الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورج طرابيشي : محاولة تأصيل العلمنة

إسكندر منصور

2010 / 10 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان أحد أهداف دعاة العلمانيّة في المشرق العربي تقديم حل للأقليات المسيحيّة في المناطق الناطقة بالعربيّة ذات الأكثريّة الإسلاميّة والتي كان بعضها جزءاً من الدولة العثمانيّة قبل زوالها. إذاً، كانت العلمنة من هذا المنظار خطوة لنزع البعد/الطابع الديني الإسلامي عن مكونات الحكم في الدول العربيّة السائرة نحوالاستقلال عن الدولة العثمانيّة واعتبار المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات على الرغم من انتماءاتهم الدينيّة المتنوعة. لهذا وجدت النزعة العلمانيّة وبعكس دول المغرب العربي أرضاً خصبة في المشرق العربي ذات الحضور المسيحي البارز الذي يعود تاريخه إلى ما قبل الإسلام. ولكن بعكس المفهوم الشائع بأنّ دعاة العلمنة كانوا حصراً من المسيحيين المتأثرين بحركة التنوير الغربيّة كأمثال شبلي الشميّل وسلامة موسى وفرح أنطون وجرجي زيدان وغيرهم الكثيرون، كان هناك فريق من المثقفين المسلمين البارزين من دعاة العلمنة أيضاً كأمثال علي عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم من الكثيرين أيضاً.لقد اعتبر جورج طرابيشي أن العلمنة في مجتمعاتنا ليست فقط ضرورة مسيحيّة كونها أقليّة دينيّة بل أيضاً حاجة إسلاميّة لما هناك من أقليات إسلاميّة كثيرة في العالم العربي كانت ولا تزال عرضة للقمع والقتل والتشريد والاضطهاد، خاصة في ما ذكره طرابيشي ـ مستنداً الى المؤرخ ابن كثير ـ عن التقاتل السني ـ الشيعي عبر التاريخ حتى يومنا هذا. لهذا نجد أن أطروحة طرابيشي عن العلمنة على أنها حاجة إسلاميّة ـ إسلاميّة تستحق النقاش، خاصة أن بعض المفكرين العرب البارزين ـ محمد عابد الجابري على سبيل المثال ـ نفوا الحاجة إلى العلمنة في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة ورأوا الحلّ في الديموقراطيّة والعقلانيّة فقط؛ بينما اكتفى بعضهم بالقول ـ حسن حنفي على سبيل المثال ـ إنّ الإسلام دين علماني وليس بحاجة إلى علمانيّة زائدة.يذكر جورج طرابيشي في "هرطقات: عن الديموقراطيّة العلمانيّة والحداثة والممانعة العربيّة" بأنّ قاتل فرج فوده عندما سأله القاضي "لمَ قتلته؟" فكان الجواب "لأنه علماني" وعندما سأله القاضي "وما معنى علماني" فكان الجواب "لا أعرف".هكذا تبدوالمعرفة، وخاصة معرفة ماهيّة العلمانيّة بالنسبة للقاتل ومشجعيه وللذين أهدروا دماء العلمانيين ليست ضروريّة في هذه المسألة؛ بمعنى أن معرفة تاريخ العلمانيّة وبيئتها وتطورها والقوى الاجتماعيّة والفكريّة التي حملت لواءها على أثر صراع الكنيسة والسلطة السياسيّة في أوروبا الذي امتدّ قروناً وما حملته العلمانيّة من تقدم للمجتمعات الأوروبيّة، لا تغيّر من الحكم عليها شيئاً.غربية العلمانية بالنسبة إلى شريحة واسعة من الإسلاميين تكفي للدلالة على سلبية مهمتها ودورها التخريبي تجاه الإسلام والمسلمين. فبالنسبة الى الإسلاميين بعدما نجحت العلمنة في "نزع" المسيحيّة عن المجتمعات الأوروبيّة وإلغائها كدين وتحولها إلى ثقافة وتراث، جاء دورها في نزع الإسلام عن تربته وأرضه وتراثه وإلغائه كدين فاعل ومؤثر في حياة ومجتمعات معتنقيه.