الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان المنفصل

ابراهيم هيبة

2010 / 10 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كلما تعمقت في هذه الحياة أكثر، كلما تولّدت عندي الرغبة في الانفصال عنها. إنها ضرب من الضراوة، والعيش في قاع المحيط أرحم من العيش في مجتمع بشري. عندما أتأمل هذا الأخير، لا أرى فيه إلى اجتماعا من أجل التآمر المشترك: ماذا تكون السياسة سوى تخصصا في الكذب والتضليل، وما هو الاقتصاد سوى أن يأكل السمك الكبير السمك الصغير، وماذا يمكن أن تكون الإيديولوجيات سوى ضربا من الشر المنظم، والتاريخ سوى أن يحتقر أولئك الذين في القمة الآخرين الذين في السفح؟! من يتأمل جدا حماقات البشر من المستحيل عليه ألا يقاوم إغواء الانطواء على الذات. كل البشر مصابون بمرض الحياة؛ فبمجرد ما يجد الواحد منهم نفسه على هذه الأرض إلا وينخرط في الحياة بكل تفاصيلها ويطبق قانون العيش بحذافيره ـ إننا لا نحسن الانفصال عن الأشياء، فالكل يريد أن يعيش. ولكن ما الذي يعنيه هذا العيش حقا؟ إنه يعني الانغماس في الخطأ ـ أي تحميل الحياة بأكثر مما في طاقتها، إنه نسيان للموت وتأليه الذات.
"لِيَكُفِّ الإنسان عن التعلق بالأشياء، وسيرى كيف سيجد نفسه في مأمن." (تشوانغ- تسي). حكمة عميقة، لكنها أصبحت مهجورة. كل البشر اليوم، يركضون من الصباح إلى المساء خلف أشياء هذا العالم؛ لن تجد بينهم ولو شخصا واحدا لا يملك هدفا أو خطة عمل؛ الكل يريد أن يغير الكون بطريقة أو بأخرى؛ ما من أحد إلا ويقلد إلها ما. أينما تولي وجهك لن تجد إلا أناس غارقين في حياة من التوتر والصخب: هذا تحركه إرادة القوة، وذاك إرادة الاستعلاء وآخر إرادة التمايز. الحياة الصاخبة تتعارض مع الطاو (لاوتسو)؛ فحسب هذا الحكيم الصيني لا يكون الإنسان صالحا إلا بقدر ما يتنحى جانبا. أنا أيضا لم أتمتع في حياتي بالهدوء والسكينة إلا لأنني لا أصلح إلى أي شيء؛ شأني في ذالك شأن شجرة معوجة الجذع، تقع على هامش الطريق، لا تثير اهتمام النجارين ولا الحطابين.
الحقائق الكبرى للوجود دائما ما تكون حقائق باطنية؛ ولكي يكتشفها المرء لابد من أن يكون متمتعا بقلب منبسط و وعي شفاف. وأما بخصوص هذا العالم الذي نعيش فيه فلا يمكن إلا أن نقول عنه بأنه مجرد وهم؛ والدليل على ذالك هو أنه عالم في متناول الكل؛ فلكي يراه المرء لن يحتاج إلى أكثر من شيئين اثنين: عمى الغرائز ودفع الأهواءـ أي باختصار، كل ما هو حيواني.
وحده الإنسان المنفصل يستطيع أن يسبر الجوهر العدمي لعالمنا هذا؛ فقلبه المجرد من كل ميل وعقله الخالي من كل ارتجاج يمكِّنانه من رصد كل الخدع التي تصنع تشويق الحياة. أما الإنسان المتيم بالحياة فإنه لا يملك مثل هذا الامتياز؛ فانغماسه الغير المعقول يجعله جزءاً من اللعبة، كما أن قلبه الممتلئ بالرغبات والمشاعر المتضاربة يمنعه من رؤية الأشياء كما هي في حقيقتها. وحده الشك ـ الذي هو رياضة فلسفية ـــ ينقدنا من خطر الغرق في لُج الحياة؛ فلولاه لكنا مجرد دمى مضحكة تحركها قوانين الجسد وتعبث بها تقلبات النفس.
