الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوضعية المنطقية أو التجريبية المنطقية

ماجد محمد حسن

2004 / 9 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نشأة جماعة فيّنا :

تمثل الوضعية المنطقية في الواقع المدرسة المعاصرة الوحيدة التي يمكن اعتبارها استمراراً فعلياً للحركة التجريبية، إذ إنها تعد من ناحية امتداداً للوضعية الكلاسيكية التي نشأة على يد أوجست كونت وجون ستيوارت مـل وبالتالي فهي امتداداً للتجريبية الإنكليزية التي عرفها تاريخ الفكر أبان القرن الثامن عشر، كما إنها تعد من ناحية أخرى امتداداً مباشراً للتجريبية النقدية التي نشأت في ألمانيا على يد (افيناريوس) الذي قام أحد تلامذته. وهو (جوزيف بيتزولت) بوضع (حوليـات الفلسفة) تحت إشراف المدرسة الوضعية المنطقية. بعد أن ظلت هذه المجلة مدة من الوقت مقصورة على أصحاب الحركة التجريبية النقدية من الألمان. وفيما بعد نجد أن هذه المجلة قد كفت عن الصدور تاركة مكانها لمجلة (المعـرفة) التي ظلت طيلة الفترة الممتدة ما بين عاميّ 1930 و1938 أهم الدوريات الناطقة باسم الوضعية المنطقية. وقد تلقت الوضعية المنطقية إلى جانب ذلـك، مؤثرات فكرية هامة أخرى امتداد إليها من حركة نقد العلم الفرنسية، ومن نظريات رسـل والتطور الذي لحق بالمنطق الرياضي على يديـه، كما امتدت إليها كذلك من علوم الفيزياء في أحدث قوالبها والتي تمثلت في ذلك الوقت في نظرية آنشتاين.
الوضعية المنطقية Logical Positivism، اسم أطلقه عام 1931 كل من بلومبرج وهربرت فايجل. على مجموعة من الأفكار الفلسفية التي أخذ بها أعضاء جماعة فينّـا وهذه الجماعة قد تكونت منذ عام 1907، حينما أجتمع عالم الرياضيات هانـزهان وعالم الاقتصاد أتونويراث، والعالم الفيزيائي فيليب فرانك، وقد أصبحوا جميعاً من الأعضاء البارزين في جماعة فيّنـا، اجتمعوا لكي يكونّوا جماعة فيينا، اجتمعوا جميعاً لمناقشة فلسفة العلم. وكان أملهم إيجاد ومناقشة العلم الذي يحقق ويبرز الأهمية الكبرى في التفكير العلمي لكل من الرياضيات، والمنطق، والفيزياء النظرية، بدون استبعاد المبدأ العالم عند أرنست ماخ 1895-1910 والذي مؤداه إن العلم في أساسه، هو وصف للتجربة أو الخبرة. وحلاً لمشكلاتهم بدأو يتجهون في الفلسفة الوضعية المنطقية عند بوانكاريه 1854-1912 كان اهتمامه منصرفاً إلى المشكلات المشتركة بين الفيزياء والفلسفة. وكانت آرائه تعكس تأثير الفلسفة الوضعية. أما أهم كتبه فهي: العلم والغرض، العلم والمنهج، وأفكار أخيرة. ومن ثم بدأو يضعون المبادئ العامة، أو الخطوط العريضة للفلسفة الوضعية المنطقية.
لكن بدأ تكوين جماعة فيّنـا الفعلي منذ عام 1922 حينما دعيّ رودلف كارنـاب 1882 – 1936 بناءً على إيعاز من أعضاء الجماعة إلى فيّنـا. وكان شليك قد درس على يد ماكـس بلانك وأشتهر كمفسر وشارح نظرية آنشتاين في النسبية، إلا إنه كان شديد الاهتمام بالمشكلات الكلاسيكية في الفلسفة، وسرعان ما أصبح شليك موجهاً لفريق النقاش الموجود في جماعة فينـّا التي بدأت تنمو وتزدهر.
وفي عام 1926 دعيّ رودلف كارناب إلى فينـّا أستاذاً للفلسفة بجامعتها، وسرعان ما اصبح عضواً أساسياً في مناقشات جماعة فيّنـا، وكان قد أستمد أفكاره الفلسفية الرئيسية من ماخ ورسـل. وكان كارناب قد درس الفيزياء والرياضيات بجامعة ينّـا متأثراً في هذا بآراء جوتـلوب فريجـه.
كانت البدايات الفلسـفية الأولى في حقل التحليل المنطقي أكبر الأثر في تحديد الأبعاد الجديدة لفلسفة القرن العشرين، وبصورة خاصة تلك الفلسفة التي اهتمت بتحليل العبارات الفلسفية والعلمية، فارتبطت بالعلوم ومناهجها، محاولة تطوير منهج علمي جديد يأخذ بالفلسفة نحو الاتجاه السليم. وفي الوقت الذي نجد فلاسفة الميتافيزيقا يناقشون مسائل ومفاهيم بوسائل فلسفية وتأملية بحتة، نرى فلاسفة التحليل يبرهنون بوسائل منطقية ومبادئ تجريبية إن معظم قضايا الفلسفة وجميع القضايا الميتافيزيقية لا معنى لها، وذلك على أساس إنها لا تستطيع تزويدنا بخبرات تجريبية يمكن التثبت منها، كما إنها ليست منطقية أو رياضية. وأهم حدث في الاتجاه الفلسفي الذي نحن بصدده هو الاستعاضة بالمنطق الرياضي الجديد لتطوير مناهج علمية جديدة وبناء لغات. فأصبحت الفلسفة عند كارنـاب مجرد منطق للعلوم.

ويمكن أن نتبـين وجود ثلاثة جوانب، أثرت في نشأة هذه الحركة الفلسفية الجديدة :
1- إنها تأثرت بالفلسفتين التجريبية والوضعية السابقتين، وخاصة عند هيوم ومل وماخ وأيضاً وأيضا عند بوانكاريه.
2- كما تأثرت بعلم المناهج الخاص بالعلم التجريبي، كما تطور على يد العلماء منذ منصف القرن التاسع عشر. مثل هلموبولتز وماخ وبوانكاريه ودوهيم وبولتزمان وآنشتاين.
3- كما تأثرت بالمنطق الرمزي والتحليل المنطقي للغة، كما تطورت على وجه الخصوص عند كل من فريجه ووايتهيد ورسل وفنكنشتاين.
إن معظم فلاسفة هذه المدرسة هم من الألمان. وأشهرهم رودلف كارناب الذي أشتغل بتدريس الفلسفة في جامعات فينّا وبراغ وشيكاغو على التوالي، وهو يعتبر رئيساً للمدرسة. وهناك إلى جانبه هانز رايشنباخ الذي أشتغل بالتدريس في جامعات برلين وأستنبول ولوس أنجلس. وبالرغم من إن رايشنباخ هذا كان من بين مؤسسي حلقة فيّنا وواحداً من محرري مجلتها المعرفة إلا أنه قد أنفصل فيما بعد عن مجاراة المتطرفين من أصحاب الوضعية المنطقية ومن هم من خارج ألمانيا ينتمون إلى الفلسفة الجديدة من إنكلترا وفرنسا.
وسميت بعدة أسماء منها التجريبية العلمية والوضعية العلمية العالمية بعد انتقالها لأمريكا بعد أن هرب معظم مؤسسيها من بطش النازية لأن بعضهم كانوا يهوداً.

المميزات الأساسية للوضعية المنطقية وتطورها :

لعل خير طريق للتميز الحاسم بين المواقف الفلسفية هو تقسيمها إلى أنماط تنتمي إلى العالم الآخر. وهناك فروق عميقة في الشخصية والمزاج تعبر عن نفسها في الصور الدائمة التغير التي يتخذها هذان النمطان الفكريان. وأغلب الظن أنه يوجد اختلاف لا سبيل معه إلى التوفيق. وهو أعمق من الاختلاف من العقيدة. فهو في أصله اختلاف في الهدف والاهتمام الأساسيين وثمة مناقشات ومساجلات عديمة الجدوى منذ القدم تثبت إن هذا الخلاف لا يحل بالمحاجة المنطقية والشواهد التجريبية. وإذا تعمقنا في التحليل وجدنا أن السبب في هذا إنما يرجع إلى اختلاف على تحديد مجال يختص به المنطق وآخر تختص به الخبرة ( وما يمكن أن تقرره الشواهد التجريبية ). فذلك يمكننا النظر إلى الفلسفة التحليلية في معالجتها لنظرية المعرفة من زاويتين:
الأولى- التي تتخذ من التحليل اللغوي أسلوباً ومن لغة الحياة اليومية مادة للبحث فنجد فلاسفة هذا الاتجاه يتخذون اللغة التي يتكلم بها الفرد في المجتمع واللغة التي يتحدث بها الفلاسفة لتحليلها ومعرفة معاني عباراتها بغية إيجاد حلول للمشكلات التي تعترضهم.
الثانية- التي تتخذ التحليل المنطقي منهجاً لها في معالجة اللغة العلمية، ولكنها في الموقف نفسه تتوخى بناء لغة اصطناعية تكون عامة أو نموذجاً للغة العلم. ونجد في هذا الحقل كثيراً من الناطقة والفلاسفة الذين يحاولون تركيب هذا النموذج اللغوي للعلم.
إن هذه الاتجاهات الفلسفية في التحليل مَدينة بالشيء الكثير إلى رائد المدرسة المنطقية والتحليلية جوتلوب فريجه الذي أتخذ من التحليل المنطقي منهجاً لمعرفة المقومات المنطقية في اللغة ولا سيما التي يمكن الاستفادة منها في المنطق. فيؤلف مع غيرها من المقومات الأساس في بناء لغة رمزية، تتجلى فيها المنطقية والاستدلالية. إن هذه الاتجاهات مَدينة كذلك إلى ما قدمه فنكنشتاين في حقل التحليل اللغوي والمنطقي والرياضي، فكانت دراسة ثمينة وعميقة أثرت في توجيه التيارات الفلسفية في التحليل. ولقد شارك فنكنشتاين في تقوية التيار التحليلي في الفلسفة مستعيناً بنظريات منطقية وفلسفية، إلا أننا نلاحظ إن فنكنشتاين في كتاباته الأخيرة ونقصد بها في فلسفية أهتم باللغة ذاتها، فلم يحاول بناء لغة منطقية، بل حلل اللغة كما تظهر أو كما تقوم بوظيفتها في الحياة اليومية، وبذلك أصبحت الفلسفة مجرد تحليل للعبارات التي تداولها الناس. فأن على الفلسفة أن تحاول التمييز بين الغامض والواضح، وأن تقوم بتحليل العلاقات الخارجية القائمة بين المعان، حتى نتوصل عن هذا الطريق إلى القضاء نهائياً على المشكلات الزائفة، والمفاهيم الخاوية والقضايا الكاذبة. ومعنى هذا أن ثمة جانبين هامين في عملية تطبيق التحليل المنطقي: جانباً سلبياً يتمثل في استبعاد الأحكام الميتافيزيقية من كافة العلوم الطبيعية، والرياضية والإنسانية إن لم نقل من المعرفة البشرية بصفة عامة، وجانباً إيجابياً يتمثل في توضيح مفاهيم العلوم ومناهجها والكشف عن عملية تكون بأسرها ابتداءً من معطيات التجربة. لهذا يؤلف أصحاب الوضعية المنطقية مدرسة خاصة بهم، فهم يجمعون على تبني بعض النظريات الأساسية كما أنهم يخضعون المشاكل الفلسفية التي يعرضون لها لمناهج فكرية متماثلة. وقد بينوا منذ البداية عن مدى عمق وجديّة أبحاثهم الفلسفية وشدة اقتناعهم بما لنظرياتهم من صحة مطلقة والحقيقة إن رايشنباخ لم يجانب الصواب حين عقب على مدى تسليمهم بصدق مذهبهم قائلاً إن تعصبهم لآرائهم كان شبيها بتعصب ديني أو طائفي. وقد سادت حلقة فيّنا في البداية دعوة إلى تبني الاتجاه الوضعي المنطقي. فهي وإن أخذت الشيء الكثير عن رسل فريجه وفنكنشتاين إلا أنها اتخذت طريقاً ومنهجاً جديداً، فحاولت بتحليلها للغة أن تربط هذا التحليل بالعلوم. كذلك العلوم الرياضية، المنطقية والعلوم التجريبية. وكانت غايتها توحيد العلم وذلك عن طريق بحث الأسس المنطقية والتجريبية التي تقوم عليها المعرفة العلمية. واندفعت التجريبية المنطقية إلى دراسة النظريات العلمية في الفيزياء والرياضيات العلمية والمنطق غايتها بناء لغة رمزية تكون نموذجاً علمياً. ففي حقل الرياضيات قام كارناب ببناء لغتين رمزيتين تتضمن الأولى بديهيات حساب القضايا والذاتية وعلم الحساب، وتضمنت الثانية بديهيات أكثر في حساب القضايا والرياضيات وغيرها بحيث أصبحت اللغة الأولى جزءً من اللغة الثانية، أما في حقل العلوم التجريبية، فقد اهتمت التجريبية المنطقية بالتحليل المنطقي للفيزياء، وبعبارة أدق لغة الفيزياء كما اهتمت بالطريقة التجريبية الاستقرائية والاحتمالية. وبذلك تكون جماعة فيّنا قد ضمت في برنامجها الفلسفي الطريقة الاستدلالية والاستقرائية. إن أسم التجريبية المنطقية يشير إلى تلاقي حقيقتين هامتين تعتمد عليهما فلسفة جماعة فيينا: الحقيقة الأولى هي اهتمامها بالعلوم الرياضية والمنطقية، ومن هذين الاتجاهين تكون المدرسة في أصولها معتمدة على التحليل المنطقي للرياضيات والفيزياء.
إن الاتجاه التجريبي الذي اعتمدته هذه المدرسة ليس جديداً في الفلسفة. بل إننا نجده بوضوح عند فلاسفة التجربة أمثال لوك وبيركلي وهيوم. كما نجده بشكل متميز عند ماخ وهذا ما ذكرته سابقاً، ولكن الذي يميز تجريبية جماعة فيّنا هو:
1-إنها تستعين بتحليل اللغة وعلاقتـها بالعالم الخارجي، ولا نقصد باللغة هنا لغة الحياة اليومية فحسب، بل اللغات العلمية أيضاً، وهذا أمر يجعل هذا الاتجاه التجريبي قريب الصلة بالعلوم التجريبية والنظريات العلمية، وذلك عن طريق إيجاد صيغ مختلفة تربط عالم المعطيات الحسية بالنظريات العلمية وما تحتوي من مفاهيم تجريبية وبذلك تحقق هذه التجريبية هدف الفلسفة والعلم في وحدة العلوم التجـريبية.
2- إنها تستعين بالمنطق والرياضيات دون الأخذ بالرأي القائل إن أساس الرياضيات هو التجربة بل إنها على العكس ترى إن ليس للمنطق والرياضيات علاقة بالتجربة. ولكن الطريقة الاشتقاقية التي يوفرها المنطق تستطيع أن تساعدنا في بناء المعرفة التجريبية على أسس متينة وواضحة. وذلك عن طريق اختيار بعض المفاهيم الأساسية البسيطة وتعريف المفاهيم المعقدة بواسطتها حتى يتم بناء المعرفة العلمية، شريط أن لا يكون بين المفاهيم المشتقة ومفاهيم النظريات العلمية الحديثة تناقض، بل على العكس يجب اشتقاق النظريات العلمية من قاعدة تجريبية معينة.

رفض الميتافيزيقا:

إن من أهداف الميثاق العلمي لجماعة فينّا تخليص الفلسفة والعلوم من الميتافيزيقا والقضايا الفارغة وتكوين قاعدة علمية لجميع العلوم، بحيث تكون أو تصلح لأن تكون أساساً لوحدة العلم. ولتحقيق هذا الهدف تجد جماعة فيينا نفسها تستخدم طريقة جديدة في تحليل القضايا من الناحيتين الشكلية والدلالية بتطبيق طريقة التحليل المنطقي للغة، فهي لا تكتفي برفض الميتافيزيقا بل تبرهن بوسائل منطقية وتجريبية أن قضايا الميتافيزيقا لا معنى لها. وهي تضع طريقة علمية للفلسفة بعد أن أنهكتها المغالطات والمتناقضات فأصبحت غير قادرة على أن تكون ذات نفع للعلم والعلماء. ولا نقصد بالفلسفة هي فقط الميتافيزيقا…
إن الطريقة العلمية المعروفة حتى الآن هي الطريقة التجريبية والطريقة الرياضية، ولا توجد طريقة أخرى معترف بها في العلم غير هاتين الطريقتين، إذ لا يمكن اعتبار الطريقة التأملية أو الصوفية طريقاً للعلم.
إن فلاسفة التحليل والتجريبيين المنطقين أدركوا إن لابد للفلسفة من طريقة، وإن هذه الطريقة هي الفعالية الوحيدة للفلسفة، فكان السلاح الجديد مستمداً أصوله من نظرية المعرفة والمنطق، وأصبحت الفلسفة مجرد طريقة لا يحق لها تكوين قضايا تجريبية، لأن ذلك من اختصاص العلوم، كما لا يقع ضمن مجالها تكوين قضايا رياضية، لأن ذلك من اختصاص علماء الرياضيات وهكذا تحولت الفلسفة إلى مجرد طريقة منطقية تحليلية من دون أن تزج نفسها في مجالات بحث العلوم، وفي الحصول على نتائج علمية في المعرفة العلمية. فمعيار توافر المعنى الدال على الواقع هو أهم المبادئ التنظيمية للتجريبيين المنطقيين والهدف من هذا المعيار هو إيجاد حد فاصل بين أنواع التعبير التي قد تكون لها علاقة بالواقع وبين الأنواع الأخرى التي ليس لها هذه العلاقة: التعبيرات العاطفية، والمنطقية الرياضية، والصورية البحتة، والتي لا دلالة لها على الإطلاق أن وجدت.
فأن فعالية التحليل المنطقي هي الطريقة التي تتخذها الفلسفة التجريبية المنطقية لتحقيق هدفها في رفض الميتافيزيقا وبناء قاعدة علمية عامة للعلوم. وامتازت التجريبية المنطقية في رفضها للميتافيزيقا عن غيرها من المدارس والمذاهب الفلسفية التجريبية والمادية القديـمة. إنها اعتمدت على التحليل المنطـقي للقضايا من ناحيتي التركيب والمعنى، فاستعانت بالمنطق الجديد لتحقيق هذا الغرض. وهذا عمل يؤدي إلى نتائج إيجابية وسلبية تتجلى في توضيح المفاهيم والفروع المختلفة للعلوم التجريبية وفي بيان إن جميع القضايا الميتافيزيقية لا معنى لها مطلقاً. لأن الحديث الميتافيزيقي فارغ لا يحمل معنى، (فتعريف الجملة الميتافيزيقية هو أنها عبارة يراد بها إن تعبر عن قضيـة حقيقية، لكنها في حقيقة أمرها لا هي بمعبرة عن تحصيل حاصل، ولا عن فرض تحققه التجربة، ولما كانت تحصيلات الحاصل والفروض التجريبية تستنفذ كافة القضايا ذات المعنى، كان لنا ما يبرر التأكيد بأن ما تقوله الميتافيزيقا خال من المعنى).
ويفرق الفريد جولز آير بين نوعين من التحقيق وهو يتحدث عن إمكان التحقيق من الوجهة المنطقية: التحقيق القوي والتحقيق الضعيف… ووصف آير طريقة التحقيق الممكنة التي نتخذها مقياساً لما يجوز قبوله من الجمل وما لا يجوز، فقال إن القضية التي نقبلها على إنها ذات مضمون واقعي، ليست هي التي يمكننا أن نترجمها بذاتها إلى عبارات تصف الخبرة التي سنلاقيها مباشرة، بل هي القضية التي نستطيع أن نستدل بعض الخبرات منها ومن قضايا أخرى تضاف إليها، على شرط إلا يكون في استطاعتنا أن نستدل تلك الخبرات من هذه القضايا الأخرى وحدها. ويقول آير: ( إنني ازعم إن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق مباشر، إذا كانت هي نفسها عبارة شهادية أو إذا كانت عبارة، لو أضيفت لها عبارة شهادية واحدة أو أكثر، استتبعت على الأقل عبارة شهادية واحدة لا يمكن استنتاجه من تلك العبارات المضافة وحدها، وأزعم كذلك إن العبارة تكون ممكنة التحقيق بطريق غير مباشر لو أوفت بالشرطين الآتيين: أولاً- لو كانت بالإضافة إلى مقدمات أخرى نستنتج عبارة أو أكثر مما يمكن تحقيقه مباشرة. وثانياً – لو كانت هذه المقدمات الأخرى لا تتضمن عبارة غير تحليلية أغير ممكنة التحقيق بطريق مباشر أو ممكن تحقيقها في ذاتها بطريق مباشر).
