الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإله كصديق

محمد شرينة

2010 / 10 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل هذا العالم خدعة؟ أم هو حقيقة كما يظهر؟
الظاهر أنه حقيقة ولكن يبدو أيضا أنه قاسي للغاية؛ هو أقسي أنواع الحقيقة، للحد الذي يدفع الكثير من الناس إلى أقصى حدود اليأس والمرار. فما الذي يمكن لإنسان رهيف عمله تجاه هذا العالم؟ لقد عبر مُعبّر عن ضيقه بهذا العالم:
[ " يا حبي أنت ربي، أحببت العالم وربه الله، فإذا بالله يخدع العالم، ينتقم من المظلوم.
قتل أخ أخيه، وسرق شقيق شقيقه، فقتل الله القاتل وعذب السارق.
ما للأب المسكين: مات ابنه فانتُقم من ابنه.
والطفلة التي وقفت تشحذ فما أعطاها إلا القليل من الناس القليل من المال، فبكت والشمس تغيب، في طريقها إلى الجحيم المسمى بيت. تفكر في الضرب والسب الذي سيصيبها هي وأمها لأنها لم تجلب له ما يكفي ثمنا للعرق والدخان. ويحصل في الليل أشياء لا الأم تجرؤ حتى على أن تدري بها وهي دارية، ولا الطفلة تجرؤ على أكثر من تحمل ألمها وذلها.
لم تكن لتعود إلى البيت الذي فيه من العذاب أكثر مما في الجحيم إلا لأن عالم الله أحر وأسوء!
لذلك كرهت الله، وهو صاحب العالم الذي هو أنا، لقد كرهت نفسي.
فقيل لي: اخدع نفسك حتى تعرف بعض الهناء، فطوبى للحمقى والخداعين.
حدث أدونيس عن من نسيت عن جبران أنه قال:
في الغرب أنتم تنقصكم العين الثالثة، ولكن للانسان عينين اثنتين وعين الخداع هي الثالثة.
وقال شرقي ذات مرة: لقد غلبناكم يا غربيين، مسيحنا الشرقي سواكم عبيدا، وغدا بعد القرن الحادي والعشرين، سنهزمكم، كونوا واثقين، لأنكم حمقى لا تكذبون كثيرا، في عالم هو كذبة؛ انه الكذبة الكبرى التي هي أكبر من الحقيقة." ]

فما الحل مع هذا اليأس الناتج عن قسوة العالم والذي يدفع إلى الجنون ؟
الفرق الواضح هو أن فكرا شرقي أكثر سيستطيع التعامل مع صورة الطفلة الشحاذة بطريقة مريحة: هذا قدر الله والله سينتقم من الظالم، لكن ما الفائدة من كل الانتقام بعد أن يقع الظلم وكأبناء جماعة بشرية واحدة أليس الانتقام يعني وقوع الظلم مرتين؟ وسيكمل الفكر السابق أما الفتاة المسكينة فسيعوضها الله وأمامها مستقبل باهر، لكن هل حقا هناك تعويض عن ساعات الألم والذل إلا كذلك التعويض الذي يلقاه شخص فقد ذراعه او قدمه؟ النتيجة أن فكرا كهذا سيخدر رأس صاحبه وينسيه المشهد السابق فينام مرتاحا. لكن هذا بالضبط هو ما يجعل هذا الشخص لا يفعل شيئا ولا يغير شيئا، الألم هو الذي يدفع إلى التغيير والعمل فكلاهما فيه معاناة وصعوبة. لكن الألم الناتج عن مثل الصورة السابقة أكثر قوة من تلك الصعوبة وهكذا يندفع الانسان إلى العمل والتغيير ويتحمل المعاناة ليس فقط من أجل إنصاف الطفلة بل بالأساس من أجل تخفيف الم ذاته. إذا فكر اكثر شرقية يؤدي إلى راحة أكثر وعمل و تغيير اقل. لكن حجته هي: حتى لو كان الأمل بالعدل والرحمة اللذين ينتظراننا في لحظة ما من المستقبل وهما فما الخطأ في كذبة تعطي حياتنا معنى وأمل؟
وبالعكس يؤدي فكرا غربي بصورة أكثر إلى راحة اقل وعمل أو تغيير أكثر. لأن حجته: أن تلك الراحة ليست بالمجان وإنما ضحينا من أجلها بقدرتنا على تغيير واقعنا نحو الأفضل.
