر سفينة تداهمها العاصفة ولا تهدأ قبل أن تحدث ارتجاجا أو رقصا عفويا للعابرين السكارى.

وقد جسد كزتنزاكيس هذه الرحلة في مشهد من أروع المشاهد الحافلة بالدلالات الفلسفية والكشف الوجودي: زوربا برفقة المعلم، وهو الصوت الأساسي في الرواية، يرحل إلى كريت "الأم الأصلية للحضارة الاغريقية" عبر سفينة في يوم عاصف، العاصفة تربك المسافرين وتجعلهم يتمايلون ويرقصون كما لو أنهم في حالة سكر أو وجد صوفي، الفتاة وهي في حالة دوار وبلا توازن تسقط قبعتها، والصحون والأواني تتحطم، وزوربا يصطدم بامرأة عجوز" كانت الحبال تصدر صريرا فوق الصواري، والشواطئ تتراقص، وأضحى لون النساء على متن السفينة أصفرا، أشد اصفرارا من الليمون". زوربا اصفر لونه هو كذلك، لكنه ما إن رأى دلفينا حتى وقع تحت تأثير الدهشة، فزوربا الراقص يندهش أيضا، لديه فضول معرفي من النوع الذي يحدث للطفل وهو يواجه الأشياء بذهول ودهشة، فالعالم لديه مليء بالألغاز، كل شيء لغز: الحياة، المرأة، النبيذ.. "يتساءل بالدهشة ذاتها عندما يرى رجلا، شجرة تتبرعم أزهارها، كأسا من الماء البارد، كان زوربا يرى كل شيء كل يوم وكأنه يراه للمرة الأولى".

في مقابل هذه الدهشة والحساسية الجمالية وكل ما يتصل بالبهجة والفرح والموسيقى المنبعثة من السنتوري، الآلة المفضلة عند زوربا، يأتي دور المعلم/ التلميذ الذي تعلم على يديه كيف يرقص، فهو كاتب عقلاني ورأسمالي يعالج الكلمات ويبحث عن الأجوبة عن الكون والدين والخلود والله، يقرأ دانتي ويحاور بوذا ليحقق الخلاص، أي النيرفانا التي وجدها أخير في الرقص، والفن هي وسيلة الإنقاذ، فما عاد ينبهر بالكلمات بل بالحياة بتدفقها وعفويتها، بوذا يدعوه إلى إفراغ الجسد والروح والقلب، إنه هو الإنسان الأخير الذي لا يرى إلا الأشياء الصرفة والمعادلات والكلمات والتعبير بالأصوات الرتيبة والساكنة، "لقد أحال كل شيء إلى كلمات واستحالت كل مجموعة من الكلمات إلى شعوذة" حتى الموسيقى لم تعد سوى معادلات رياضية بكماء.

التعبير يجب أن يكون بالرقص "إن جمجمتي سميكة يا معلم - يقول زوربا- لذلك فإني لا أفهم الأشياء بسهولة.. كنت أتمنى لو كنت تستطيع أن تعبر عن كل ذلك بالرقص لفهمت ما تقوله بسهولة" يتحسر المعلم لأنه لا يستطيع أن يرقص وترقص كل تلك الأفكار البائسة "لقد ذهبت حياتي هدرا".

إن التعبير عن اللانهائي أو عن الديمومة التي تتجلى في كل لحظة من الحياة المبتهجة لا يتم إلا بمجاز أو إشارة، والرقص لغة من إشارات لا تدخل في نظام أو نسق أو منطق، اللغة هذه هي التي بدأ منها الدين، فكزتنزاكيس الذي يوغل في تعرية الزيف بكل وجوهه وتجلياته بما في ذلك التصور الديني الجامد والحرفي والذي يحيل الروح إلى خيط رفيع وفولاذي من العبودية، هو في الوقت نفسه "متروحن" يدرك جماليات التجربة الدينية وانفتاحها على مستويات متعددة من الدلالة، فنجده في رواية "المسيح يصلب من جديد" منحازا إلى تصور احتجاجي ضد الظلم ولصالح المعاناة الإنسانية، بينما هنا في "زوربا اليوناني" فإنه يحيل الدين إلى تجربة، إلى حالة إتحاد مع الطبيعة وتمجيد شاعري بها، أو رقصة تحاكي رقصة العالم، فزوربا اليوناني هو من الذين يؤمنون بوحدة الوجود التي تدمج في بوتقة واحدة الشر كله مع الخير كله، أو بمعنى آخر إن الوجه التنزيهي لإبليس كما تبدى للحلاج هو الوجه الآخر للعالم، إنه والنبي امتداد أو انعكاس لصفحة الوجود. والله يتجلى في صور عديدة، فكما هي الموجات التي تتراقص بفعل الريح تتراقص الحقيقة وتتجلى في المرأة أو "بين الأسنان" كما يعبر سلفادور دالي، أو مع بوذا أو في مناجاة أو في رقصة صوفية تدور كما يدور الفلك، إن الله هو القلب: "إليكسيس سأقول لك سرا... إن طبقات السماء السبع وطبقات الأرض السبع لا تكفي لكي تحتوي الله، أما قلب الإنسان فيستطيع أن يحتويه، لذلك إحرص تمام الحرص يا أليكسيس على ألا تجرح قلب الإنسان".

لكن زوربا المندهش دائما والراقص أبدا والذي يمقت الخداع ويكره التصنع في دير أو كنيس أو مسجد لا يتردد عن الجحود ولا يكف يعلن كفره بكل شيء يسقط عليه من الخارج، إنه رجل جواني لا يشعر إلا بداخله ولا يصدق إلا تلك الرقصات التي أنجبها تزاوج الروح والجسد، ولأنه كذلك فهو لا يؤمن إلا بزوربا والثورة، الثورة التي تقهر الضرورة وتفتح الوجود أمام القلب والبهجة التي تضحك في وجه الموت، وكما أن الرقص هو تعبير الفكر فإن الجنون هو تعبير الثورة، "ومن لم يكن مجنونا فلن يستطيع أن يقطع الحبل لكي يصبح حرا"."هيا يا زوربا علمني الرقص"!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة