الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ترييف المدينة
محمد أحمد
2010 / 10 / 13العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كثر شيوع مصطلح ترييف المدينة، وأصبح لا يستغنى عنه في الحوارات السورية، ترميزاً ومداورة على استخدام المصطلح الطائفي المقابل، أو أنّه بات الاستخدام الذي يعفي المتحدث من الإحراج أمام ضحالة فكره ومعرفته، ودلالة على هروب من تسطحه المعرفي، وقد كان الاستخدام الأكثر وقعاً لدى كاتبين محترمين سوريين هما الدكتور عبدالرزاق عيد، والأستاذ ياسين الحاج صالح، وكليهما يحمل من رصيد الثقافة والحجة المنطقية الكثير، إضافةً إلى الخبرة والتجربة الشخصيّة الغنيّة لكليهما، مع التأكيد على أنّ منهجية بحثهما تستحق التقدير والاحترام، إلاّ أنّ بعض الزلات أو الهفوات قد تقع، وهو أمر طبيعي.
ولكنّ السؤال الملّح الغائب عنهما يتلخّص في القول: وهل كانت لدينا في بلداننا وأخصّ سوريا مدن لترّيف؟
وبعد الخروج من دائرة الاستهجان أو الاستغباء، يمكن أن نرفد السؤال بآخر أكثر منطقاً، وهو وما هي المدينة؟. وهل التجمعات السكنيّة التي كانت يمكن أن توصف بالمدن، وأعني واقعها في الفترة التي يتم الحديث عنها باعتبارها بداية ترييف المدينة، وهي من مطلع الستينات وحتى نهاية السبعينات والتي يعتبرها الكاتبان مستمرةً حتى الآن.
وهنا نود إجابةً معرفيّةً على مستويات الاجتماع والاقتصاد، أي نرغب أن نعرف نمط العلاقات الاقتصادية، قبل معرفة نوع الاقتصاد ومقوماته، ونمط الإنتاج، وأيضاً ماهية العلاقات والنظم التي كانت تسود؟، بالإضافة إلى عوامل الارتباط أو التجاذب بين ساكنيها.
بعد الإجابة على تلك التساؤلات، يمكن أن نطرح للبحث، موضوع الآفاق المحتملة لتلك التي سميّت مدناً (وجرى ترييفها) لو أنّ هذا (الترييف) لم يحصل.
وفي الحقيقة وعند البحث المتواضع عن تلك الحقبة، خطر ببالي مصطلح أعتقد أنّه مازال ساري المفعول وتزداد فعاليّة وقعه بشدة الآن، وهو واقع ومحاولة (بدونة الريف والمدن)، وإذا كان من المؤكد أنّ مشروع الدول والمدن لدينا، قد (زني) به، فإنّه من المؤكد أنّ التحالف من جهة المصلحة ومحاولة السيطرة، أو التصارع من جهة فرض النفوذ والمذهب ثم التكامل بين المصالح، قد وقع وتمازج ليلتهم مشروع الدولة قبل مشروع المدينة، ساحقاً آمال النهوض لأجيال متعددة، فبعد الزحف البدوي (المقدس)، المقابل للزحف الريفي (الثوري)، خرجنا بتلك المدن السورية الآسنة بعبق الريفيين والبدويين، وأصبحت نظريات الريفيين مطابقة لبعير البدو، ممتزجة أشد امتزاج، وأبعد ما يكون عن مصطلح مدينة أو دولة.
وإذا كان الدكتور عيد قد تحدّث عن حثالة المدينة فما هي إلاّ مكّون من المكونات المتواجدة ضمن كافة البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في أعلى مرحل الجهوزية لتتسلق حيث تستطيع، غير عابئةٍ بما هو ذاك الذي تتسلقه مادام يحقق لها المنفعة ويشبع غول الطمع فيها، ولذة التسلّق ولو كان في ذلك خراب الدنيا، وهذه الحثالة طفيلية ومرتزقة، جاهزة برسم التسليم.
وإذا كان قيام كيانات الدول العربيّة دون جهد عروبي، أو مشروع تحرري نهضوي، بل بفضل مناسبة المقاس للخارج في تلك الفترة، ونمطاً من أنماط الموضة في تلك الحقبة، لتتوافق مع اقتصادات تلك الدول ومصالحها.
وبما أنّ السلاح البدوي (والذي يحمل بين طياته الكثير أو القليل من الغدر) أمضى وأشدّ فتكاً، وزوادته الغذائية جاهزة، بفضل بقاء المراعي (بالمصطلح الأكبر من العشب)، وقتل الطبيّعة المختلفة عن البيادي والصحارى التي يعشق (وإلاّ كيف تفسّرون يا سادة التصحر على كافة المستويات والفكرية منها قبل البيئية، وحتى في أشكال الأبنية المشادة)، والزوادة المعرفيّة التي ليس لها منازع في المدى المنظور أو المتوقع فهي زوادة إلهية بامتياز الترخيص الدائم الصالح لكل زمان ومكان وبدون منازع، أي تحمل ترخيصاً دينياً دنيوياً فهي رخصة (دين ودولة)، فقد انتهى زمن الحصول على الرخص مذ تسّلم البدوي رخصته الأبديّة، مكفولّة ومحصنّةً بسيوف بتّارة، ورقاب جاهزة للقطع في كل زمان ومكان، وحماية ودعم لوجستي من ملائكة وجيوش من الفقهاء يسوسون إنساً مازال ملبوساً بالجن أو أسيراً له مأثوراً بالجنان.
إذاً بالمختصر فإنّ الغزو الريفيّ قد ساهم في تدمير مشروع المدينة، على الرّغم من امتطائه لأحصنة التغيير الثوري، ولكنّ مشروعه باء بالفشل إلى أن أصبح تابعاً يلهث ليلحق بقوت يومه، مسلّما أسلحته وقياده للتفوق البدوي، الذي يمعن في إنجاز مشروعه، محكماً سيطرته على المجتمع بكامله، بدينه ودنياه، بعقله وأحلامه، تاركاً (فقهاء البطالة) و (علماء العلوم المسكوت عنها) يصولون ويجولون ويمرحون على الأرض وعبر الفضاء، متلذذين بذبيحة قدمت لهم من أصحابها (وهم صاغرون) على طبق من ذهب، معتقدين أنّ اللحاق بالبدوي فيه خلاصهم، ولكنّ الجنّة لا تقبل حاملي الأسهم أو الحائزين على بعض الدعاء والمباركة، فالمباركة والأسهم تصرف في الأرض فقط وليس في (جنان الخلد)، حيث لا أمل في مخصصات لهم في تلك الجنة، فقد امتلكوا من مخصصات الأرض أكثر مما يستحقون ومما طاب لهم، وكرهه فرسان البداوة.
لذلك فمن المؤكد أنّ التورية (والتي استخدمتها كما غيري عامداً) لا تخدم فعلياً مشروعاً فكرياً حضارياً قادراً على النهوض بمجتمعاتنا، وليست أكثر من هروب شبه متعمد، حاملةً بنفس الوقت هشاشة الفكر الذي لم يصغ بعد، أو غياب المشروع الفكري النهضوي، وإنّما هي إرهاصات قد يكون لها بعض الأثر المحدود، كما أنّه من المتوجب الاعتراف بمدى ومستوى استلابنا متعدد المناحي، والإقرار بأنّ التنافس بالموروث (الديني أو اليساري) لا يجدي نفعاً، ولا يتجاوز كونه معركة مع دواليب الهواء.
وحتى أكون أشدّ وضوحاً فإنّه من المتوجب القول:
أولاً: بأنّه يجب العمل على تأسيس البنية الوطنيّة المحددة بأطر الجغرافيا والسكان والمؤسسات، أي الدولة الدستوريّة الوطنيّة الناجزة، أي دولة الوطن النهائي ودولة المواطنة البعيدة عن انتماءات العرق أو الدين، المنسجمة مع العالم المعاصر المتغير والمتكامل أو المتصارع ضمن إطار المصالح، والمؤسسة على أساس شرعة حقوق الإنسان.
وثانياً: العلمنة الكاملة ودون مواربات وتلفيقات هنا أو هناك، بحجة العباءة التاريخية أو تركيب المجتمعات أو الحلول التي أبدعتها (تجمعات الإعلانات)، والتي لا تستطيع بكل لبوسها ستر (عورتها) ما خبأته من كونها سلفيّةً شبه طائفية، ومهما وقعّ عليها من الذين اعتبروا أنفسهم سيحصلون على مكاسب باعتبارهم تنويع لا بد منه لقبولهم (جماعة الإعلان) إعلامياً ودولياً، أي أهلاً وسهلاً بحزب إسلاميٍ مهما كان نوعه يقبل بنفس اللحظة أن يرفع شعار (الإسلام هو الحل)، بالتوازي مع حزب آخر يرفع شعاره (الإسلام هو المشكلة)، عندها نقر بأنّ التوفيق التلفيقي له بعض المزايا.
وثالثاً: ضمان الحريّة ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي، بل على المستوى الاجتماعي أيضاً، أي حريّة بمقاس شرعة حقوق الإنسان لا بمقاس الأديان، ولمن يريد الصيد بالماء العكر ندعوه لمراجعةٍ ومقارنة بين المقاسين (أو أنّ كل مقارن ممنوع لدينا على القياس بمنع دراسات الدين المقارن)، مع التنويه إلى أنّ وجود قانون للزواج المدني ليس كافياً، فهو كغيره من القضايا الإشكالية يتوجب أن يكون مادةً دستوريّةً غير قابلة للتعديل.
وفي النهاية فإنّ أيّ هروب من استحقاق ما أو اللجوء إلى المواربة ما هو إلاّ كلام لا يقدّم شيئاً، وأنّ التوفيق التلفيقيّ لا يصلح حتى في الطبخ، وأنّ المستلب لا يجد حلولاً، وعندها لا يبقى إلاّ أن نكرر "ولتناقشوا حتى يورق الصوان".
سوريا- اللاذقية
م. محمد أحمد
[email protected]
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لماذا يركز الجيش الإسرائيلي على الطائفية لوصف مجريات الحرب ف
.. رقعة| أين يقطن المسلمون في أمريكا؟ وكيف يؤثرون على الانتخابا
.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية لا زالت تواجه على المتر الأو
.. مستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال
.. رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية يفتتح مسجد خلود محمد جمع