هناك مصائب في هذا العالم لا يمكن لأحد عمل شيء حيالها؛ الأمراض المستعصية والكوارث وغيرها ولكن مع ذلك فان العجز عن التسليم بحتمية تلك ، الآلام الناتج أساسا عن عدم القدرة على تخدير ألمها ، هو الذي دفع الجزء الأكثر مغامرة وعمل من البشرية – الغرب - إلى مقاومة حتى أسباب المعاناة التي تبدو مستحيلة الحل كمرض السرطان وقد نجحوا في ذلك إلى حدود بعيدة.
ولكن الانسان ذو الفكر الأكثر شرقية سيقول:
[ "في الواقع ان ما يستند اليه كل شيء بحيث يكون أساس كل الأشياء أعني الذي لا يمكن للانسان أن يكون سعيدا بدونه لا يمكن ان يكون كذبة حتى لو كان كذلك. حتى لو كان كذبة من وجهة نظر العقل البحت فانه لا يمكن أن يكون كذبة من وجهة نظر المعرفة البشرية النافعة والتي لا يمكنها أن تستند إلى العقل البحت في هذه الحالة.
لا يمكن النظر إلى العالم كما هو فهذا النظر يقود إلى الفراغ والعبث بل إلى اليأس والقنوط. لا بد من النظر إلى العالم كما نريده – حتى لو كان هذا غير ممكن التحقق بالتحليل العقلاني البحت. والواقع أنه كانت هناك دائما نزعة لدى العقلانيين وهم في الغرب أكثر منهم في الشرق بأن ينظروا إلى العالم كما هو ولقد انطلقت الفلسفة اليونانية في مراحلها المتأخرة متأثرة بالفكر الشرقي كما أن الحضارة الغربية الحديثة قائمة في أحد أركانها على المسيحية وهي فكر شرقي.
في البداية والنهاية المؤثر الحقيقي الذي يؤثر على البشر هو فهمهم وتفاعلهم مع الواقع وليس الواقع بحد ذاته. فكم من قوي يظن أنه ضعيف فيكون كذلك وكم من فقير يرى نفسه غنيا فيصير كذلك. هل عشت يوم البارحة أم هل حلمت بذلك وماذا عن قبل أمس وقبله؟ هل احلم أو أعيش؟ لا بد من أن أؤمن أنني أعيش: حتى لو كنت أحلم فسأؤمن أنني أعيش ومن هنا فقط يمكنني أن أنطلق.
مع التسليم بوجود ما لا يُطاق ولا يُبرر في هذا العالم، لكن هل هذا مبرر لتصوير العالم كله بشكل لا يطاق؟
لا يوجد حل أمام الانسان ليعيش بشكل مرضي غير الأيديولوجية؛ بدون كذبة تصير صعبة حياة البشر. لكن الكذبة التي ينبني عليها استقرار البشر هي الحقيقة العظمى. وبالتالي ليست مشكلة العرب أو معظم الشرقيين الحاليين الكذب على أنفسهم بل في أنهم اختاروا أكاذيب رديئة ولى زمانها.
مؤخرا فقط – يقول الشرقي آنف الذكر - عرفت أنه إذا كانت مهمة العلم اكتشاف قوانين العالم ثم تسخيرها لخدمة البشر فان مهمة الأدب والفلسفة اكتشاف أفكار "أكاذيب" جديدة تحافظ على التماسك النفسي للبشر.
لا يمكن للانسان أن يتماسك نفسيا إذا قبل هذا العالم كما هو واعترف بذلك:
هل تترك القاتل فتشجع الناس على قتل بعضهم؟
أم تقتله فإذا بك تقتل الإنسانية مرتين!