كأنّهم يقولون: إنها (العلمنة) حصان طروادة دخلت أرض الإسلام باسم التقدم والعقلنة والمساواة بين المواطنين والحريّة، وكأنّ هذه القيم والمفاهيم غريبة عن الإسلام وتراثه، من أجل الانقضاض على الإسلام آخر الرسالات. ما تقوم به العلمنة بالنسبة إلى الإسلاميين هومهمة العصر التي ليست سوى إلغاء آخر دين حي ـ كما ألغت المسيحيّة ـ وتحويل الإسلام إلى تاريخ وتراث.يحاول طرابيشي قراءة انتقائية للتراث وللتاريخ الإسلامي. بدأ يفتش في أمهات الكتب ويقرأ الأحداث التي صبغت تاريخ المسلمين علّه يجد ما يروي غليله في أنّ العلمانيّة ليست طائراً غريباً يغرد خارج تاريخ الإسلام، بل طائر أصيل كان حاضراً في قلب الأحداث منذ أن بدأ التاريخ الإسلامي حيث ما هوسياسي من أحداث كان قد تقّدم على ما هوديني. أولاً: يعود طرابيشي بنا إلى أزمة الخلافة والصراع عليها والتي كانت قد بدأت قبل أن يدفن النبي محمد حيث في الوقت الذي كان علي ابن أبي طالب يقوم بغسل النبي محمد كان السباق على الخلافة بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة يدخل في باب "المواجهة والمناورة ويعتمد لغة العنف وسلاح العنف ولا يقيّد نفسه بأيّة اعتبارات دينيّة ولا يحترم حرمة ما كان يفترض فيه أن يكون مقدساً. (هرطقات 23) خاصة في السجال/ "التهديد" الذي دار بين عمر بن الخطّاب والأنصار.ثانياً: بعد أزمة الخلافة الأولى يتطرّق طرابيشي لمسيرة الصراع السياسي ومعارك صفّين والجمل ومجيء الأمويين إلى السلطة وبداية الحكم الوراثي مع يزيد بن معاويّة؛ كما تطرق الى مقتل الحسين حفيد الرسول مع أفراد عائلته والتمثيل بجثته. لم تكن هذه الحوادث بالنسبة إلى طرابيشي سوى دليل قاطع على هيمنة السياسي على الديني أوبلغة أوضح غياب الديني عن مسرح الأحداث لمصلحة السياسي. فإن كانت العلمانيّة تقوم على التمييز بين "الأخرويات والدنيويات، أوبين الدين والسياسة أوبين الخلافة والسلطنة" فبذرتها "أذن موجودة في الإسلام وتاريخ الإسلام وجودها في المسيحيّة وتاريخ المسيحيّة". وما دامت البذرة موجودة في الإسلام فلا خوف على العلمنة والمستقبل لأنّ أرض الإسلام أرض خصبة وكل ما زرع فيها ينبت ويحيا.ثالثاً: فإن كان بعض دارسي الإسلام في الغرب والمفكرين الإسلاميين يرون في ما قاله السيد المسيح "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" أساساً لفكرة انفتاح وقبول المسيحيّة على العلمنة، فطرابيشي في المقابل يعود بنا إلى أحاديث كثيرة تفوق عدداً ما قاله السيد المسيح، ولمرة واحدة يرى فيها انفتاحاً إسلامياً على الفصل بين "الأخرويات والدنيويات" أو"بين الدين والسياسة" أوبين "الخلافة والسلطنة". فمن "أنتم أعلم بأمور دنياكم" و"إذا كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم وإن شيئاً من أمر دينكم فإليّ" و"أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم، وأما آخرتكم فإليَّ" (هرطقات 21) إذاً فالمسألة والنقاش على مستوى النصوص والأحاديث الإسلاميّة تعتبر العلمنة أكثر أصالة من أي مفهوم "غربي" آخر. يحاول طرابيشي ـ بعكس الرأي الشائع والقائل بأنّ الصعوبة لا تكمن في تأصيل الديموقراطيّة ومفهوم الحريّة الشخصيّة وكينونة الإنسان الفرد في التراث الإسلامي بل تكمن في تأصيل العلمانيّة ـ أن يقول إنّ تأصيل العلمانيّة ليس بصعوبة لأنها جزء التراث الإسلامي الحي.