الحياة قصيرة و الإنسان لايملك ما يكفي من الوقت ليضيعه في أشياء أخرى عوض إنفاقه في الانعكاس على ذاته. لِمَ علي أن أشغل نفسي بقضايا هذا العالم فيما كسرة خبز تسد حاجتي وتزيد؟! أحيانا يسألني أحدهم عن رأيي في هذا الحدث أو ذاك فأجيبه بأني لا أهتم بالأمر؛ وهذا أللاهتمام لا يمكن رده إلى الجهل أو اللامبالاة بقدر ما يمكن رده إلى نوع من الترفع والتعالي عن العالم. فكل شخص جعل من نفسه متخصصا في تأمل الوجود والموت لا يمكنه أبدا أن يعيش في العالم، بل بتوازِِ معه؛ لهذا، يجب على كل إنسان يجد نفسه منشغلا بنشاط ما أن يتوقف لبعض الوقت ليراقب روحه؛ فلا شيء أخطر على الروح من ضياعها في الانشغال المطلق بالعالم ـ هذا الأخير عائق لابد من تجاوزه.
وحدهم السذج والممسوسون من يصنعون صخب هذا العالم؛ فكل بناء يقيمونه يكون دائما على أنقاض شيء ما. والحق أن من يطالع كتب التاريخ لا يمكنه إلا أن يلاحظ بأن الخروج من الذات إلى العالم عمل له عواقب وخيمة؛ كل ما حصل لنا مند جنكيزخان، مرورا بهولاكو وريتشارد قلب الأسد، وانتهاء بستالين وهتلر، هو بسب أنه لا أحد منا يتحمل عدمه الداخلي؛ الكل يريد أن ينسى نفسه بالارتماء في حماقة أو أكذوبة ما: هذا يناضل من أجل الأمة، وثان من اجل العدالة، وثالث من أجل الحرية. لا يوجد ولو شخص واحد يقف على الرصيف. فيما مضى، كان ديوجين يحمل مصباحا في واضح النهار ويتجول في الأسواق بحثا عن إنسان مستقيم؛ ولكن لو قُدِّر له أن يعود إلى زمننا هذا ورأى إلى أي حد نحن متورطين في شؤون العالم وقضاياه، لكان سينطلق هذه المرة إلى الأسواق بحثا عن إنسان منفصل عوضا عن إنسان مستقيم.
في الواقع، لا ينجو الإنسان من وسخ الأشياء إلا بقدر ما يجعل من مسافة بينه وبين العالم؛ ولكن عندما انظر، الآن، إلى أشباهي من البشر لا أراهم إلا وهم ملتصقون به. لا يوجد ولو شخص واحد يسير على الهامش. الكل له قناعاته و ينتظر دوره للتدخل، ابتداء من رجال الدين والسياسة، مرورا بالشرطة، وانتهاء بالمنحرفين وبائعات الهوى. الكل مصاب بداء الفعل إلى درجة بت أعتقد فيها بأنني الوحيد الذي لازلت أجوب الشوارع والأزقة بدون شيء في الرأس أو القلب.
ابراهيم هيبة (مراكش/ المغرب)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انفصال
سالم الحر ( 2010 / 10 / 12 - 16:26 )
اما تكفي الاديان فصلتنا علىالحضارة كي تزيدنا انت رهقا وعزلةا


2 - جانبان
ناهد سلام ( 2010 / 10 / 12 - 21:49 )
لمقالك استاذ ابراهيم جانبان احدهما ايجابي ويدعو لرؤية العالم من زاوية اخرى يكون فيها للحياد دور بعيدا عن كل نزعات الذات واخر سلبي فيه انطوائية وسلبيه مزعجة تجاه الاحداث والعالم .
بالامكان حمل العصى من النص ، اصنع لذاتك قيمك وعزلتك وافكارك وبذات الوقت اظهر بعض التعاطف والرأي ان كان ذو جدوى .
تحياتي للكاتب

اخر الافلام

.. معرض -إكسبو إيران-.. شاهد ما تصنعه طهران للتغلب على العقوبات


.. مشاهد للحظة شراء سائح تركي سكينا قبل تنفيذه عملية طعن بالقدس




.. مشاهد لقصف إسرائيلي استهدف أطراف بلدات العديسة ومركبا والطيب


.. مسيرة من بلدة دير الغصون إلى مخيم نور شمس بطولكرم تأييدا للم




.. بعد فضيحة -رحلة الأشباح-.. تغريم شركة أسترالية بـ 66 مليون د