وأصلا هل القاتل مسئول عن فعلته؟
لكن الانسان على علاته ذكي سريعا ما يكتشف انه يعيش كذبة، خاصة في فترات تقدم العلم لأن العلم يكشف سريعا زيف أيديولوجيات البشر. وبالتالي فان على الأدب والفلسفة في هذه الفترات مهمة شاقة هي القدرة على الإتيان بالمزيد والمزيد من الأفكار والأيديولوجيات أو "الكذبات".
في العصر الحاضر انهار الأدب والفلسفة تحت ضغط التقدم السريع للعلم ففي العصور السابقة احتاج العلم أكثر من عشرة قرون ليكشف المسيحية بينما هو عرى الماركسية اللينينية في عدة عقود ثم ازداد ضراوة وسرعة بعد ذلك!
لكن هذا لا يعفي الأدب والفلسفة من مهمتهما؛ على الأقل المحاولة." ]
أكثر ما يدهش الغرب في الفكر الشرقي هو قدرة الأخير على صياغة الحقائق الأساسية وهي نفسها "الأكاذيب" المؤسسة لثقافة ما - والتي نقبلها ليس لأنها صحيحة عقليا فهي ليست كذلك، بل لأننا نعتبرها ضرورة وجودية يفقد وجود الانسان دونها قيمته أو على الأقل بهاؤه - بطريقة محكمة يكاد يستحيل فيها التمييز بين الحقيقة و الوهم. يستطيع ذلك لأنه يرى العالم بما يسميه جبران العين الثالثة. وأنا بعد عناء كبير ونفور من هذه الطريقة طويل، أعترف بأن هذا هو أعلى مراتب الذكاء أو الدهاء البشري. ولكن أليس كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
يتابع المتحدث السابق:
["لا يجب ان يقودنا الفكر إلى العالم كما هو فليس هذا ما نريده بل يجب على الفكر أن يحطم الأوهام التي مضى زمانها وفقدت فائدتها. أرواحنا كأجسادنا رهيفة بل أكثر رهفا لا تستطيع أن تواجه العالم عارية. ومهمة الفكر هو تمزيق الثوب البالي الذي لبسته أرواحنا قديما ليتسنى للروح لبس جديد.
أما التناقض القابع بين ذاتنا والعالم أو بين ذاتنا العاقلة( التي تعقل العالم كما هو) وذاتنا الفاهمة( التي تفهم العالم كما تريده) فسنواجهه في كل قضايانا الكبرى كمسألة قتل القاتل آنفة الذكر ومسالة الإرادة الحرة: هل نحن مسيرون أم مخيرون، وسنواجهه هنا. فالفكر اما يكسل للحد الذي يتركنا نتسكع بنفس الثوب البالي قرون طويلة وإما ينشط للحد الذي يمزق الثوب قبل أن تكتمل حياكته. وهنا تكمن اليوم المهمة الكبرى للفلسفة والأدب: حياكة ثوب يحمي أرواحنا من قسوة العالم ولا تمزقه معارفنا العلمية المتقدمة أو على الأقل تبقي عليه لزمن معقول ريثما يحيك الأدب والفلسفة غيره.
في الواقع كل نتاج الفلسفة والأدب في القرون الماضية كان محاولة لحل هذه المسألة لكن نجاحه كان محدودا لعدة أسباب: أهمها التقدم العلمي المتسارع. السبب الثاني هو الزمن الطويل الذي قضاه العالم المتقدم(الغربي) في صراعه مع اللاعقلانية للحد الذي صارت لديه العقلانية أهم من الحياة ذاتها. والأخير هو التقدم المادي الكبير الذي تحقق في الغرب والذي فرض نوعية من الحياة العملية التي في أحيان كثيرة تستنفذ كل طاقة الناس غير تاركة لهم وقت ولا حاجة للتفكير في ما هو أكثر من الحياة اليومية. لكن هذا الوضع لن يستمر كل الزمن ولن ينسحب على كل البشر، فالكثير من الغربيين أنفسهم لم يكونوا مرتاحين لذلك الوضع. عدم الارتياح هذا يزداد كماً ونوعاً حتى في الغرب ذاته، وما لم ينجح الأدب والفلسفة بإيجاد بدائل متقدمة فمن الطبيعي أن يعود الناس للأفكار القديمة ليس لأنهم بعد أن تركوها لسوئها عادوا واكتشفوا جودتها بل لأنهم لم يجدوا غيرها."]

