الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من وحي فكر الراحل محمد أركون

حميد باجو

2010 / 10 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كم هو جميل أن نهتم بمفكرينا الكبار وأن نكتب عنهم، سواء لتكريمهم وهم على قيد الحياة أو لتخليد ذكراهم بعد فقدانهم. لكن ما هو أجمل من ذلك أن نبذل جهدا للاستفادة من دروسهم ومحاولة مشاركتهم انشغالاتهم الفكرية التي عاشوا وماتوا من أجلها.
قد يعتبر البعض أن الاهتمام بهذا الجانب الثاني هو من دور ذوي الاختصاص في الموضوع، أي من الذين ينتمون إلى "المؤسسة"، الحاملين للشهادات الجامعية المعترف بها، غير أن لهذا النوع من الاهتمام عيب هو كونه يبقى نخبويا ومنغلقا على جماعة قليلة من هؤلاء المتخصصين، مما لا يسمح بإشراك المهتمين من المجالات الفكرية الأخرى، والقيام بالخصوص بالمقارنة والتجميع بين ما ينتج في تخصصات متباعدة، في أفق تصريف ذلك بشكل ملموس في الحياة العامة للمجتمع ومنها الواجهة السياسية.
من هذا المنظور أن ما سيوجه قراءتنا هذه في فكر الراحل محمد أركون، وكما كان ذلك من قبل سواء مع العروي أو الجابري، ليس الهم الأكاديمي المحض وإنما ما قد يكون لهذا الفكر من انعكاسات غير مباشرة على الممارسة السياسية في واقعنا الراهن.
لم يكن لأركون بالتأكيد اهتماما مباشرا بالسياسة كما الشأن مثلا عند الجابري، لكن لأن مجال تخصصه هو العقل أو التراث الإسلامي، ولأن هذا الأخير هو ما بقي يحدد المرجعية الخلفية لجل الخطابات والممارسة السياسية في منطقتنا العربية والإسلامية، فإن الاهتمام بفكره يكون في الحقيقة هو الاهتمام بالعمق الموجه لهذه السياسة.
إن أركون، وعلى الرغم من تقاسمه لنفس موضوع الاشتغال مع عابد الجابري، فإن الاختلاف بينهما واضح جدا. فإذا كان سعي هذا الأخير هو لمقاربة التراث الإسلامي من "الداخل" وبمنطق الاستمرارية على نفس الأرضية المعرفية التي تأسس عليها هذا النص منذ بدايته، وذلك عبر استرجاعه لتجربة ابن رشد مثلا، فإن الثاني اختار أن يقارب نفس التراث، ليس من "خارجه" كما قد يدعي البعض ذلك بنية إلصاق تهمة الاغتراب بمحمد أركون وعجزه عن فهم هذا الموضوع بالاعتماد على مناهج مستوردة، وإنما مقارنته من "فوق"، أي بما يعني استيعاب النص الإسلامي من داخله، كما قد يفعل أي باحث إسلامي آخر، وفي نفس الوقت تجاوزه وتخطيه، بوضعه في إطار أشمل هو الفكر الكوني في رمته. وهذا يعني أنه إذا كان الجابري كما أركون ، قد وظفا كلاهما بعض المناهج المعرفية كالحفريات مثلا المستوحاة من التقليد الفوكاوي خاصة (نسبة إلى ميشيل فوكو)، فإن الأول قد تعامل مع هذه المناهج بشكل أداتي، أي بعد عزلها وانتزاعها من سياقها الفكري العام الذي تولدت من داخله، وبالتالي تبرئة ذمته من كل ما قد ينتج عن ذلك من تبعات فكرية وفلسفية، وهو ما ظهر مثلا حين أنكر حاجة المجتمعات الإسلامية للعلمانية، في المقابل حرص أركون على استعمال هذه المناهج من داخل نفس مرجعيتها الأصلية، وبالتالي تقبل كل ما قد يترتب عنها من تبعات. فليست الثقافة أو العقل الإسلامي في رأي أركون، شيء منفصل عن الفكر الكوني أو يمتلك "جوهرا" خاصا به، وبالتالي لا يكون الفرق في استعمال هذه المناهج المذكورة، بين "العقل المسيحي" و"العقل الإسلامي" أكثر من الفرق في استعمالها بين أي حقلين معرفيين آخرين.
لذلك إذا كان الجابري يمثل خط الاستمرارية من داخل نفس الأطر الفكرية القديمة للتقليد الإسلامي، أو بالضبط أطر التوفيقية التي أسس لها محمد عبده وسار عليها من يعرفون بالإسلاميين التنويريين، فإن أركون أصبح يرمز لخط القطائع الفكرية في دراسة هذا التراث. فهو عوض أن يتكلم عن إصلاح هذا الأخير أو ترميم بعض جوانبه المتنورة ، يدعو إلى هدمه وتفتيته ومن تم الكشف عن عناصره المكونة الأولى.