نأخذ مثلاً يوضح مرةً أخرى: أمامك عبارة، إن الماء يغلي بدرجة مائة، فكيف يمكن تحقيقها؟ ويرى آير أيضاً بقوله ( إن العبارة الميتافيزيقية هي لا تجريبية ذات مضمون وجودي، ويرى الوضعيون إن أمثال هذه العبارة هي أشباه قضايا، وإنما تقوم نظريتهم في ذلك على أساس أولي، وهو أن الوقائع التي تصفها أمثال هذه العبارات يستحيل أن يدل برهان منطقي أو منهج تجريبي، وليس ثمة من سبيل غير هذين: الاستدلال اليقيني، أي البرهان المنطقي ومناهج التجريب، فليس لدينا منهج ثالث نقرر به معنى الصدق لعبارة ما).
ويسير الوضعيون المنطقيون في مهاجمتهم للميتافيزيقا على خطوتين:
1- هم يبينون إن كل القضايا يمكن ردها إلى قضايا أولية، مما نحققه بالخبرة الحسية تحقيقاً مباشراً.
2- ثم يبينون إن الميتافيزيقا ما هي إلا نتيجة أخطاء في منطق التركيب اللغوي لعباراتها تطبيقاً لمبدأ تحقيق المعاني حيث ذهب الوضعيون المنطقيون إلى رفض الميتافيزيقا التقليدية على أساس إنها قضايا خالية من المعنى، طالما إنه لا توجد طريقة ممكنة للتحقق منها بواسطة التجربة فهم يذهبون إلى إنه لا توجد أية تجربة ممكنة تجعلنا نتحقق من قضايا مثل: المطلق خارج الزمان أو الجوهر أساس الوجود.
1- إن رفض الميتافيزيقا التقليدية لم يكن قاصراً على الوضعية التجريبية، بل سبقهم الوضعيون والتجريبيون السابقون، هيوم الذي وصف الميتافيزيقا بأنها سـفسطة ووهم. كما أعتبر أوجست كونت إن التفكير الميتافيزيقي لا يمثل إلا مرحلة من مراحل الفكر ينبغي أن يتجاوزها إلى المرحلة الوضعية. كما رفض كانت والكانتيون الجدد دعوى الميتافيزيقا أن تكون صورة من المعرفة النظرية، وأراد كانت أن يستبدلها بميتافيزيقا تكون شبيهه بالعلم. كما بحث ماخ في كيفية استبعاد كل العناصر الميتافيزيقية من العلم.
2- إن الوضعيين المنطقيين أقاموا رفضهم لها على إنها خالية من المعنى أو إنها مجرد لغو. فهم يذهبون إلى إن قضايا الميتافيزيقا، ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي جميعها لا معنى لها.
لأنه من الخطأ الاعتقاد إن كل الفلسفة ميتافيزيقا، وأنه كذلك من الخطأ الاستنتاج إن التجريبية المنطقية مدرسة لهدم الفلسفة. إنها في طريقها نحو جعل الفلسفة علمية لابد لها أن تتخذ موقفاً من القضايا التي لا يسندها العلم أو تثبت صدقها أو كذبها. لقد أخطأ صموئيل الكسندر اعتقاده إن الفلسفة هي الميتافيزيقا، وأن الميتافيزيقا هي محاولة دراسة طبيعة الأشيـاء ووصف الطبيـعة النهائية للوجود. وبذلك يقترب الكسندر من تعريف أرسطو بأنها علم الوجود وصفاته الضرورية. إن السبب الذي يكمن في فهم فلاسفة الميتافيزيقا للفلسفة بهذه الطريقة وهو محاولتهم إيجاد قاعدة فكرية عامة تشمل جميع فروع الفلسفة من منطق ونظرية معرفة وأخلاق. ولكن هذه القاعدة سرعان ما تنهار أمام معاول التحليل المنطقي. لقد أستعمل الفلاسفة عبارة الميتافيزيقا بمعان كثيرة واستخدموا لها مناهج مختلفة، وهناك تعاريف أخرى للميتافيزيقا على أساس إنها البحث في العلل الأولى أو معرفة الحقيقة الكلية دون تجزئتها لأن في التجزئة إفساد للحقيقة. ولكن الدراسات الميتافيزيقية قد تخلو من هذا الاتجاه، فلا تبحث في الوجود وصفاته ولا في الحقيقة الكلية ولا في العلل الأولى. بل إننا نجد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة أمثلة على أنواع أخرى من الميتافيزيقا مارسها مفكرون معروفون بعدائهم للميتافيزيقا، ويختلف هذا النوع من الميتافيزيقا عن النوع الشائع. إن عبارة ميتافيزيقا غامضة، لأنها استعملت بمعان كثيرة، وأنظمة مختلفة، لهذا برزت ضرورة التمييز بين أنواع الميتافيزيقا تبعاً لمادة البحث التي انبثقت عنها، وهذه الأنواع هي:

1- الميتافيزيقا البحتة.
2- الميتافيزيقا الكونية أو الاستقرائية.
3- الميتافيزيقا الرياضية.
4- الميتافيزيقا اللغوية.
5- الميتافيزيقا الديالكتيكية.
6- الميتافيزيقا المتعالية.
7- الميتافيزيقا النقدية.
8- الميتافيزيقا الوجودية.
فقضايا الميتافيزيقا البحتة متعلقة بالوجود المطلق والعلـل والحقيقة الكلية والعدم، وتتخذ من المنهج الحدسي أو التأملي أو الصوفي أساساً لتكوين هذه القضايا. والميتافيزيقا الكونية تعتمد على ما يقدمه العلم من حقائق تجريبية، فتحاول ربط هذه الحقائق بعضها ببعض في حقيقة كلية يستنتجها الفيلسوف. بعد تحليل لأبعادها الفلسفية. أما الميتافيزيقا الرياضية فهي ضرب من الفلسفة أساسه النظرية الرياضية وهدفه تفسير العالم على ضوء المعرفة الرياضية. أما الميتافيزيقا اللغوية فليس لها علاقة بالوجود والمطلق وغيره، بل إنها وليدة تطبيق التحليل المنطقي للغة. وبالنسبة للميتافيزيقا الديالكتيكية فأنها تتخذ منطقاً لتفسير الحركة والصيرورة في الوجود كله. وهي في استعمالها للمنطق إنما تقصد الحركة الفعلية للوجود ومبادئ هذه الحركة.
وتتخذ فلسفة كانت الميتافيزيقية المتعالية بشكل مقولات يعتقد إنها ضرورية للمعرفة، وإنها صور عقلية بحتة لا علاقة لها بعالم الحس والتجربة، فليست أفكارنا حول الجوهر والقوة والفعل والحقيقة وغيرها مستقلة عن الخبرة فحسب، بل إنها كذلك لا تحتوي على أي معنى تجريبي. فقد مارس كانت ميتافيزيقا نقدية وبنى بدوره ميتافيزيقا متعالية. كما أجد في كتابات فلاسفة الوجودية نوعاً جديداً من الميتافيزيقا في غلاف أدبي له صلة بالوجود الإنساني. وكتابات هيدجر في الوجود والزمان وسارتر في الوجود والعدم تحتوي عل قضايا ميتافيزيقية كثيرة.
إن الاعتقاد السـائد بين أعضاء التجريـبيـة المنطقية هو إن القضايا الميتافيزيقيـة هي الأقوال التي لا تسندها التجربة أو لا تحتوي على معنى تجريبي ولا يسندها البرهان الرياضي. ويرى فتكنشتاين إن الفلسفة مجرد جهد سلبي يراد من ورائه الكشف عن المتناقضات التي يقع فيها فلاسفة الميتافيزيقا. ويقول أيضاً: إن المعنى الذي يقصده أي فرد منا بأية كلمة، لا ينكشف لنا إلا من خلال الأشياء التي يطبق عليها تلك الكلمة، أعني من خلال المواقف التي يستخدم في سياقها تكتيك ذلك اللفظ، فالمرء حين يفكر فيما يقوله، فأنه لا يفعل أكثر من كونه يعني ما يقوله.
العبارات الميتافيزيقية التي تخضع للنقد التجريبي تبعاً للفلسفة التجريبية المنطقية هي تلك العبارات الناتجة عن أخطاء في السنتالس (الخيال) من تحديد المعنى أو الخالية من المعنى إطلاقاً.
وعلى هذا الأساس تكون أمامي الأنواع الآتية من العبارات الميتافيزيقية:
1- العبارات التي يصوغها الفلاسفة دون مراعاة للقواعد التركيبية أو السنتاكسية للغة، والعبارات الميتافيزيقية من النوع المضللة وكأنها تتحدث عن الواقع في حين إنها ليست كذلك، وإصلاحها يحولها لقضايا ذات معنى تجريبي لا علاقة لها بالميتافيزيقا.
2- العبارات التي تضم مفاهيم وأفكار كثيرة من دون تحديد لمعانيها واستعمالاتها.
3- العبارات التي يستعملها الفلاسفة والعلماء في بعض الأحيان والتي لا يكون لها السند التجريبي الكافي، ولكنها في وقت نفسه تعتبر جزءاً من النظرية العلمية إلى أن يثبت العلم إنها فارغة من المعنى.
4- العبارات التي تستخدم الاستدلالات المنطقية حتى يخيل إنها نتائج من مقدمات مسلم بها، في حين إن هذه المسلمات أو المصادرات تحتاج هي بدورها إلى تحليل لتستطيع أن تكون جديرة بذلك.