جمعا بين قول القائل السابق وبين ما أسلفته من كون الألم هو الدافع الفعلي للعمل والتغيير فانه يمكنني التأكيد أنه لا يوجد هناك حل بل طريقتي حياة:
تخفيف الألم أو حتى محوه بل ربما تحويله إلى لذة بالطريقة الشرقية، أو التعامل معه والهروب منه إلى العمل والتغيير علما أنه عندها لا الألم سينتهي ولا التقدم يمكن أن ينتهي، فهما سبب ونتيجة فالأرض لا تجف مادام المطر يهطل. طبعا الألم سيتوارى فعقولنا لا تتعامل مع أكثر من موضوع واحد فعندما يسقط احدنا يحس بألم شديد في ذراعه وما أن يخف هذا الألم حتى يكتشف ان ذراعه الأخرى أيضا تؤلمه. لكن أيضا هذه الطريقة – الغربية - أيضا تحول الألم إلى لذة: يتم ذلك عن طريق الشعور بالقدرة على الفعل، بالقدرة على التغيير، بالإلوهية.
أهم وسائل الطريقة الأولى الايمان بفكرة وجود قوة عظمى رشيدة قادرة على كل شيء تسير العالم ثم الاستسلام لها، سواء كانت هذه القوة موجودة أو مخترعة بشريا. وعلى هذه الطريقة قضت الهند عشرات القرون لم تحقق شيئا سوى السعادة الذاتية لأناس يعتبرون ان كل ما حصل مهما كان سيئا مقبول وحسنٌ انه لم يحدث ما هو أسوء. وعلى الطريقة الأخرى الأكثر غربية قضى الغرب معظم تاريخه وهي قادته إلى القمر والفضاء.
أقول أكثر غربية وأكثر شرقية لأن لا واحدة من الطريقتين شرقية بالكامل أو غربية بالكامل فالإسلام في قرونه الأولى لم يكن يتبنى الطريقة الهندية ولم يكن فكر المعتزلة إلا تعبيرا عن حال الفكر الإسلامي يومها والغرب قضى قرونا في العصور الوسطى على الطريقة الأكثر شرقية.
بالطبع ليس هناك فكر قدري بالكامل فأكثر الناس استسلاما إلى القدر لا ينتظر من الطعام أن يصعد إلى فمه، وليس هناك فكر حر بالكامل – يعتقد بقدرة البشر الكلية على الفعل والتغيير – فلا احد ينكر تدخل القدر الذي يغير مجرى الأحداث كالموت المفاجئ أو العجز وغيره. لكن كل فكر يصنف حسب المبدأ الأول الذي ينطلق منه ففكر قدري ينطلق من أن الأقدار تلعب بالناس لدرجة أن تأثيرهم معدوم أو شبه معدوم، بينما فكر فعال ينطلق من أن الانسان هو اللاعب الأساسي في الحياة.
فهل هناك حل؟
مع التسليم بان لكل من الطريقتين محاسنها ومساوئها لكن لا يوجد منطقة وسطى بين الجنة والنار ولا يوجد مخلوق وسط بين الذكر والأنثى. فإذا اختار المرء أن يكون خادما في بيوت الأغنياء فسيقضي وقته في بيوت مكيفة لكنه سيكون خادما أما إذا اختار أن يكون بحارا فسيقضي وقته في عرض البحر لكنه سيكون ما اختار في الحالتين.
بعض الناس يعتقد أنه أمر بيولوجي وانأ اظن انه ثقافي: فلا الجن ولا الملائكة تقدر على أن تقنع الخادم أنه من الأفضل له أن يكون بحارا رغم أنه ربما اشتهى ذلك، ولا هم قادرين على إقناع البحار أنه أكثر راحة له أن يكون خادما.