غير أنه لفهم رؤية أركون في الموضوع، لابد من وضعه هو نفسه في السياق الفكري العام الذي تربى في أحضانه، وعلى أساسه صاغ فرضياته أو استلهم مناهجه. وهذا السياق ليس غير سياق الفورة المعرفية الكبرى التي وقعت في أوروبا وبالخصوص في فرنسا بداية من الستينات من القرن الماضي، كما تجسدت مثلا عند مدرسة الحوليات في التاريخ أو في حفريات فوكو، وما تبع ذلك من صعود للبنيوية وصلت قمتها في السبعينات مع باحثين من مجالات مختلفة مثل جاكوبسون أوبارث أو ألتوسير ...
لكن لأن هذه الفورة المعرفية نفسها، قد تطورت بعد هذا التاريخ في اتجاهين مختلفين:
اتجاه التفكيك والاختلاف أو ما عرف بتيار ما بعد الحداثة متجسدا مثلا عند ليوتار أو دولوز وصولا إلى قمته مع ديريدا، وهو التيار الذي ركز كل جهده في رفع معاول الهدم في وجه كل الأنساق الفكرية والإيديولوجية الموجودة أو ما سموه بالحكايات الكبرى، من دون أي انشغال باقتراح بدائل لما يتم هدمه، بحيث وصل الأمر عند بعض أنصار هذا التوجه إلى حد السقوط في العبث والعدمية.
ثم الاتجاه الثاني الذي جعل نصب عينيه، مهمة البحث في ظواهر التعقيد وفي النظرية العامة للأنظمة، ومحاولة إعادة بناء أنساق بديلة عما تم هدمه أو ما عرف بالنزعة البنائيةconstructivisme . مع الإشارة هنا أن التأسيس لهذا الاتجاه لم يتم في فرنسا، وإنما على يد باحثين من الولايات المتحدة أولا مثل نيومان أو بارتلانفي أو ماتورا ...، ومن ألمانيا كما تجسد ذلك في اهتمامات مدرسة فرانكفورت وممثلها الأخير هابرماس في رفضه لمزاعم ما بعد الحداثة، واعتباره أن الحداثة إنما هي مشروع لم يكتمل بعد وأنها لا زالت في حاجة لاستكمال البناء. كما أن هذا التأسيس لم يساهم فيه بالضرورة الفلاسفة أو المتخصصون في العلوم الإنسانية، باستثناء علم النفس، كما في التقليد الفرنسي، ولكن باحثون من مجالات السيبرنيتيك والمعلوميات وعلوم التواصل والأعصاب أو ما يعرف عموما بالعلوم المعرفية الجديدة cognitives. ولم يصل تأثير هذا الاتجاه إلى فرنسا إلا في مرحلة متأخرة، على يد مفكرين أمثال ألان تورين وإدغار موران ولومواني...
أمام هذا التفرع في النزعات الفكرية لفرنسا ما بعد السبعينات، قد نتساءل فيما يخص موضوعنا، أين موقع محمد أركون من ذلك؟
مما لا شك فيه أن أركون لم يكن متفقا مع فوكو فيما وصل إليه من نزعة عدمية، وذلك حين انتقد أطروحته حول "موت الإنسان" واعتبر أن من مات في تلك المرحلة هو نوع معين من الإنسان، ذلك الذي رسم صورته ديكارت وبعده الفلاسفة الوضعانيون والكلاسيكيون الجدد، باعتباره ذلك الشخص الفرداني والنفعي و"العقلاني جدا". وبالتالي فإن المجال يصبح مفتوحا في نظر أركون، أمام إمكانية انبثاق "إنسان جديد" بمواصفات أكثر إنسية تجمع ما بين المادي والروحي.
غير أن التمايز الذي لا زلنا نبحث عنه بين المفكرين، هو في تصورهما لكيفية تعاقب المراحل التاريخية.
فقد وضع فوكو لهذا الغرض مفهومه الشهير: الإبستيم، ومعناه الخلفية الثقافية أو الإطار المعرفي العام الذي يؤطر عن وعي أو دون وعي، طريقة تفكير كل من ينتمي إلى عصر معين. وهو إذ استعمل هذا المفهوم في ترصد مراحل تطور العقل الغربي في أوربا، توصل إلى توزع هذا التطور ما بين ثلاث إبستيمات:
- الإبستيم الذي طبع مرحلة النهضة والمتميز بمحاولة التماهي أو التشبه واسترجاع القيم السابقة للعصرين الإغريقي والروماني،
- الإبستيم الذي بدأ يتبلور منذ القرن السادس عشر على يد ديكارت وباسكال مثلا، أو ما اصطلح عليه بفكر الأنوار، والذي استمر تأطيره لمجمل الثقافة الأوروبية حتى بدايات القرن العشرين، وهو يقوم على جعل الإنسان في مركز الكون ومنحه كل القدرات، خاصة العلمية منها، للتحكم والسيطرة على كل مناحي الحياة والعالم.