رودلف كارناب
حياته:
يعتبر رودلف كارناب من أبرز ممثلي الفلسفة الوضعية المنطقية أو الوضعية الجديدة بوجه عام، في فلسفة والمنطق. ولد عام 1891 في رونزدورف بالقرب من بارمن في ألمانيا، وقد درس في جامعتي فرايبوج وينـا من عام 1910 حتى 1914 متخصصاً في الفيزياء والرياضيات والفلسفة. وقد تتلمذ في ينا على يد جوتلوب فريجه الذي كان له أكبر الأثر هو برتراند رسل في تفكير كارناب.
وقد ذهب إلى جامعة فيّنا محاضراً في الفلسفة عام 1926، فأصبح بمثابة الزعيم الروحي لحركة الوضعية المنطقية، وكان له دوراً كبيراً في نشأة حلقة فيّنا واتساع دائرتها. وقد أنتقل كارناب لعدة جامعات كأستاذ للفلسفة منها جامعة براغ وشيكاغو، ثم أنتقل إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس. وله إنتاج ضخم موجود في معظم دوائر الفلسفة العلمية، وقد أنصرف إلى دراسة المشكلات الفلسفية الخاصة بعلم الفيزياء والهندسة وله كتاب المكان وكتاب تكوين المفاهيم الفيزيائية وكذلك كتاب التركيب المنطقي للعالم، ومؤلفات أخرى مهمة. وقد أنصرف أيضاً لدراسة علم اللغة.


تحليل الميتافيزيقا :

(عملنا هو التحليل المنطقي لا الفلسفة ). هكذا يقول كارناب في تقديمه لمجموعة وحدة العلم. والفلسفة التي يبرأ منها كارناب هي الميتافيزيقا، بالمعنى الذي يجعل الميتافيزيقا بحثاً في أشياء لا تقع في مجال الحس، مثل الشيء في ذاته، والمطلق، والمثل الأفلاطونية، والعلة الأولى للعالم، والعدم، والقيم الأخلاقية والجمالية، وما إلى ذلك. يقول كارناب (إن علينا أن نفرق بين تصورين للواقع. أحدهما يرد في العبارات التجريبية، والآخر يرد في العبارات الفلسفية. في هذه العبارات الأخيرة يتناول الفيلسوف واقعية العالم الخارجي ككل. يتساءل كارناب: ما السبيل إلى إقرار واقعية العالم الطبيعي أو الخارجي؟ ويجيب نفسه بأنه لا سبيل إلى ذلك بل إن إجابته الحقيقية على السؤال نفسه لا معنى له. كما يوضح كارناب: لقد أسيء فهم أفكار دائرة فيينا أحياناً فظن بأنها تنادي بإنكار واقعية العالم الطبيعي. لكننا لا ننكر هذه الواقعية حقاً. إننا نرفض القول بحقيقة هذا العالم الطبيعي، إلا إننا لا نرفضها باعتبارها كاذبة،بل باعتبارها إنها لا تحمل معنى، والنظرية المثالية المضادة لهذه النظرية موضوع للرفض نفسه. فنحن إذن لا نؤكد ولا ننكر هذه النظريات إننا نرفض السؤال ).
ويضيف: (سأخلع صفة ميتافيزيقي على كل تلك القضايا التي تدعي تمثيل المعرفة بشأن شيء يفوق أو يتجاوز أية خبرة، مثلاً بشأن الجوهر الحقيقي للأشياء. بشأن الأشياء في ذاتها، المطلق، وما إلى ذلك، ولا أدخل في الميتافيزيقا تلك النظريات التي غرضها ترتيب القضايا الأكثر عموماً، في مختلف مناطق المعرفة العلمية ترتيباً جيداً في مذهب. فمثل هذه النظريات ترجع في الحقيقة إلى حقل العلم التجريبي، لا إلى حقل الفلسفة، مهما بلغت من الجرأة. إن نوع النظريات الذي أرغب أن أرمز له بالميتافيزيقا يمكن إيضاحه بأسهل صورة ببعض الأمثلة قال طاليس: جوهر العالم ومبدأه هو الماء. وقال فيثاغورس: العدد. وقال أفلاطون: ليست الأشياء كلها سوى أشباح للأفكار الأبدية التي توجد هي ذاتها في كرة ليس لها مكان أو زمان. ونجد لدى أنصار وحدة المادة يوجد مبدأ واحد فقط يبني عليه كل ما هو موجود. وقال هيرقليطس بالنار. وقال اناكسمندريس اللامحدود. لكن الثنائيين يخبروننا مبدءان، ويقول الماديون كل ما هو موجود، هو مادي في جوهره. وأنصار المذهب الروحي يقولون كل ما هو موجود هو روحي. وينتمي إلى الميتافيزيقين ومبادئها الرئيسية سبينوزا، وشيلنج، وهيجل وبرجسون ).
دعنا الآن نفحص هذا النوع من القضية من وجهة نظر قابلية التحقيق. يسهل التأكد من إن القضايا التي هي من هذا القبيل لا يمكن التحقق منها. فمن قضية مبدأ العالم هو الماء. لا نستطيع استنتاج أية قضية تخبر عن أية إدراكا أو مشاعر أو خبرات مهما كان نوعها مما يمكن أن نتوقع حدوثه. فلهذا لا يستطيع الميتافيزيقيون تجنب صنع قضاياهم غير القـابلة للتحقيق، لأنهم إذا جعلوها قابلة للتحقيق فأن القرار بشأن خطأ مبادئهم أو صوابها سوف يعتمد على الخبرة وعندئذ ينتسب إلى منطقة العلم التجريبي. لذلك يضطرون إلى قطع كل صلة بين قضاياهم وبين الخبرة، وبهذه الطريقة على وجه الدقة يجردونها من كل معنى.
يقول كارناب: (إنه لابد لنا من أن نقيم تفرقة حاسمة بين وظيفتين مختلفتين من وظائف اللغة. فأن اللغة قد تعني شيئاً، أو قد تعبر عن بعض العواطف والرغبات، والفلسفة الكلاسيكية قد دأبت على الخلط بين هاتين الوظيفتين، وقد ترتب عليه أن أصبحت ألفاظ الفلاسفة معبرة عن مجرد عواطف غير دالة على معان. ولكن الفلاسفة الميتافيزيقين قد ظلوا يتوهمون إن عباراتهم تمثل قضايا منطقية تقبل البرهنة، في حين إنها مجرد تعبيرات عاطفية تكشف عن انفعالات ومشاعر دفينة، ولا تنطوي على نظريات، كما إنها لا تشتمل على قضايا علمية، ولكنها مع ذلك تعبر عن شيء ما، وما هذا الشيء الذي تعبر عنه سوى الشعور بالحياة. فالميتافيزيقا أقرب ما تكون إلى الشعر، والأساطير. ويضيف كارناب: إن الفيلسوف الميتافيزيقي، هو فريسة لوهم بالغ. لأنه إذ يصوغ عباراته في قالب منطقي، محاولاً أن يقيمها على أسس برهانيه، فيتوهم إن أداته هي العقل والتفكير، لا الخيال والعاطفة بينما الصحيح إن تأملاته كلها لا تخرج عن كونها أحلام شاعر ضل سبيله ).
ويضيف كارناب أيضاً: ( إن موضوع أبحاث مدرسة فيّنا، هو العلم، سواء باعتباره واحداً أو فروعاً مختلفة. ويتعلق الأمر هنا بالمفاهيم والقضايا والبراهين والنظريات التي تلعب فيه دوراً ما، مع العناية بالناحية المنطقية، أكثر من الاهتمام باعتبارات التطور التاريخي أو الشروط التطبيقية. السوسيولوجية والسيكولوجية. إن هذا الميدان من البحث لم يحظ لحد الآن باسم خاص به، وبالإمكان تمييزه بأن نطلق عليه أسم نظرية العلم وبعبارة أخرى أدق منطق العلم. ونعني بالعلم هنا، مجموعة العبارات المعروفة، ليس فقط تلك التي يصوغها العلماء، بل أيضاً تلك التي نصادفها في الحياة الجارية، لأنه من غير الممكن فصل هذه عن تلك بوضع حدود دقيقة بينهما… إن المنطق، منطق العلم، قد أصبح ناضجاً لكي يتحرر من الفلسفة ويتفرد بميدان علمي مضبوط، يركز العمل فيه على منهج علمي صارم يسد الباب نهائياً في وجه الحديث عن معرفة أكثر عمقاً أو أكثر سموا… وسيكون هذا في تقديري أخير غصن ينتزع من الجذع. ذلك لأنه ماذا سيبقى بعد الفلسفة ؟ لن يبقى لديها إلا تلك المشاكل العزيزة على الميتافيزيقين، مثل: ما هو السبب الأول للعالم ؟ وما ماهية العدم ؟ ولكن هذه ليست سوى مشاكل زائفة خالية من كل محتوى علمي ).
يرى كارناب في مقالة له تحت عنوان ( استبعاد الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي للغة )، إن القضايا الميتافيزيقية مضللة أو زائفة أو إنها على نوعين:
1- قضايا تحتوي على لفظة يعتقد خطأ إن لها معنى.
2- قضايا تحتوي على ألفاظ لها معنى، ولكنها وضعت مع بعضها بطريقة لا تخالف قواعد اللغة ورغم ذلك ليس لها معنى كقضايا.
إن المفاهيم الميتافيزيقية في رأي كارناب لا معنى لها، وذلك لعدم وجود معيار تجريبي لها. وأن القضايا الميتافيزيقية فارغة على الرغم من احتوائها على ألفاظ ذات دلالات، لأن طريقة تكوينها من الوجهة المنطقية خاطئة، وإن إصلاح الخطأ يؤدي إلى تحويلها إلى قضايا غير ميتافيزيقية. ويورد إشارة أيضاً للفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عن النفي والعدم وإن العدم يعدم ليثبت إن فلاسفة الميتافيزيقا يرتبون كلمات في قضايا صحيحة من الوجهة اللغوية، ولكن ليس لهذه القضايا معان تجريبية. وإن تطبيق التحليل المنـطقي عليها يبين أخطاء هؤلاء الفلاسفة في استعمال الألفاظ من الوجهة المنطقية.
فلا ضير عند كارناب من قبول كلمة الفلسفة على شرط أن تفهم الكلمة بمعنى التحليلات المنطقية للعبارات اللغوية (فكل من يشاركنا وجهة نظرنا المعادية للميتافيزيقا، يتبين له إن جميع المشكلات الفلسفية الحقيقية ما هي إلا تحليلات لغوية ). ولما كانت التركيبات اللغوية التي تعني الفلسفة بتحليلها، هي في الأغلب ما تقوله العلوم المختلفة من قضايا، أمكن القول عن الفلسفة إنها منطق العلوم، أي تحليل القضايا العلمية تحليلاً يبرز طريقة تركيبها وصورة بنائها، ليتضح معناها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أمام إسرائيل خياران.. إما رفح أو الرياض- | #مراسلو_سكاي


.. استمرار الاعتصامات في جامعات أميركية.. وبايدن ينتقد الاحتجاج




.. الغارديان: داعمو إسرائيل في الغرب من ساسة وصحفيين يسهمون بنش


.. البحرين تؤكد تصنيف -سرايا الأشتر- كيانا إرهابيا




.. 6 شهداء بينهم أطفال بغارة إسرائيلية على حي الزهور شمال مدينة