أحبابنا الأكثر شرقية ظلوا وسيظلون يناقشوننا بأنهم يريدون أخذ محاسن الطريقتين وتجنب مساوئهما؛ إنهم على يقين بأن التنقل على الأقدام أكثر أمانا من التنقل بالسيارة – وهذا هو الجزء الطبيعي من القضية - لكن الجزء الذي لا حول ولا قوة لنا حياله هو أنهم يعتقدون أنهم سيصلون إلى حلب مساء اليوم وقد انطلقوا من دمشق ظهر نفس اليوم!
يصرون على الثقة بالقدر ولا نستطيع أن نمنعهم فهو مريح – هذا هو الجزء الطبيعي من القضية – لكنهم يعتقدون أنهم سيحصلون على التقدم والرفعة مع ذلك وهذا هو الجزء غير الممكن.
في مقالة بعنوان دين التقدم تحدثت عن أن الاعتقاد بأن القدر هو سيد مصيرنا له أدلة كثيرة في الأدب والفلسفة وحتى في العلم. فما هو دليل الحرية؟ بمعنى؛ ما هو الدليل على أننا نحن سادة مصائرنا؟ الواقع هناك دليلان هما الأشد عظمة وقوة:
الأول وهو الأشد عظمة هو شعورنا وتوقنا نحن البشر لأن نكون أربابا وآلهة. الهدف الأسمى للتربية الشرقية هو قتل هذا الشعور الذي يولد فطريا مع كل البشر.
والثاني الذي هو الأشد قوة هو التجربة؛ فالعلم لا يقبل أي نظرية لا تدعمها التجربة؛ تجلت هذه التجربة التي امتدت لحوالي ثلاثة او أربعة آلاف سنة من التاريخ البشري في فكر الهند والوضع الذي قاد اليه أصحابه وفكر الغرب والوضع الذي قاد اليه أصحابه.
مكمن الصعوبة في المسألة أنك حتى تكون ناجحا يجب أن لا تكف عن محاولة النجاح؛ واذا كانت الطبيعة لا تعطيك شيئا بدون عمل ومحاولة فإنها أيضا لا تضمن لك نجاح عملك ومحاولاتك. ولكن الحرية والنجاح ثمينان للحد الذي جعلت الطبيعة لكل منهما ثمنان لا ثمن واحد. ثقافة أكثر غربية تمجد حتى المحاولة غير الناجحة، كل شخص يستفيد من المحاولات غير الناجحة لكن هناك أشخاص حتى يستمتعون بها.
يعلق المتحدث السابق: [ " من المبالغة القول أن أحدا يستمتع بالفشل! وإلا لكان الأمر سهلا فالفشل ميسور لكل أحد وبالتالي يمكن الاستمتاع به دائما. ورغم أن المقصود قد يكون هو الاستمتاع بالمحاولة الفاشلة لا الفشل ذاته فهذا أيضا مبالغ فيه. ومع التسليم بأن النجاح ممتع والشعور بالقوة لذيذ فليس كل أحد قوي ولا كل الناس تنجح، فماذا عن الضعفاء الذين هم أكثر أهل الأرض؟ ألا يحتاجون إلى فكرة تعزيهم في هذا العالم وتجعل الحياة محتملة بالنسبة لهم؟ "]
ما أعرفه هو أن البشر اما عانوا ونجح بعضهم وإما استراحوا وفشلوا جميعهم!. لكن القائل السابق يضيف:
[" هنا تكمن المشكلة فالاستسلام لمشيئة العالم تؤتي راحة لكل من يفعلها لكن مقاومة الأقدار إنما تؤدي بالبعض وهم القلة إلى النجاح فأيهما أحق أن يتبع؟! الجواب سهل: إذا اصرينا على نفي وجود حل وسط يضمن توازن شعور الناس من خلال إيمانهم برحمة ما ترعاهم في هذا العالم ويدفعهم في نفس الوقت إلى العمل وتحدي ظروفهم، فان الحل الأول هو الأسلم لا محالة"]
فهذا القائل يقول أن هناك حل وسط يجمع كلا الحاجتين الجوهريتين للبشر: الحرية والأمان. رغم ان ذلك يبدو لي غير متفق مع ما يقوله تاريخ البشرية ولا مع منطق الأمور فرغم أنه ليس هناك ذكر كامل ولا أنثى كاملة إلا أنه ليس هناك كائن وسط بين الذكر والأنثى.