- ثم الإبستيم الذي بدأ يتبلور في العقود الأخيرة، وذلك منذ أن شكك نيتشه ثم هيدجر في العقل الأنواري نفسه، وشكك فرويد في سلامة عقلانية العقل الديكارتي، وبالخصوص بعد أن كشف آينشتاين ومعه علماء فيزياء الكوانتا في الرؤية الميكانيكية عن العالم التي كان قد صاغها نيوتن في بداية القرن الثامن عشر. هذا الإبستيم الجديد هو ما سعى إلى توضيح نسبية قدرات الإنسان الحديث إن لم تكن ضحالتها في مواجهة واستيعاب كل مظاهر التعقيد والاختلاف التي يزخر بها العالم.
غير أنه بالموازاة مع هذا المصطلح، اقترح توماس كوهن ثم بعده إدغار موران، مصطلحا آخر شبيها له هو: البارديغم. لكن مع وجود فرق كبير بين المصطلحين:
فإذا كان فوكو ينظر إلى تتابع هذه الإبستيمات أو المراحل المعرفية، بشكل تجاوري juxtaposés ، أي بوضع كل إبستيم بجوار أو جنبا إلى جنب مع الآخر، بدون تحقيق أي تراكم تاريخي إضافي ، أو بنفي فكرة التقدم نفسها،
فإن موران مثلا ومعه الباحثون البنائيون، يصور تعاقب الباراديغمات على أنها عملية تراكبية بعضها فوق بعض superposés ، أو أن كل باراديغم جديد إنما يعمل على استدماج ما سبقه قبل أن يتخطاه ويتجاوزه، كما فعلت فيزياء آينشتاين مثلا مع فيزياء نيوتن. ومن هناك تجد فكرة التقدم كل معناها، لكن ليس التقدم على مسار خطي تصاعدي، وإنما على أساس قطائع تتجه من الأدنى إلى الأعلى.
هذا المنحى المتصاعد للتحولات المعرفية كما تصوره القطائع أو الانتقالات من باراديغم إلى آخر، هو ما نعتقد أن أركون قد مال إليه في الأخير، واستعمله في تتبع التحولات المعرفية التي شهدها العقل الإسلامي، حين انتقاله من عصر التأسيس في القرنين الأولين، إلى عصر الانغلاق الدوغمائي بداية من القرن الخامس الهجري. وما يحفزنا على هذا الاعتقاد هو استعماله لمصطلح: la raison émergente ، الذي ترجمه البعض بالعقل الاستطلاعي الاستكشافي، ونفضل نحن مؤقتا ترجمته إلى: العقل المنبثق، وذلك باعتبار أن مصطلح الانبثاق l’émergence ، يعد حاليا واحدا من المفاهيم المركزية في النظرية العامة للأنظمة ونظرية التعقيد، والذي يتداوله الباحثون من المدرسة البنائية لتوصيف الظواهر الجديدة التي تظهر في كل نظام.
وهكذا إذا نحن سلمنا بانحياز أركون إلى هذه المنهجية الأخيرة، واستعمال أدواتها في سبر أغوار ثقافتنا الإسلامية، فقد نصبح أمام فتح جديد على المستوى المنهجي في طريقتنا لمقاربة هذه الأخيرة، سينقذنا بدون شك من ثلاث أنواع من المطبات بقي البحث في هذا المجال معاقا بسببها:
- منطق الاستمرارية أو ما يذهب إليه دعاة الإصلاح والتوفيقية بالحفاظ على نفس البارديغم أو الأطر المرجعية القديمة. ومنهم عابد الجابري مثلا أو حسن حنفي.
- منطق الحتمية أو ما كان يتصوره دعاة التطور الخطي ممن ساروا على التقليد الهيجيلي الماركسي، نموذج طيب تيزني أو حسين مروة
- ثم منطق الاختلافيين من أتباع فوكو وديريدا، من الذين حصروا كل جهدهم في تفكيك ونقد ما هو موجود، دون بذل عناء لمحاولة بناء أو اقتراح شيء جديد يعوض ما تم هدمه، كما فعل مثلا ادوارد سعيد في نقده للاستشراق، أو الخطيبي في معالجته لازدواجية خطابنا.
حميد باجو












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قضية احتجاز مغاربة في تايلاندا وتشغيلهم من دون مقابل تصل إلى


.. معاناة نازحة مع عائلتها في مخيمات رفح




.. هل يستطيع نتنياهو تجاهل الضغوط الداخلية الداعية لإتمام صفقة


.. بعد 7 أشهر من الحرب.. تساؤلات إسرائيلية عن جدوى القتال في غز




.. لحظة استهداف الطائرات الإسرائيلية منزل صحفي بخان يونس جنوبي