رابعاً: تعبير العلمانيّة موجود في التراث العربي ـ الإسلامي. مهمة طرابيشي كانت ولا تزال نزع القداسة عن الوعي الأيديولوجي السائد القائل بأن السلطة الدينيّة والسياسيّة في الإسلام وبعكس المسيحيّة هي واحدة. فمقولة حسن البنا مؤسّس حركة الإخوان المسلمين بأن الإسلام "دين ودولة" أصبحت نصاً مقدساً وجزءاً من الوعي الأيديولوجي السائد الذي يقبل الفرضيّات والمقولات كما هي دون أن يطرح الأسئلة ودون أن يحاول أن ينظر إليها بمنظار التحليل والدراسة والتمحيص. "فأعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله" بالنسبة إلى طرابيشي أعيد الاعتبار إليها بعدما دخلت العلمانيّة المجتمع الأوروبي كنتيجة للحداثة الأوروبيّة وليس العكس. السؤال إذاً إذا كان طرابيشي يقارن بين المجتمعات العربيّة والأوروبيّة حيث دخلت العلمانيّة المجتمعات الأوروبيّة دون أي دور لمقولة "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، لماذا يحاول طرابيشي نبش التراث الفكري والسياسي للإسلام ليقدم البرهان على أن العلمانيّة تجد جذورها في التراث السياسي الإسلامي. وكأنّ مفاهيم الحاضر كالعلمانيّة بنظره بحاجة لشرعيّة مستمدة دوما من الأمس. فالحاضر لا يقف على أرض صلبة إن لم تكن رجلاه في الماضي؛ أوكما ذكر طرابيشي في إحدى مقابلاته بأنّ أهميّة العلمنة كونها نبتة جذورها عميقة في أرض الإسلام. فإن كان "أعطِ ما لقيصر لقيصر …. اعتبرت أساس انفتاح المسيحيّة على العلمنة فالإسلام أغنى تراثا ودليلاً على علمانيته". وأخيراً لا يزال طرابيشي يحمل لواء العلمنة ويطرق بها الأبواب لإنقاذ ما بقي من أمل للشعوب العربيّة والإسلاميّة للخروج من المستنقع والسير نحوالتقدم والحداثة. فالتقدم والحداثة ودولة القانون والفرد الحر والنقابات الحرة وهيئات المجتمع المدني والخروج من بؤر الحروب الأهليّة والممارسة السياسيّة السلمية والسليمة، كلها بحاجة إلى علمنة تشق لها الطريق وتحتضنها. إذاً تستمد العلمنة شرعيتها من الواقع الحاضر أوقل من المستقبل المنشود لا من الماضي والتراث. ماذا لولم تكن العلمانيّة فسحة في سجل الماضي والتراث؟ هل نرفض كل ما ليس موجودا في التراث ونقبل ونشرعِن كل ما له صلة معه. هل أصبح الماضي هوالحكم وحكمه مبرماً؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحليل رأئع
محمود يوسف بكير- مستشار إقتصادي ( 2010 / 10 / 16 - 20:15 )
شكرا أستاذ أسكندر على مقالك الرائع

اخر الافلام

.. لماذا| ما أثر قانون -مكافحة الانفصالية الإسلامية- على المسلم


.. -السيد رئيسي قال أنه في حال استمرار الإبادة في غزة فإن على ا




.. 251-Al-Baqarah


.. 252-Al-Baqarah




.. 253-Al-Baqarah