أخيرا أنقل على عهدة الراوي دونما تعليق ما قاله من ادعى أنه لا شرقي ولا غربي: {{ يمكن حل المسألة بالالتجاء إلى الربة العظمى الحامية التي هي الهي وأنا ربها. وهذا ما فعله النبي محمد الذي استعان باله هو يقرر ويتحدث عنه.}} !!!!
يقول القائل الأخير: {{الرب رائع ما دمت أنت مسيره والقدر نافع ما ظل موضوعا لتتحداه}}
ولكن هل هذا رب وهل هذا قدر؟ لعلها تلك الكذبة التي تحدث عنها صاحبنا الشرقي لكن بطريقة معكوسة.
فإذا كانت كذلك فهي رغم عدم انحصارها الكامل بالشرق أعظم نتاج الشرق، فهي تبدو لي دون شك ذات مصدر شرقي ككل الأكاذيب التي تحتاج رؤيتها إلى عين جبران الثالثة!
نعرف شرقيين كمحمد يجيدون لعبة القدر يندفعون معه إلى حدود بعيدة ثم يتركونه يستريح قبل أن يستنفذوه وهو ما يزال واعدا بالمزيد من المكاسب. بينما غربيا مثاليا يفعل كنابليون يتبع القدر المواتي حتى يستنفذه فينقلب القدر فجأة وعندما يغير القدر اتجاهه يستحيل إيقافه كما فعل مع نابليون عام 1812 في سهوب روسيا قرب موسكو. عندها لم تعد أي قوة في العوالم كلها قادرة على إنقاذ نابليون الذي كان في عام 1811 السيد المطلق للعالم. وبعد ذلك فعل الألمان نفس الشيء في الحرب العالمية الثانية.
واليوم العالم الذي يقوده الغرب يضغط على الطبيعة بشكل قريب لما فعله نابليون بأوربا في بداية القرن التاسع عشر وأخشى أن لا يبدأ التفاعل الجدي مع المسألة إلا بعد أن ينعكس اتجاه سير الأمور. عندها ستبدأ كارثة لا يمكن إيقافها حتى تبلغ أقصى مداها من التدمير، تماما كما حدث مع نابليون وبعده هتلر.
كثير ما يوجه المؤرخون اللوم إلى أشخاص كانت أمامهم فرص لم ينتهزوها بشكل كامل، فالطريق كان لوقت طويل مفتوحا أمام العرب وبعدهم الأتراك للسيطرة على أوربا، لكنهم لم يستغلوا ذلك. لكن نفس استغلال الفرص إلى حدها الأقصى هو ما أدى إلى عكس المقصود في حالة نابليون وهتلر. وحتى قبل ذلك أدى التوسع الكبير للإمبراطورية الرومانية إلى انحلالها. ليس هناك من قمة لا تخفي خلفها واديا وتجاهل ذلك يعني تجاهل أحد أهم قوانين الطبيعة.
ربما تحتاج هذه الموهبة إلى عين ثالثة: أن يعرف الانسان بل الأحرى أن يحس فهذا شيء لا يمكن معرفته؛ متى يتبع القدر المواتي محققا المزيد من المكاسب ومتى يستسلم للقدر قبل أن يصير معاكسا فيطحن كل ما يواجهه.
وللإنصاف فان الغربي المثالي يكاد لا يعرف إلا الشطر الأول من المعادلة والشرقي المثالي يكاد لا يعرف إلا الشطر الثاني منها أما الجمع بينهما فيحتاج إلى فحل لديه عين ثالثة.
أعظم نقاط تفكير وتصرف محمد أنه يجيد تماما أن يكون ربا يتصرف بالأقدار بقدر إجادته لكيف يكون عبدا تتصرف به الأقدار. وقد أتقن المسلمون الشق الثاني فقط وأجادوا اتباع نبيهم فيه. للإنصاف كان عمر مثل محمد وظل المسلمون يجيدون كلا طرفي المعادلة لمدة قرنين أو ثلاثة من الزمن. ثم وعلى الأغلب بتأثير الأفكار الشرقية المتأصلة في المنطقة تنكروا لطرف المعادلة الأول واكتفوا تماما بالثاني.
أما لماذا يكون الانسان بأفضل قوة ممكنة في حالة العبد الرب بمعنى يعامل إلهه كصديق؟
لأن كل إنسان فاعل لا محالة يمر بثلاث مراحل: مرحلة النشاط حيث يعمل غير ملتفت إلى شيء ومن له رب كصديق يمكنه أن ينساه في هذه المرحلة. المرحلة الثانية عندما يشعر بصعوبة العمل؛ وهنا يمكن لهذا الانسان أن يستعين بصديقه الرب ولو معنويا. في المرحلة الثالثة عندما يصبح من غير الممكن عمل شيء أو أن ذلك صعب لدرجة لا يمكن احتمالها يستسلم هذا الانسان للقدر الذي يسيره صديقه الرب حتى تسنح الفرصة لينطلق من جديد. من ليس له رب صديق ينجز المرحلة الأولى بنفس الكفاءة والثانية بكفاءة اقل أما الثالثة فهي فترة إحباط وكبت له. الذي له رب سيد استسلم تماما له ينحصر في المرحلة الثالثة فقط.
تجنبا للخلط فالرب الصديق يساعد صديقه الانسان على تحقيق إرادته الإنسانية، أما الانسان العبد فيبحث عن ارادة الرب السيد لينفذها فإذا واجهته أدنى صعوبة، مدركا أن صاحب الإرادة هو الذي يجب أن يدافع عنها، يركن إلى السلبية قائلا كعبد المطلب: للبيت رب يحميه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
شاهر الشرقاوى ( 2010 / 10 / 12 - 20:09 )
الاستاذ محمد شرينة
مقالك رائع يا سبدى يعبر عن شخصية سوية ورشيدة وتفهم الدين والايمان فهما عميقا وسويا
من اجل هذا ..أتخذ الله ابراهيم خليلا ...
ومن اجل هذا ..امر الله محمد .بان يتبع ملة ابراهيم حنيفا

فى المراحل الثلاثة التى تكلمت عنها حضرتك .الله موجود دائما .حتى وانت تأخذ بالاسباب .بحرية مطلقة .وتنسى ذات الله ..ولكنك لا تنسى ابدا شرعته ومنهاجه .والوسيلة القانونية التى تحقق بها هدفك فى الحياة
من اجل هذا يقول العارف بالله
(اعلى مقامات الذكر ان تغيب فى ذكره عن ذكره )
اى تخلص وتركز فى عملك المكلف به تركيزا شيدا ينسيك ذات الله
وهذا اروع مقام يكون فيه العبد قريبا من الله ..يكون عبدا ربانيا

سعيد بتعرفى عليك
والسلام عليكم


2 - كلام جميل
عبدالوهاب شرينه ( 2010 / 10 / 13 - 12:57 )
سيدي الكريم نحن الآن بأمس الحاجة إلى من يحاول أن يضع يده على الجرح النازف في أمتنا لعله يساعد في إطالة عمر هذه الأمة واستعادة قواها وانطلاقها من جديد نحو الضوء الذي كاد أن يختفي منذ عدة قرون وموضوعك هذا يحاول وبكل صدق توضيح العلاقة مابين العبد والرب والتي هي أساس أي تقدم بشري لأن أي تقدم ينطلق من الفرد وإذا أساء الفرد فهم هذه العلاقة أو أصبح عبدا مطلقا لنظرية ما توقف تطوره نهائيا .
خلاصة القول مقال رائع جدا
والسلام عليكم

اخر الافلام

.. الآلاف يشيعون جـــــ ثمــــ ان عروس الجنة بمطوبس ضـــــ حية


.. الأقباط يفطرون على الخل اليوم ..صلوات الجمعة العظيمة من الكا




.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله